الغذاء والتغذية > رحلة الغذاء

الحليب دائم الصلاحية.. حقيقة أم خرافة؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

من الشائع أن الحليب لا يمتلك مدةَ صلاحيةٍ معينة، فحتى الحليبُ المبستر الذي عُومل بالحرارة بهدف القضاء على كمٍّ كبيرٍ من الجراثيم الموجودةِ فيه، سيفسد حتماً بعد 10-15 يوماً من وجودِهِ في البراد.

ولكن على مدى الأعوام الخمسينَ أو الستين الماضية، أصبحنا نرى عبواتٍ ذاتٍ صلاحيةٍ تصل إلى الستة أشهر ودون تبريد، بل على رفوف المحال والمراكزِ التجارية!

جميعنا شاهدَ هذه الكرتونيةَ التي تحوي حليباً معاملاً بالحرارة الفائقة، حليبٌ خضعَ لعمليات تكنولوجيةٍ مثيرةٍ للاهتمام تطلّب الوصول إليها سنيناً من العمل والدراسة من قِبل مهندسي الأغذية.

تعتبر العمليةُ التي يتشكّلُ من خلالِها الحليبُ المعالجُ بالحرارةِ الفائقة Ultra-heat-treated مختصرةً جدا بالمقارنةِ مع البسترة العادية. وبالعودةِ إلى الماضي قليلاً، حصلت البسترة على اسمِها من العالم الفرنسي لويس باستور Louis Pasteur والذي يعتبر أول من قام بهذه العمليةهادفاً حينها لقتلِ جراثيمِ السلّ وبعضِ العواملِ الممرضةِ الأخرى. وتقوم عمليةُ البسترة على تسخينِ الحليبِ إلى الدرجة 72 مئويةً (أي 16 درجة فهرنهايت) لمدة 15 ثانية، ثم تبريدِه بسرعة لإحداث صدمةٍ حرارية للأحياء الدقيقة الموجودة. ومن الجدير بالذكر أن هذه العمليةَ لا تقتلُ كل العواملِ الممرضة، إذ لا بدّ من بقاء بعضِ الجراثيم على قيدِ الحياة، ولكنّها من الأنواع غيرِ الممرضة والتي لا تعتبر ضارّةً طالما بقي الحليب مبرداً واستُهلِكَ بسرعة.

أمّا الحليبُ المعالجُ بالحرارةِ الفائقةِ، والذي يعتبر الحليب النموذجي لمعظم المستهلكين في الدول الأوروبية، فيُسخّنُ إلى درجةِ حرارةٍ تبلغ ضعفَ درجةِ البسترة، أي حوالي 140 درجةً مئويةً ولمدةِ ثلاثِ ثوانٍ متواصلة. تمتلك الحرارة العالية المطبّقةُ خلالَ هذه العملية قدرةً فوريةً على قتلِ الجراثيم ومعظمِ الأبواغِ الجرثومية التي لا تستطيع تحمّلَ درجاتِ الحرارة المرتفعةِ بهذا الشكل. وتسمى العمليةُ التي نحصلُ عليها بهذه الطريقة بالتعقيم التجاري Commercial sterility وتضمن هذه العمليةُ بقاءَ الحليبِ معقماً طالما بقي في عبواتِهِ العقيمةِ المقاوِمة للتلوّث، فعدمُ وجودِ الجراثيمِ يعني عدمَ فسادِ الحليب طالما بقيت العبوات مغلقة على الأقلّ.

من جهةٍ أخرى، يُحذّر أخصائيّ الألبان Hilton Deeth من جامعةِ كوينلاند أنّ الحليبَ المعاملَ بالحرارة الفائقةِ مصمّمٌ ليدوم في المناطق التي تتراوح درجةُ الحرارةِ فيها حول المجال بين 20- 30 درجةً مئوية، فإذا ما شُحِنَ عبرَ خطِّ الاستواء مثلاً على متنِ مركبٍ شديدِ الحرارة، يمكن أن تنشطَ بعض أنواع الأبواغِ المتبقيةِ فيه وتسبّبَ بعض المشاكلِ الصحية أو تؤدي إلى فساد المنتج.

