البيولوجيا والتطوّر > علم الجينات

قريب منقرض ثالث للإنسان الحديث يلوح في الأفق

تُشكّلُ جزرُ جنوبِ المحيطِ الهادي القريبةُ من أستراليا، والّتي تتمثَّلُ بعدّةِ جزرٍ (تشملُ: فانواتو وجزرِ سليمان وفيجي وبابوا غينيا الجديدة وكاليدونيا الجديدة وغرب بابوا وجزرِ الملوك) لغزًا حيويًّا تطوّريًّا هامًّا، فالأبحاثُ الّتي ما زالت تُجرى على السّكّانِ الأصليّينَ في تلكَ الجزر، تُظهرُ نتائجَ مختلفةً عمّا تظهرهُ نتائجُ الأبحاثِ في أماكنَ أخرى، إذ أظهرت نتائجُ الأبحاثِ الأخيرةِ أنّ سكّانَ هذه الجزر، يحملون أجزاءً وراثيّةً من الـ DNA ربّما تعودُ لنوعٍ بشريٍّ منقرضٍ ثالثٍ.

فلقد حُدِّدَت بالفعل أجزاءٌ من الـ DNA ربّما تعودُ لنوعٍ منقرضٍ ثالثٍ من البشر، ضمن الحمض النّوويِّ للميلانزيين (السّكّانُ الأصليّونَ لجزر جنوب المحيط الهادي)، وبناءً على نماذج الدّراسة الحديثة، لم يستبعد العلماءُ وجودَ قريبٍ ثالثٍ ما زالَ غير معروفٍ حتّى الآن، إضافةً للنّوعَين نياندرتال ودينسوفان ( وهما نوعان قديمان قد عُثِرَ على آثارهما في السّجلِ الأحفوريّ).

يقول (رايان بولندر Rayan Bohlender) عالم الوراثةِ في جامعةِ تكساس، هناك مجموعةٌ مفقودةٌ من السّكّان، أو أنّنا نُخطئ في فهم العلاقاتِ الّتي أدّت إلى ظهورِ الإنسان الحديث.

وكان (بولندر) قد حقّقَ هو وفريقه في نِسَبِ الأجزاءِ الوراثيّةِ الّتي تعودُ لأنواعٍ منقرضةٍ، ولكن ما زالَ يحملها الإنسانُ الحديث في مادّته الوراثيّةِ إلى يومنا هذا.

وحملت النّتائجُ تناقضاتٍ في تحليلاتِ الأبحاثِ السّابقةِ، والّتي كانت قد أشارت إلى اختلاطِ سُلالاتِ الإنسانِ الحديثِ مع سُلالاتٍ أخرى تعود للنّياندرتال والدّينسوفان، وعلى ما يبدو أنّ هذا الاختلاط لا يحملُ إجاباتٍ لكلِّ الأسئلة.

وهنا تبرزُ بعض الملاحظاتِ العلميّة، فالاعتقادُ السّائدُ حاليًّا هو حدوث هجرةٍ لأسلافنا القدماء ما بين 60.000 إلى 100.000 سنة خلت من أفريقيا، وحصول أوّلِ اتصالٍ لها مع الأنواعِ الأخرى الّتي كانت تعيش على اليابسة الأوراسيّة ( آسيا وأوروبا)، وترَكَ هذا الاتّصالُ علامةً على الأنواعِ الّتي لا تزالُ موجودةً حتّى اليوم، فالأوروبيّون والآسيويّون يحملون أجزاءً وراثيّةً مميّزةً من DNA النّياندرتال في مادّتهم الوراثيّةِ، ولا يقف الموضوع عند هذا الحدِّ ففي وقتٍ سابقٍ، درسَ الباحثون بعضَ المتغيّراتِ الوراثيّةِ الّتي ورثها النّاس من أصلٍ أوروبيًّ من النّياندرتال، ووجدوا أنّها ترتبط مع العديدِ من المشاكلِ الصّحيّةِ بما في ذلك زيادةِ خطرِ الإصابةِ بالاكتئاب، والنّوباتِ القلبيّةِ، وعددٍ من اضطراباتِ الجلد، كما وجدت دراسةٌ منفصلةٌ نُشرت سابقًا، أدلّةً على أنّ الثّآليل التّناسليّةَ والّتي يُسبّبها مايعرف باِسم فيروسِ الورمِ الحليميّ البشريّ HPV، تمَّ نقلُها جنسيًّا للنّوع Homo sapiens (الإنسان الحديث) بعد تواصلها مع أنواعِ النّياندرتال والدّينسوفان بمجرّدِ مغادرتهم أفريقيا.

وفي حين أنَّ علاقتنا مع النّياندرتال دُرِست على نطاقٍ واسعٍ، ما زالت علاقتُنا مع الدّينسوفان (وهو نوعٌ بعيدُ القربى ويُعتبَر أكثرَ بدائيّةً ) أقلَّ وضوحًا، والمشكلةُ تكمن في أنَّ أفرادَ النّياندرتال ممثّلونَ بشكلٍ جيّدٍ في السّجلِّ الأحفوريِّ، فقد اكتُشف العديدُ منهم في أوروبا وآسيا ولكن كلُّ ما لدينا من أحافيرِ الدّينسوفان هو عظمُ إصبعٍ وحيدٍ واثنينِ من الأسنانِ عُثرَ عليها في كهفٍ في سيبيريا عام 2008.

