الفيزياء والفلك > علم الفلك

شرح الأمواج الثقالية لمن لم يفهمها

استمع على ساوندكلاود 🎧

الأمواج الثقالية Gravitational waves هي اضطراباتٌ في نسيجِ الزمكان. لعلّلكَ سمعت هذه العبارة مراراً وتكراراً، لكن ما هو نسيجُ الزمكان وما هي هذه الأمواج الثقاليّة؟

دعونا أولاً نحاوِلُ تصوّرَ نسيجٍ الزمكان بدايةً بتخيّل أنّهُ ملاءةُ سرير! إنّ وضع كرةٍ صغيرة على سطح ملاءة السرير لا يُغيّر شكلها كثيرً، وإذا مرّرت كراتٍ أخرى بالقرب منها فإنها لن تتأثر كثيرًا بوجود الكرةِ الصغيرة. ولكن إذا وضعت جسمًا أكبر وأثقل على سطح الملاءة فإنّ ذلك سيشوّه شكلها العام أكثر بكثير. فإذا مرّرت كرات صغيرة بالقرب من الحفرةِ الّتي صنعها الجسم الثقيل على الملاءة فإنّ الكرات الصغيرة ستتأثر وقد تتهاوى داخل هذه الحفرة.

هكذا تعمل الجاذبية، نعم!

لا تجذب الأشياء بعضها البعض ولكنها في الحقيقة تتبعُ انحناء نسيج الزمكان، الّذي ينشأُ بتأثيرِ الأجسام الكونيّة الأكبر كتلةً. فالأرض مثلًا تنجذب إلى الشمس بسبب بئر الجاذبية الّذي تشكلهُ في نسيج الزمكان.

الآن دعونا نبدّل الأمور قليلًا، ولنتخيّل أنّ نسيج الزمكان هو بركةٌ من الماء عوضًا عن الملاءة، فإذا قُمتَ بِنقلِ جسمٍ ما عبر مياهِ هذه البركة فإن هذا سيُسبِبُ تموّجاتٍ في المياه. يحدُثُ سيناريو مُماثِل عِندما تتحرك الأجرام الكونية الكبيرة في أنحاء الكون، إذ تؤدي حركتها إلى حدوثِ ضطراباتٍ في نسيج الزمكان تُسمّى الأمواج الثقاليّة Gravitational waves، وكلّما كانت كتلة الجرم الكونيّ أكبر، كلّما ازداد الاضطراب الّذي يُحدثه في نسيج الزمكان، وبالتالي ازدادت جاذبيّته.

عرفَ العُلماء بوجود الأمواج الثقالية، وقد تنبأ الفيزيائي اللامع أينشتاين بوجودها قبل نحو مئة عام، ولكن لم يتسنّى للعُلماء إثبات وجودها في الواقع، إلى أن تمكّن مرصدُ التداخل LIGOمِن رصدها!

يُفتَرَض أن تُنتِج هذه الأمواج عن حركَةُ كلّ جُرمٍ في الكون ولكنها عادةً ما تكون ضعيفةً جدًا، لذلك قرّر الباحثون في مرصَد ليغو LIGO، البحث عن حدثٍ يولّدُ أمواجًا ثقالية كبيرة بما فيه الكفاية ليتمكنوا من رصدها، لذلك وجهوا أنظارهم إلى الثقوب السوداء، لأنها تعتبر من ضمن أعظم الأجرام السماويّة كتلةً، وتمتلك جاذبيّةً كبيرةً جدًا تولّد أثرًا بالغًا في نسيج الزمكان. راقب العُلماء حدثَ اندماجِ ثُقبين أسودين فائقِي الكثافة في مكانٍ بعيدٍ جدًا من الكون، حيثً يفترض أن تتولّد أمواج ثقاليّة هائِلة يُمكِنُ لِمرصدِ ليغو LIGO التِقاطُها.

كيف تمكّن العلماء من رصد الأمواج الثقاليّة؟

تبدو كل مُنشأةٍ من منشآت ليغو على هيئةِ حرف L عملاق تتألفُ كل ذراعٍ من أذرعه من أنابيب مفرغة تمامًا Vacuum Sealed وتمتدُّ نحوَ 2.5 ميل. وفي نهايَةِ كلّ ذراعٍ من أذرع المنشأة توجد مرآة. عندما تمرُّ بالأرض موجةٌ ثقاليّة، فإنها تخلقُ اضطرابًا في نسيج الزمكان مما يبدّل المسافةَ الى المرآتين ويجعل أحدهما أقربَ مِن الأخرى، مثلما يوضح الرسم المتحرّك

لللتأكد من أنّ المسافة الى كل من المرآتين هي ذاتُها، يمرّر العُلماء أشعةٍ ليزريّة الى كلّ من المرآتين، ومن ثمّ يقومون بقياس الوقتِ الّذي تستغرقُه هذه الأشعة لِترتدّ عن كلٍّ منهما، في الحالات الطبيعيّة يجب أن يكون الوقت متساويًا بالنسبة للمرآتين. لكن عندما تضرب موجةُ ثقاليّة الأرض فإن المسافة تتغيّر وبالتالي يتغير الزمن اللازم لعودة أشعة الليزر من إحدى المرآتين.

