الغذاء والتغذية > رحلة الغذاء

اشكروا الجراثيم على الأجبان الشهية!

استمع على ساوندكلاود 🎧

قد يعتقد العديد من الأشخاص أن الجبنةَ غذاءٌ معقّدُ التركيب، ولكنّها ليست كذلك في الواقع، فهي لا تتعدّى كونَها حليباً بدون ماء! بروتيناتٌ ودهونٌ مركّزةٌ.. ولكنّ عددَ أنواعِ الجبنِ الّتي يتمُّ تصنيعُها في مختلفِ أنحاءِ العالمِ ليسَ بالقليل.. ولا نحتاجُ لذلك إلا لمكوناتٍ بسيطة، هي الحليب، والإنزيمات، والملح.. والجراثيم! فما هو دورُها في صناعةِ الجبن؟

تقومُ جراثيم حمضِ اللبن (أو حمض اللّاكتيك) والّتي تُضافُ إلى الحليبِ أو تتواجدُ فيه مسبقاً بتخميرِ سكّرِ اللّاكتوز الموجودِ في الحليبِ إلى حمضِ اللبن، ممّا يجعلُ الحليبَ حامضيَّ التّفاعل، الأمرُ الذي يعمل بدورِه على تقليلِ قوى التّنافرِ بين بروتينات الحليب، وهي تلك القوى الهامّة التي تبديها البروتيناتُ فيما بينها لتُبقي الحليبَ بحالةٍ سائلة. وهذا يعني أن غياب قوى التنافر سيؤدي حكماً إلى التصاقِ هذه البروتيناتِ ببعضها البعضِ، فتتشكّل تلك الخثرة التي ستصبحُ جبناَ شهياً فيما بعد، وتنفصل سابحةً في مادّةٍ سائلةٍ هي مصلُ الحليب (أو مصلُ اللّبن).

تُجفّفُ الخثرةُ وتُضغط للتخلص من أكبرِ قدرٍ ممكنٍ من المياه، وهنا، وفي هذه المرحلة بالذات، تُضاف أحياناً بعضُ أنواعِ الجراثيم والأحياء الدقيقة للحصولِ على درجةٍ محدّدةٍ من التخمير.

تُقسم جراثيم حمض اللبن، والتي تستخدم كثيراً في عملياتِ التصنيع الغذائي، إلى قسمين، وذلك حسبَ الشكل الخارجي لخلاياها، فهناكَ الجراثيم الكرويّةَ (وتُدعى(Lactococci ، والجراثيم العصويّةَ (وتُدعى Lactobacilli)، ويدخل كلا النوعَين في صناعةِ المخللات، وبعض أنواعِ العجائن الحامضية Sour dough، والبيرة، إلى جانب الأجبان طبعاً.

من جهةٍ أخرى، لدينا جراثيم Propionobacter shermanii، وهي السبب في حدوث الثقوب الشهيرة التي نراها في مسلسل الأطفال "توم وجيري".. عذراً، نقصد تلك التي نراها في الجبن السويسري. تحوّلُ هذه الجراثيم حمض الخلّ (أو حمضَ الأسيتيك) إلى حمضِ البروبيونيك، فتطلقُ فقاعاتِ غازِ ثنائي أوكسيدِ الكربون التي تُشكّل الثقوبَ المذكورةَ في الجبن. ويُذكر أن هذا النوع من الجراثيم يعتبر شديد الأهمية لجهانا الهضميّ، فهو يُصنّف مع جراثيم حمضِ اللبن ضمن مجموعةِ الجراثيم المفيدة والتي تُعرف باسم Probiotics، فتساهمُ في تحسين أداء الدهاز الهضمي، وتساعد في الوقايةِ من سرطانِ القولون.

هل ينحصرُ الفضل للجراثيم الصديقة هذه؟ بالطبع لا! فلا يمكن أن نتجاهل ولو للحظة فضلَ الفطريّات في الكثير من الأجبان الشهيرة!

فمن منّا لم يشاهد ألواحَ الجبن التي تحتوي بداخلها عروقاً خضراءَ مُزرقّةً؟! تلك نتائجُ وجودِ فطرِ العفنِ الأزرق Penicillium roqueforti وPenicillium glaucum، إذ يعمل هذان النوعان على منحِ الجبنِ الأزرقِ لونَهُ ونكهتَه الممميزة، فتلكَ الخطوطُ الزّرقاءُ الّتي نراها في الجبنِ الأزرقِ ماهي إلّا نمواتٌ من العفن تمكّنت من أن تشقّ طريقها بين بروتينات الجبن بفضلِ قدرتِها الشديدة على تحمّل نقص الأوكسجين داخل كتلةِ الجبن الكتيمة. ولكن ليس عليكم أن تخشو وجود هذا الفطر في أجبانكم، ولا فهو من الأحياء الدقيقة المفيدة للإنسان، إذ يستخدم لإنتاجِ مضاداتٍ حيويّة تُسهمُ يومياً في خدمةِ البشرية عبر دورِها في مقاومةِ الأمراض.

لماذا تصدرُ رائحةٌ كريهة من بعضِ أنواع الأجبانِ ؟

يعودُ ذلك لوجودِ جراثيم Brevibacter linens التي تعملُ على تحطيمِ البروتيناتِ في الجبن، فتنبعثُ منه روائحُ شبيهةٌ بالثّومِ والسّمكِ، وذلك طبعاً نتيجةَ انطلاقِ غازاتٍ ومركباتٍ كبريتية كريهةِ الرائحة. ويجدرُ بنا عدم تركِ الأجبان معرّضةً للهواءِ الطلق، إذ يمكن لتلك الروائح أن تجذب الحشرات إليها، وخاصةً البعوض.

نأمل أن يكون هذا المقال قد حمل إليكم قسطاً – ولو بسيطاً – من رحلةِ صناعةِ الأجبان والأحياء المشاركةِ في ذلك. وتبقى هناك الكثير من المفاجآت التي تخبئها الأغذية حولنا، ولكنّنا غالباً ما نكون غافلين عن أسرارها وجمالِ تركيبها ولا نهتم إلا بطعمِها الشهي.. ولذلك علينا أن نهتمّ بها قليلاً، ونتعرّف جاهدينَ على هذا العالم الدقيق من حولنا، فلولا تلك الجراثيم، لم تمكنّا من الاستمتاع بالكثير من الأطعمة التي نتناولها بشكل يوميّ!

المصدر:

هنا

هنا

هنا