وباستخدامِ برامجَ حديثةٍ تُطبّقُ على الكومبيوتر، حُدِّدت كميّةُ المادّةِ الوراثيّةِ القادمةِ من كلٍّ من النّياندرتال والدّينسوفان في DNA الإنسانِ الحديث، وقد وجدَ (بولندر) أنّ الأوروبيّين والصّينيّن يحملون كميّةً متماثلةً من الحمضِ النّوويِّ للنّياندرتال وهي حوالي 2.8 بالمئة، وهي كميّةٌ مشابهةٌ للدّراساتِ السّابقةِ الّتي قدّرت أنّ الأوروبيّينَ والآسيويّين يحملون بشكلٍ متوسّطٍ ما نسبته 1.5- 4 بالمئة من الحمضِ النّوويِّ العائدِ للنّياندرتال.

ولكنّ الأمور تصبحُ أكثرَ تعقيدًا عند الحديثِ عن نسبة DNA العائدةِ للدّينسوفان، وخاصةً عندما يتعلّقُ الأمرُ بالسّكّان الحاليّينَ الذين يعيشون في ميلانيزيا (جزر جنوب المحيط الهادي).

يقول (بولندر) ليس عند الأوروبيّينَ أيّةُ إشارةٍ وراثيّةٍ تدلُّ على اتّصالهم مع الدّينسوفان، أمّا الصّينيّينَ فلديهم إشاراتٍ لكميّاتٍ ضئيلةٍ تُقدَّرُ نسبتها بـ 0.1 بالمئة.

ولكن 2.74 بالمئة من الحمض النّوويِّ لدى سكان جزر جنوب المحيط الهادي تأتي من النّياندرتال و1.11 بالمئة تعودُ للدّينسوفان وليس كما يُقدّرها باحثونَ آخرون بنسبةِ 3-6 بالمئة.

وأثناء البحث في تناقض الأرقامِ السّابق توصَّلَ (بولندر) إلى استنتاجٍ مفاده: أنَّه ربّما كان هناكَ مجموعةٌ ثالثةٌ تواصلت وتكاثرت مع أسلافِ الميلانيزيّين، ويضيفُ بأنَّ التّاريخَ الإنسانيَّ أكثرُ تعقيدًا ممّا كنّا نعتقد.

ويقدّم هذا البحثُ أيضًا دراسةً منفصلةً أجراها باحثونَ في متحف التّاريخِ الطّبيعيِّ في الدّنمارك، إذ قاموا بتحليلِ الحمضِ النّوويّ لمايقارب 83% من السّكّانِ الأصليّينَ الأستراليّينَ و25% للسّكّانِ المحليّين من مرتفعات بابوغينيا الجديدة.

وكما جاء في التّقريرِ السّابق فقد اعتُبرت هذه الدّراسةُ الجينيّةُ هي الأكثرُ شمولًا للسّكّانِ الأصليّينَ الأستراليّين حتّى الآن، وأشارت إلى أنّها أقدمُ حضارةٍ متواصلةٍ ما زالت على الأرضِ حتّى الآن، إذ يعود تاريخها إلى أكثرِ من 50.000 سنةٍ مضت.

ولكن النّتائجَ كشفت شيئًا آخر وهو أنَّ الحمضَ النّوويَّ الّذي كان مشابهًا جدًّا للحمضِ النّوويِّ للدّينسوفان ولكنّه على مقدارٍ كافٍ من الاختلافِ ليستطيعَ الباحثونَ تمييزه، وأن يقترحوا بناءً عليه وجودَ قريبٍ ثالثٍ للإنسانِ الحديث لم يتم تحديدُهُ أو التّعرّفُ عليه بعدْ جاءت منه هذه المورّثات، ولكي يكون لدينا المزيدَ من الأدلّةِ الملموسةِ على هذا النّوعِ الثّالث المنقرضِ، كوجودِ الآحافيرِ الّتي ستعتبَرُ شيئًا جيّدًا جدًّا، وبالتّالي وحتّى ذلكَ الحين لا يمكن أن نُثبتَ شيئًا، ويجب أن نشير إلى أنَّ تقديراتِ (بولندر) لم تُراجَع رسميًّا ويمكن أن تخضعَ لمزيدٍ من التّدقيقِ.

كما أنّه من الممكنِ أن يكونَ تعريفنا للحمضِ النّوويِّ للدّينسوفان هو أكثرُ غموضًا ممّا نعتقدُ لأنَّ مصدرنا الوحيد هو عظمُ الإصبعِ وزوجٌ من الأسنان.

ولكنَّ الأدلةَ حولَ أنَّ تفاعلنا مع البشرِ القدامى كان أكثرَ تعقيدًا ممّا نعتقدُ، قد تزايدَ ولا ينبغي لهذا أن يكونَ مفاجأةً كبيرةً لنا، وعدمُ قدرتنا على الحصولِ على شيءٍ ملموسٍ في السّجلِّ الأحفوريِّ، لا يعني أنّهم لم يكونوا موجودين، فالحفاظُ على بقايا شيءٍ ما لعشراتِ الآلافِ من السنينَ ليس بالأمرِ السّهل، وربّما يحتاجُ الموضوعُ للتّنقيبِ في المكانِ المناسب من قبلِ شخصٍ مناسبٍ للحصولِ على هذه الآحافيرِ المقتَرَحَةِ.

ونأملُ من هذه الأبحاثِ والدّراساتِ أن نحقّقَ المزيدَ من المعرفةِ، للتكوينِ الجينيِّ الّذي بُنيَ من المجتمعاتِ القديمةِ، وبمزيدٍ من الملاحظاتِ سنحصلُ على تاريخٍ غنيٍّ ومعقّدٍ لتلكَ الأنواعِ الّتي تشاركْنَا معها ولكنّها لم تستطع الاستمرارَ حتّى يومِنا هذا.

المصادر:

هنا

هنا

هنا