الفيزياء والفلك > فيزياء

ما هي البلورات السائلة ؟

لاحظَ الكيميائيُّ الأستراليُّ فريدريك راينتزر ظاهرةً غريبةً نوعاً ما، أثناءَ عملهِ في مؤسّسةِ فيزيولوجيا النّباتِ في جامعةِ براغ عام 1988. كان راينتزر حينها يُجري أبحاثه على مادّة الكوليستريل "Cholesterol Based Substance-Cholesteryl" بهدفِ إيجادِ المعادلةِ الصّحيحةِ للكوليسترول والكتلةِ الجزيئيّة له ضمنها.

كان فريديريك يحاولُ تحديدَ نقطةِ انصهارِ هذه المادّةِ "Melting Point" (النّقطةُ الّتي تغيّرُ المادّة طورَها من مادّة صلبةٍ إِلى مادّة سائلة)، ودُهش كثيراً لاحتمال وجودِ نقطتي انصهارٍ عوضاً عن نقطةٍ واحدةٍ؛ فقد تحوّلت المادّة الصّلبةُ إلى مادّةٍ أخرى أطلق عليها اسم "السّائل العكر Cloudy Liquid" عند درجةِ 145 مئويّة. وعند درجةِ 178.5 مئويّةٍ تغيّر طورُ المادّةِ مجددًا إلى سائلٍ، حيث اختفى عدم الصّفاء بصورةٍ تامّة فجأةً وأصبحَ السّائلُ صافياً وشفافاً.

اعتقدَ ريتنزر في البدايةِ أنَّ السَّببَ وراءَ ذلك الأمرِ الغريبِ هُوَ وجودُ شوائبَ في المادَّة، ولكن كانت دهشته عظيمةً حين استخدم عدّةَ وسائلَ لتطهيرِ المادّةِ دون تغييرٍ في النّتيجة. توجَّه رينتزر طالباً المساعدةَ من عالِمِ الفيزياءِ الألمانيّ المختصّ بمجالِ بصريّات البلّورات أوتو لِهمان "Otto Lehmann".

أيقنَ لِهمان أنّ السّائل غيرَ الصّافي ذو خاصيّة فريدةٍ، إذ يحتوي على نظامٍ معيّن "order"، بعكسِ السّائل الأيزوتروبّي العادي الصّافي، وأدركَ في نهايةِ المطافِ أنَّ السّائلَ غيرَ الصافي ما هو إلّا طورٌ جديدٌ للمادّةِ، وأطلَق عليه حينها: البلّور السّائل "Liquid Crystal"؛ والّذي يبدو للوهلةِ الأولى اسماً مُفعماً بالتّناقضِ، فكيفَ يُمكنُ لشيءٍ واحدٍ أَن يجمَع خواصّ السّائلِ والصَّلبِ الّتي تختلفُ عن بعضها في آنٍ واحد؟

فما هي البلّورات السّائلة ولم أُطلَقَ عليها هذا الاسمُ بالتحديد؟

من الطّبيعيّ أنّه حين يخطرُ على بالنا كلمةَ طورْ، أن نميل للتّفكيرِ بالأطوار المألوفة للمادة (صلبة، سائلة، غازية). تمتلك المواد الصلبة ذرّات مرتّبة بانتظامٍ كلّي في شبكةٍ بلّوريّةٍ، لكن ذرات السّوائلِ والغازات تتواجد بحالةٍ يسودُها انعدامٌ كاملٌ للنّظامِ، وجميعُ خواصّها متشابهةٌ في جميع الاتّجاهات. ولكن هنالك أطوارٌ لا يُمكنُ تصنيفُها ضمنَ هاتين الفئتين (فئةٌ منتظمةٌ كليّاً وفئةٌ تفتقدُ الانتظامَ كليًّا).

عند درجات حرارة معيّنة، تصبح بعض المواد بلوراتٍ سائلة. تمتاز البلّوراتِ السّائلة بانّ جزيئاتها تتدفق بحريّة كالسّائل العاديّ، ولكنها تمتلك بعض الخواص البصرية للمواد الصلبة نتيجةً انتظام جزيئاتها. ليس هذا فحسب، فمنذ اكتشافها للمرة الأولى عام 1888 أصبحنا نعرف أطوار عديدة من البلورات السائلة تمتلك كل منها خصائص فريدة ومدهشة.

