الفيزياء والفلك > علم الفلك

أين اختفت النجوم؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

التّحدي الأكبر للفلكيّين

على ارتفاع أكثر من 1700 مترًا على جبال سان جابرييل، يقع مرصد "ماونت ويلسون" وهو من أهمِّ المراصد الّتي لعبت دورًا تاريخيًّا في عِلم الفلك. أُسّس عام 1904 وكان لمرّتَين أكبرَ تلسكوبٍ في العالم، أوّلَ مرّةٍ عندما كانت مرآته 60 إنشًا، والمرّة الثّانيّة عام 1917 عندما استُبدلت مرآتُه بمرآةٍ 100 إنشٍ. واستخدمه الفلكيُّ إيدوين هابل عامَ 1929 ليُحدِثَ ثورةً في نظرتِنا للكونِ عندما اكتشف أنّ كوننا يتمدّد.

وبتغيّثرِ الحياةِ، أخذت مدينةُ لوس أنجلوس تكبرُ وتزدادُ ازدحامًا، واكتظّت سماؤها بالأنوار، وهو ما يُعرَفُ بالتّلوثِ الضّوئيِّ. إذ طغت أنوارُ المدينةِ السّاطعةِ على فوتوناتِ الضّوءِ الخافتةِ القادمةِ من الأجسامِ السّماويّةِ البعيدةِ جدًّا في الكون، ممّا جعلَ من رؤيتها أمرًا مُستحيلًا.

فتخلّت عائلةُ كارنيجي المالكةُ للمرصدِ عامَ 1983 عن مرصدِها "ماونت ويلسون" وتوجّهت لبناءِ تلسكوباتٍ في تشيلي. فقد تبيّن لهم أنّهم إذا أرادوا الحصولَ على بياناتٍ دقيقةٍ وتحقيقَ اكتشافاتٍ عظيمةٍ في علم الفلك، فلا بدَّ لهم من الذّهاب إلى مكانٍ مُظلمٍ بعيدًا عن ضوضاءِ المدن الكُبيرة.

التّلوثُ الضّوئيُّ ليسَ مُشكلةً للفلكيّين فقط، هو أيضًا مضرٌّ بالحياةِ البريّة، ويُسبّبُ الأمراضَ للإنسان، عدا عن أنّه هدرٌ للطّاقة. لذلكَ طالبَ الفلكيّون بدورهِم الحكوماتِ باتّخاذِ إجراءاتٍ لتحسينِ أنظمةِ الإنارةِ ومنعِ تسليطِها نحو السّماء. فغيّرت العديد من المدنِ أنظمةَ إنارتها من مصابيحِ الصّوديوم إلى الدّايود الّذي يعملُ بنظامِ LED المتميّز بأنّه يوفّر الطّاقةَ والكلفةَ ويُفيد البيئة.

تمتلك مصابيح LED ألوانًا مختلفةً، بحسب درجة حرارتها، ويُعدُّ اللّونُ الأزرقُ الأشدَّ حرارةً. كما تُعدّ صناعةُ هذه المصابيحِ بالغةَ الأهميّةِ حيثُ كُرّمِ المُطوّرونَ لنظامِ LED ذي الكفاءةِ العاليّةِ بجائزةِ نوبل في الفيزياءِ عام 2014.

يُعدُّ اللّوُ الأزرقُ أكثرَ الألوانِ تشتّتاً – وهو ما يفسّرُ لونَ السّماءِ الأزرقِ خلالَ النّهارِ- ممّا يسبّبُ مشكلةً بالنّسبِة للفلكيّين. فقد بيّنت الدّراساتُ أنّ الضّوءَ الأزرقَ يُسبّبُ ضررًا صحيًّا أكبرَ من ضّررِ الألوانِ الأكثرِ دفئًا الأخرى، مثل اضطراباتِ السّاعةِ البيولوجيّةِ الّتي تؤدّي إلى حصولِ اضطراباتٍ في النّومِ والوظائفِ الحيويّة، ما زاد المطالبَ بتخفيفِ تلوّثِ الضّوءِ الأزرق.