ما هو مقدار هذا التأثير؟

تؤثّر الأمواج الثقاليّة في معدّات الرّصد بنسبة 1/1000 جزء من حجم البروتون فقط! وهذا يعني أنّ قياسَ تغييّرٍ مثل هذا هو أمرٌ صعبٌ جدًا ويحتمِلُ الخطأ. ففي عام 2014 أعلنَ باحثونَ أنّهم وَجدوا أدِلةً عَلى وجود أمواج ثقاليّة، لكن اتضحَ في وقتٍ لاحق أنّه إنذارٌ خاطئ. ولكن مع ذلك راهن العُلماء على وجود الأمواج الثقاليّة، واستمروا في رصدها آملين أن يتمكنوا من العثور عليها.

تحقق حلمُ العُلماء، وانتصرت النسبيّة! إذ نجَحَ مَرصَدُ LIGO في اكتشاف موجةٍ ثقاليّة للمرّة الأولى في أيلول 2015، وذلك بعدَ إجراءِ مجموعةٍ من التّحديثاتِ في مَعداتِه. أما الرصد الثّاني فكان في كانون الأوّل 2015، بينما حدثَ الرصد الثّالثّ (المُسمّى GW170104) في 4 كانون الثّاني عام 2017، أما الرصد الرابع فقد حدث في الرابع عشر من آب 2017.

وفي الحالات الأربعة التقط LIGO تموّجاتٍ في نسيج الزمكان ناتِجةً عن اندماجِ زوجٍ من الثُقوب السوداء.

لماذا نهتم بأمواج الجاذبيّة هذه؟

إنّ هذا الاكتشاف مهم جدًا، إنّه بمثابة اختراع التلسكوب للمرة الأولى، فهو يفتحُ لنا نافذةً جديدة لنرى منها الكون. فإذا مكننا كل مرصد وتلسكوب في تاريخ الإنسانية من أن نرى الكون، فإن ليغو تسمح لنا الآن بسماعه، ولم يسمع أحد من قبل الكون بهذه الطريقة من قبل. تخيل أن تكتسب فجأة حاسّة جديدة تدرك بها العالم من حولك، تعطيك القدرة على اكتشاف نوع مختلف تماما من المعلومات، هذا ما أعطتنا إياه الأمواج الثقاليّة.

كل المراصد أو التلسكوبات التي تدرس الكون، تعتمد بشكلٍ أساسيّ على جمع الضوء الصادر عن الأجرام الفضائية. ويأتي الضوء في أشكالٍ متعددة مثل الأشعة السينية، أشعة غاما، الضوء المرئي وموجات الراديو، إذ تصدر الأجسام المختلفة موجات مختلفة من الضوء. على سبيل المثال ينتج جسم الإنسان حرارة كافية ليشعّ منهُ ضوءٌ على شكل أشعّة تحت حمراء infrared light، ولكن جسمًا ساخنًا مثل الموقد سيُشعّ منه ضوء مرئيّ.

اعتمادًا على نفس المبدأ وبالنظر إلى الكون في أطوال موجيّة مختلفة من الضوء نكتشف أجرامًا مختلفة وعملياتٍ مختلفة.

حسنا، ولكن ماذا لو كنت تريد أن تبحث عن جرمٍ في الفضاء لا يشعُ الضوء؟

الثقوب السوداء تسمى الثقوب السوداء لأن لديها جاذبية قوية جدًا حتى أنّ الضوء لا يمكنه الإفلات منها. ونتيجة لذلك، فإنّ الثقوب السوداء تُمثّل عادة في الصور والرسوم التوضيحية على أنّها كُرات سوداء كبيرة في الفضاء، لأنها لا تُصدر الضوء؛ لكن بالرّغم من هذا هناك طرق أخرى "لرؤية" الثقوب السوداء. على سبيل المثال، أحيانا تشعّ المواد المحيطة بالثقب الأسود ضوءًا،ما يمكّن العُلماء من التقاط صورة واحدة لهذه الوحوش الكونيّة.

من الممكن أيضا للكشف عن ثقب أسود من خلال ملاحظة تأثير جاذبيته على الأشياء من حوله، ولكن بالنسبة إلى الثقوب السوداء التي اكتشفها ليغو، والّتي تبلغ كتلتها بين 10 و 100 مرة من كتلة الشمس، فإنّ الأمواج الثقاليّة الناتجة عن دورانها حول بعضها البعض قويّة لدرجة أنها تُبعِد أيّة مواد حول هذه الثقوب السوداء تمكننا من رؤيتها أو رؤية تأثير جاذبيّة الثقوب السوداء عليها؛ ما يعني أنه لا يمكننا أن نرى الثقوب السوداء بالطرق التقليدية، لكننا اليوم بإمكاننا رصد أمواج الجاذبيّة الّتي تُحدثها في نسيج الزمكان. نعم، لقد تمكّن مرصد ليغو من رؤية ما لم يتمكن مرصد آخر من رؤيته، لذلك يمكننا القول بأنّ ما يقوم به هذا المرصد هو بداية حقبة جديدة من الفيزياء الفلكية.

تجدر الإشارة إلى أنّ ليغو سيركّز جهوده على دراسة العديد من الأمور الأخرى، بما في ذلك النجوم المتفجرة (المستعرات العظمى) والاندماج بين النجوم النيوترونية، وغيرها.

و أخيراً استحق هذا الانجاز 'رصد الأمواج الثقالية' على جائزة نوبل في الفيزياء للعام 2017 ، حيث حصل كل من كيب ثورن ، وباري باريش و رينر وايس على جائزة نوبل مناصفة لاسهامهم في تحقيق هذا الإنجاز الرائع، فقد ترأسوا أكثر من 1000 عالمٍ على مدى عقودٍ، من أجل جمع وتحليل وتحسين أجهزة الكشف.

تحديث (الموجة الثقاليّة الخامسة)

على بعدِ نحو 130 مليونَ سنةٍ ضوئيّة، اصطدمتْ كرتانِ كثيفتانِ جدًا منَ المادّة ببعضهما البعض. هاتانِ الكرتان ُهما نجمانِ نيوترونيّان اندمجا في حدثٍ كونيٍّ متفجّرٍ مسببينِ تموجاً في نسيجِ الزمكان يُسمّى "الأمواج الثقاليّة".

في 17 أغسطس من هذا العام 2017، وصلتْ هذه الأمواجُ الثقاليُّة إلى الأرض. و رصدها الباحثون في مرصديّ ليغو في لويزيانا وواشنطن، فأصبحتْ الموجةَ الثقاليّةَ الخامسة التي يكتشفها البشر حتّى الآن! إلّا أن هذهِ الموجة كانتْ مختلفةً عن الموجاتِ الثقاليّة الأربعةِ السابقة. أولًا، كانت هذه أولَ موجةٍ ثقاليّةٍ ناتجةٍ عن اندماجِ نجومٍِ نيوترونيّة، إذ إنّ جميعَ الأمواجِ الثقاليّة الّتي رصدها العلماء سابِقًا نتجتْ عن اندماجِ الثّقوبِ السّوداء. والأجمل من ذلك أنّه ولأولِ مرّةٍ يَطلبُ مرصدُ ليغو ومرصدُ فيرجو الدّعم من مجموعةٍ من التلسكوبات منها تلسكوب هابل الفضائيّ والمقراب الأوروبي الكبير. فبعدَ دقائق من رصدِ إشارةِ الأمواجِ الثقاليّة، طلب المرصدُ منهم أن يقوموا بتوجيهِ التلسكوبات نحو المكان الّذي صدرت منه الإشارة.

وبشكلٍ جماعي، تمكّنَ نحو 70 مرصد من رؤيةِ الحدثِ الفلكيّ ملتقطين أشكالًا مختلفةً من الضوء: الأشعة السينيّة والأشعة فوق البنفسجيةِ والبصرية والأشعة تحت الحمراء والراديويّة. وبالجمعِ بين بياناتِ الصّور الّتي التقطتها التلسكوبات مع إشارة الموجة الثقاليّة، تمكّنوا من تحديد موقِعِ الحَدث، وتحديدِ أنّه نشأَ عن زوجٍ مندمجٍ من النّجومِ النيوترونيّة، وللمرّةِ الأولى في التاريخ تمكّنوا من وصفِ حدثٍ كونيّ اعتمادًا على إشارةِ الموجةِ الثّقاليّةِ الصادرةِ عنه إضافةً إلى الضوء الصادر منه وكأنّهم أدركوه بحاسّتين معًا عِوضًا عن حاسّةٍ واحدة.

المصادر:

هنا

هنا

هنا