كما يمكن أن تحدثَ بعض الظواهرِ الغريبةِ لهذا الحليب أثناءِ وجودِه في عبواتِهِ المغلقة، فقد يتحوّلُ لهلامٍ داخل العبوة، فيبدو شبيهاً باللبن أو الكاسترد عند محاولةِ إخراجِهِ من العبوة، أو نجد أنّه يحتوي على ما يُشبِهُ الخيوط. وعلى الرّغم من أنّ ذلك أمرٌ نادرُ الحدوث، ولكنّه يمكن أن ينتجَ عن التفاعلاتِ الكيميائية التي تجري خلال المعاملةِ الحرارية والتي تساهم في هذه المواصفات الغريبة، إذ تترافق الحرارة العالية بتغيّرٍ في تركيب بروتيناتِ مصلِ الحليب، فتنفصلُ سلاسِلُها وتتحول إلى خيوطٍ رخوة. كما يمكن لبعضِ الإنزيماتِ التي تبقى نشِطةً في الحليب، كإنزيم الـ Plasmin، أن تعملَ على تفكيك سلاسلِ البروتين بصورةٍ عشوائيةٍ، فاصلةً إيّاها عن مواقِعها السابقة، لتعودَ فترتبط مع بعضِها البعض من جديد بحثاً عن حالةٍ من الاستقرار، فيتشكّل لدينا ما يشبُه الهلام المذكورَ آنفاً.

أمّا تفاعلُ ميلارد Maillard Reaction – المشهورُ بإعطاءِ اللونِ البني والنكهةِ المميزة للكاراميل والتوستِ واللحمِ المقدّدِ وغيرها من الأطعمة الأخرى – فيحدثُ بينَ بروتيناتِ الحليبِ والسكرياتِ وهو السببُ وراءَ غيابِ اللون الأبيض الناصعِ للحليب المبستر وظهورِه بلونٍ قاتمٍ نوعاً ما، في حين نجد أن الحليب المعاملَ بالحرارةِ الفائقة يكون ذا طعمٍ أكثرَ حلاوةً من الحليبِ المبستر كما يكون لونهُ أبيضَ ناصعاً نتيجةَ عكسِ البروتينات وبعضِ المواد الأخرى مع الضوء والتي تتخرّب عادةً بتأثيرِ المعاملةِ الأطول نسبياً خلالَ البسترة.

كما تتكون في الحليب تحتَ تأثير الحرارة مجموعةٌ من مركبات الكبريت التي تعطي الحليبَ المعاملَ حديثاً رائحةَ شبيهةً برائحةِ البيض الفاسد، ولكنّها تتلاشى بعد أسبوعٍ تقريباً.

يُذكر أن الحليب المعامل بالحرارةِ الفائقة لا يمكن أن يستخدم في صناعةِ الجبن، إذ يتطلّب أن صنعُ الجبنة مرحلتَين من المعالجة، تنفصلُ فيها سلاسلُ البروتين بفعلِ الرينين Rennin (أو المنفحة)، وتنفصلُ عن المصلِ لتشكّل الخثرةَ التي تُضغط لاحقاً لتكوين الجبن. وبحسب Deeth فإن الحصول على جبنٍ من حليب الـ UHT ليس مستحيلاُ ولكنّه يحتاجُ مزيداً من البحث والتجربة، متوقّعاً أن تكون الجبنة الناتجة في حال نجاح ذلك أقربَ إلى جبنةِ الكوتاج والتي تُقابل في بلداننا ما يُعرف بالـ"القريش" حاويةً بذكل على مقدارٍ كبير من الرطوبة.

المصدر:

Tamime A.Y.، 2009. Milk Processing and Quality Management. Society of Dairy Technology. Blackwell Publishing، UK.

هنا