وفي شهر كانون الثّاني عُقد مؤتمرٌ سنويٌّ للمجتمعِ الأمريكيّ الفلكيّ، وقدّمَ الفلكيُّ جون بارينتين- وهو رئيسُ منظّمةٍ غيرِ ربحيّةٍ تُسمّى(IDA) International Dark-Sky Association أُسّسَت عامَ 1988 للقضاءِ على التّلوّثِ الضّوئيّ - قصصًا وأمثلةً لمدنٍ نجحت في مُكافحةِ التّلوثِ الضّوئيّ ومن بينها مدينةُ فينكس في أريزونا والّتي تُعدُّ رائدةً في هذا المجال، إذُ تضمّ 10 هيئاتٍ متميّزةٍ تابعةٍ للـ IDA. وصفَ الفلكيُّ البروفيسور جيمس لوينثال ذلك بقوله: "يمكنك الوقوفُ في وسطِ المدينةِ ومُشاهدةُ مجرّةِ دربِ التّبانة". ولكن وللأسف بالرّغم من هذا النّجاحِ الهائلِ، يُعكّرُ صفاءَ السّماءِ الآن أنوارُ مدينةِ لاس فيغاس على بُعدِ 170 ميلًا.

وفي عام 2015 بدأت فينكس بدراسة فكرةِ استبدالِ ما يقارب 100،000 من أنوارِ شوارعها القديمةِ بنظامِ LED الجّديد، إذ قدّرت المدينةُ أنّها ستوفّرُ 2.8 مليونَ دولارٍ سنويًّا من قيمةِ فواتيرِ الكهرباء، ولكنّها بالمُقابل ستستعملُ أنوارَ LED الزّرقاءَ المُزعجةَ التّي ستغطّي المدينةَ.

أجّلت مجموعةٌ من الشّخصياتِّ البارزةِ في مجموعةٍ تابعةٍ للـ IDA تركيبةً من النّظام لستّةِ أشهرٍ، مُتيحةً بذلك المزيدَ من الوقتِ للعلماءِ والفلكيّين لوضعِ أفكارٍ للتّخلّص من مُشكلةِ التّلوّثِ الضّوئيِّ. وكانت النّهايّةُ سعيدةً إذ توصّلوا إلى أنوارٍ تستهلكُ حرارةً أقلَّ ممّا توقّعَ الفلكيّون. لقد كان نجاحًا كبيرًا، عشرُ أشخاصٍ فقط أحدثوا فارقًا كبيرًا لمدينةٍ يسكنها أكثرُ من مليونَي إنسانٍ، لقد كان حقًّا إنجازًا مُلهِمًا

قالت كوني والكر أنّ أصعبَ جزءًا من التّحدي في كثيرٍ من المدن كانَ إقناعُ النّاسِ بأنَّ التّلوّثَ الضّوئيَّ مُضرٌّ وخَطِر. وازدادَ الأمر صعوبةً بالنّسبة للأطفال الّذين لم يروا سابقًا السّماءَ ليلًا صافيّةً ومليئةً بأضواءِ النّجومِ السّاطعةِ ومزيّنةً بسحرِ دربِ التّبانة. فمن الصّعب حقًا أن توضِّحَ لشخصٍ لا يدرك هذه الأمور ما الّذي خَسِره.

تُركّزُ والكر جهودها الآن لجعلِ مسألةِ التّلوّثِ الضّوئيِّ أساسيّةً للجيلِ القادم، بنفس الطّريقة الّتي كانت الحملاتُ في خمسينيّات القرنِ الماضي تعالجُ مُشكلةَ رمي النّفاياتِ عند ذلك الجّيل. بالإضافةِ إلى تزويد الأطفال بأدواتٍ تفاعليّةٍ لمعالجّةِ التّلوّثِ الضّوئيِّ. وافتُتحت مبادرةٌ علميّةٌ للعامّة سُمِيَت ب- Globe at Night، تُتيحُ لأيِّ شخصٍ أخذَ قياساتٍ لشدّةِ الإضاءةِ وسطوعِ السّماءِ ليلًا في منطقته، وجُمِعت بياناتُ عليّات الرّصدِ هذه والّتي ناهزَت الـ 160،000 عمليّةً في أكثرِ من 180 دولةً.

حقّقت الكثيرُ من المدنِ إلى الآن نجاحًا في هذا المجال، إحداها قصّةُ مجموعةِ طلّابِ مدرسةٍ في أوكلاهوما، قاموا بمساعدةِ بعض الفلكيّينَ الهواة باستخدامِ خريطةٍ من مشروعِ Globe at Night لتحديِد مواطنِ التّلوّثِ الضّوئيِّ في مدينتهم وقدّموا هذه البياناتِ إلى مجلسِ المدينةِ فاتّبعت البلديُّة خلالَ سنتينِ تاليَتَين قوانينَ أكثرَ صرامةً للحدِّ من هذا التّلوّث.

تَرى والكر بضرورةِ التّركيزِ على توعيِّة الجّيلِ القادمِ بهذه المُشكلة، حتّى نحمي مُستقبلَ علمِ الفلكِ والأرصادِ من الخطر في المستقبل.

المصدر:

هنا