قد يبدو هذا الطور غريبًا بالنسبة إليك، لكن هل تعلم أنّ هذا الطور من المادة هو طورٌ طبيعي؟

توجد البلورات السائلة في الطبيعة وليس فقط في التطبيقات التكنولوجية الحديثة. إذ توجد أطوارٌ من البلورات السائلة في الأنظمة الحيّة، تحديدًا في تركيب البروتينات وأغشية الخلايا. تُسمّى هذه الأطوار Lyotropic liquid crystal phases وتحدثُ نتيجة التفاعلات الكيميائيّة. أما البلورات السائلة الّتي تدخل في صناعة التطبيقات التكنولوجية فتسمّى الأطوار الحراريّة للبلورات السائلة Thermotropic liquid crystals ويتم الحصول عليها بتسخين المواد إلى درجة حرارة محددة.

تُصَنَّفُ البلّوراتُ السّائلةُ الحراريّة ضمْنَ عدّة أنواعٍ وفقًا لكميّة النّظامِ فيها. يُطلقُ على النّوعِ الأوّلِ اسم "Nematic phase"، وهو النَّوع الأكثرُ شيوعًا وأهميّةً. يتميّزُ هذا النّوعُ بوجودِ نظامٍ في اتّجاه الجزيئات فقط، إذ تبقى الجزيئاتُ جميعها هنا موجّهةً بنفس الاتّجاه (وسطياً) ولا يوجدُ أيّ انتظامٍ بمكانها "Positionally Isotropic". لذا فهي حرّةُ الحركةِ تمامًا كالسّائل العاديّ. الصّورة ١ (الصورة اليسارية)، بإمكانكم رؤيةُ أنّ جميعَ الجزيئاتِ تميلُ لأن تكونَ موجّهةٌ باتّجاهٍ واحدٍ، لكنّها غيرُ منتظمةٍ بشبكةٍ بلّوريّة.

يمتاز هذا النوع بأنّه يمكن التحكم بترتيب بلوراتِه عن طريق حقل الكهربائيّ، وهذا ما يحصل بالفعل في شاشات الهاتف المحمول وأجهزة العرض الحديثة.

النّوع الثاني هو البلّورات السّمكتيّة/ الهدبيّة "Smectic Phases"، تشكّل البلورات في هذه الحالةِ طبقات ثلاثية الأبعاد مثل فقاعات الصابون. جميعُ الجزيئاتِ منتظمةٌ في طبقاتٍ "sheets" مسطّحةٍ مع بعدٍ محدّدٍ بين كلّ طبقةٍ وأخرى كما هو مبيّنٌ في صورة 1 (أولُ صورتانِ من اليمين).

أما النوع الثالث فهو البلورات الكوليستريّة أو المنتظمة تمتاز بأنها تعكس أطوالاً موجيّة مختلفة من الضوء تبعًا لحدّتها لذلك تستخدم في خواتم المزاج Mood Rings وموازين الحرارة وبعض أنواع أجهزة العرض.

صورة موضّحة للبلّورات السّائلة الخيطيّة والسمكتيّة والكلستريّة

للبلّورات السّائلةِ أهميّةٌ كبيرةٌ في العالمِ الصّناعيّ كما ذكرنا آنفًا، ربّما التّطبيقُ الأكثرُ شيوعًا لها هو ذاك الّذي أصبح التلفازُ بفضلهِ ذي شاشةٍ رقيقةٍ (شاشاتُ العرضِ من نوعِ LCD) بعد أن كان عبارةً عن صندوقٍ كبير، واستخداماتٌ كثيرةٌ على صعيد الحواسيبِ والسّاعات الرّقميّةِ... الخ، فجميعها مميّزةٌ بكونها رفيعةٌ ومسطّحةٌ جداً ورقيقةٌ، تستهلكُ القليلَ من الطّاقة وتُنتجُ القليلَ من الحرارة، كما تعطي صورةً دقيقةً بألوانٍ جميلةٍ جدًا.

حصلَ الفيزيائيّ النّظريّ بيير جينيس "Pierre-Gilles de Gennes" على جائزة نوبل في العام 1991، لإيجادهِ تشابهاً "analogy" بين البلّوراتِ السّائلةِ والموادّ فائقةَ النّاقليّةِ "Superconductors" والموادّ المغناطيسيّة، حيثُ كان لهذا الاكتشافِ تأثيرٌ على المجالِ الذي يختصّ بالبلّورات السّائلة.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا