العمارة والتشييد > التصميم العمراني وتخطيط المدن

متحف شنغهاي للتاريخ الطبيعي

استمع على ساوندكلاود 🎧

كان ولايزال عكس هويَّة وثقافة مجتمعٍ بأكمله من خلال العمارة أحد أكثر الأشياء التي يَعملُ الكثيرُ من المعماريين على تحقيقها، فإعطاءُ العملِ المعماري طابِعاً خاصاً يتكاملُ مع روحِ المَكانِ بالتوازي مع تأديتهِ لوظيفتهِ التصميمية يَعتَمِدُ على ثلاثةِ أقطابٍ رئيسيةٍ ألا وهي: الإنسانُ والطبيعةُ والمجالُ المَبني، وفي مثالنا التالي نلاحظُ عملَ المبنى الهادف إلى خَلق تَجرِبةٍ مُتَميَّزةٍ للزائِرِ من خِلالِ تَصميمهِ المِعماري.

نلاحظُ في وقتنا الحالي أنَّ المتاحفَ لا تَلقى اهتماماً كبيراً من الناس بشكلٍ عام، ولكنَّ مُتحَفَ التاريخِ الطبيعي في شنغهاي والذي تَمَّ افتتاحه عام 2015م والمُصَمَّمُ مِن قِبَل Ralph Johnson)) مديرُ التصميمِ في شركةِ (Perkins + Will) العالميَّة هو تجسيدٌ لهذه الفِكرة، حيثُ نَجَحَ في تَغيير النَظرة العامَّة نحو المَتاحِف.

المُتحَفُ يُقَدِمُ للزوارِ فُرصةً لاستِكشافِ عَالَمِ الطَبيعةِ مِن خِلالِ عَرضِهِ لأكثرَ من 10000 تحفةٍ فنيَّةٍ من جَميعِ قاراتِ العَالَمِ السبعِ.

يقع المُتحَف في مُقاطَعةِ (Jing'an) في مركزِ مدينة شنغهاي في الصين وضِمنَ حديقة المَنحوتات التابِعة للمُقاطَعة.

تَمَّ اختيار التَصميم من خِلال طَرحِ مُسابقةٍ عالميَّةٍ شاركَ فيها العَديدُ من أفضَلِ المِعماريين المَشهورين مِن جميع أنحاء العالم.

يقول المُصِمم (Ralph Johnson): «إنَّ مفتاح التَصميمِ كان استخدام المرجعيَّة الثقافيَّة الموجودة في الحدائِق الصينية التَقليديَّة، حيثُ يرمز المبنى للتناغُمِ ما بين الإنسانِ والطبيعةِ مِن خِلال دَمجِهِ مع الموقعِ العام والذي يُعتَبَرُ من العَناصِرِ الأساسيَّة المُستَخدَمةِ في التَصميمات والفن الصيني».

إنَّ جَمال التصميمِ يأتي مِن كَونهِ مستوحىً من الطبيعة، حَيثُ تَشعُر وكأنك في الطبيعة نَفسها، فالشَكلُ التَصميميُ الأساسيُ يتمَحوَرُ حولَ الشكلِ المجرَّدِ لقشرة حيوانِ الـ (Nautulus)؛ (وهو حيوان بحري من رأسيات الأرجُل) والتي تُعتَبَر مِن أكثر الأشكال الهَندَسيَّة المِثاليَّة الموجودة في الطبيعة (المشابِهة للنسبة الذهبيَّة).

هنا

فالهيكلُ هو عبارةٌ عن سطح مائلٍ يَبدَأُ من مستوى الأرضِ الطبيعيَّةِ وينتَهي من الأعلى بشكلِ قطعٍ ناقصٍ (بيضوي).

عَمل التَصميم على مُلائمةِ عِدة أفكارٍ وعَناصِر طبيعيَّةٍ في الواجهات الداخليَّة والخارجيَّة دونَ اللجوءِ إلى المبالغةِ في التصميم، وهذا ما نلاحِظه في الفراغِ الداخلي في الجِدار المركزي الزُجاجي بطول 30م والذي يُجمَعُ الضوءَ ضمنهُ لينعكسَ لداخل المبنى من خِلال هَيكله الزُجاجي، والذي استوحى شَكلُه مِنَ الهيكليَّة الخُلويَّة للنباتات والحيوانات.

تُطلُّ الساحة التي تتقدم المبنى على المنطقة الخارجيَّة للمتحف والتي تُمَثِل بأدراجها المتعرجةِ وأشكال أحواض المياه فيها تَذكيراً بالحدائقِ المائيةِ الصينية، بينما يُسايرُ الجدارُ الزجاجيُ الخارجيُ المُنحَني والذي يُطلُّ على السَّاحة السطحَ المائلَ نحو الأعلى، كما يستمرُ للأسفل وتُغطيهِ قشرةٌ تتميزُ بنمطٍ مِن الأشكالِ المكسَّرةِ والذي يُماثِل نَمَط تصدُّع الجليدِ والخلايا البيولوجيَّة.

يسمَحُ الشَكلُ الخارجيُّ للمبنى للزوار بالوصولِ إمَّا مِن خلالِ الحديقةِ المُحيطةِ وعبر السَّطح الحلزوني إلى سطح المَبنى، وإمَّا إلى داخلِ المبنى عن طريق المَدخَل المُظلَّل، أو نزولاً عبَر الأدراجِ إلى الفناء.

يَرى الزوار من الحديقةِ وباتجاه الشرق جداراً شاقوليَّاً نباتياً بالكامل يرمزُ للغطاءِ النباتيِّ للأرضِ مَع بَعضِ الفَواصلِ من أجل النَوافذِ واللافتات.

أمَّا من الجهة الشماليَّة فيطلُّ المُتحَفُ على الشارعِ بجدارٍ مُتَعَرِجٍ من الحجرِ البيولوجي الذي يُذَكِّرُ بالرسوبيَّات والتآكُلات الحجرية في علم الجيولوجيا مما يُعطي الشكلَ العام للمبنى ملامحَ حِصنٍ قَديمٍ أو قَلعة، فكُل جِدارٍ يَحمِلُ خصائَصهُ المُتَميزة بما يزيد من التأثيرِ الإيجابيِّ للمُتحَف بِشكل عام.

كما يَظهَرُ مِنَ الأبراج السكنيَّة المُجاوِرة التَكامُل في الشَكل المُنحَني والخطوط المُستَقيمة لسطح المُتحَف مع الممرات والطُرُق ضمن حَديقة Jing'an المُحيطة به.

الجدار الشرقي النباتي:

الجدار الشمالي الحجري:

الأدراج المتعرجة:

تكامل خطوط التصميم مع الحديقة المحيطة:

إنَّ الجِدارَ الخلويَّ هو السِمة المميزة لتَصميم المُتحَف منذُ المَرحلة الأولى للمُنافسة، مُكوَّناً مِن ثَلاثِ طَبَقاتٍ يَتَميَّز كُلٌّ مِنها بنَمَطهِ الهَندَسي وشَكله العُضويِّ الخاص.

صُمِّمَ الجِدارُ بشكلٍ مَخروطيٍّ بيضويٍّ ليَعمَلَ كغلافٍ للمَبنى.

في الوَسَط نَجَدُ الطَبَقة الرَئيسيَّةَ والتي تُعَدُّ الطَبَقة الإنشائية ذاتَ الشَكلِ الخُلَويِّ والتي تُؤَكِد على أنَّ الخلايا العُضويَّةِ هي أساس الهياكل في الطَبيعة، أمَّا الطَبَقة الداخِليَّة فتتكون من قضبانِ الألمنيوم والزجاج كجدارٍ فاصِلٍ عن العواملِ الخارجيَّةِ كالأمطار، أما الطَبَقةُ الخارجية فتتكون من الألمنيوم بشكلٍ يحاكي البنيَة الخلوية لكافة أشكالِ الحياة حيث تَعمَلُ كواقٍ للمبنى من أشعة الشمس.

عندَ الحديثِ في مسألةِ تحويلِ واستخدام الأشكالِ العُضويَّة المعقدةِ المُستَمَدةِ من الطبيعة في كامل المبنى نلاحظُ وجودَ الكثيرِ مِن الأبحاثِ النَظريةِ التي تعالجُ الشبكات الهيكلية (mesh structures)، ولكن لا يوجدُ إلا عَدد قليل مِنَ المُنشآت المبنيَّة والتي تَعمل فيها هذه الشَبكة الهندسيَّة كعنصرٍ انشائي للمبنى بشكل كامل وبالمقياس المناسب.

ميَّزات المَبنى الحَيويَّة تَتَجَسَد في عناصر التَصميم أيضاً، حيث تَعمَلُ الطبقةُ الخارجيَّةُ عَلى زيادةِ الإضاءةِ الطبيعية وتَخفيفِ آثارِ الإشعاعات الشمسيَّةِ، إلى جانبِ ساحةِ المُتحَف ذات الشكل البيضوي والتي تحتوي على أحواضِ مياهٍ تَعملُ على تعديلِ الحرارة العامة من خِلالِ عَمليَّةِ التَبخُر، بينما تُضبطُ حرارةُ المبنى الداخليَّة بنظامِ الطاقةِ الحراريةِ الأرضيةِ الذي يَستَخدِم الطَاقة من الأرض للتدفئة والتَبريد، إلى جانبِ تجميع مياه الأمطارِ من السَطح ذو الغطاء النَبَاتي وتخزَينها في حوض المياه ضمن الساحة، بالإضافة لمعالجة المياه الرمادية الناتجة عن المبنى، وسوفَ يُخَصَصُ أحد المَعارِضِ لتَوضيحِ ميَّزات وأقسام المُتحَف.

على الرُّغمِ من وجود الجزءِ الأكبرِ من المَبنى تحتَ مستوى الأرض لكِن الإضاءة الطبيعية تُنير الفراغ الداخِلي في جميع الطوابق عَبر الجدارِ الزجاجيِ المركزيِ والذي يستمرُ حتَّى الطوابقَ السفليَّة الأخيرة، إلى جانِب الفتحات العُلوية في السطح المنحني والتي تُنيرُ الفراغاتِ الداخليَّة أيضاً وبالتَالي تضمنُ عدمَ ابتعاد المعارضِ الطَبيعية عن عالَم الطبيعة ذاته، وكما في نظام الطبيعة فإنَّ هَذا المَبنى يُعالِجُ المَشاكِل الوَظيفية ببساطةٍ ووضوحٍ ما يُظهر الفكر التَصميمي المتطورَ لهَذا العَمَل.

يقول ((James Lu المُدير التنظيمي لشركة (Perkins+Will) في شنغهاي عند افتتاح المُتحَف: «بالنِسبة للناسِ الذين عاشوا في شنغهاي فإنَّ مُتحَف التاريخ الطبيعي القديم لَهُ مَكانةٌ خاصةٌ ضِمنَ ذاكرَتهم وعَلى الرغمِ من ذلك نَرى الكَثيرَ من الحَماسِ يُحيطُ بافتتاح المُتحفِ الجديدِ والذي سيحفرُ مكانَهُ في قُلوبِ السُّكانِ الأصليين كما السياح، وسيؤَمِن هذا المُتحَفُ تجربةً مميزةً ومُتَجَددةً في التاريخِ الطبيعي لهذه المدينة لعدة أجيال قادمة».

بمساحة إجماليَّة تُساوي 44517م2 أتاحَت للمُتحَف بأن يضاعف القدرة الاستيعابية للمبنى القديم بـ 20 مرة، محتوياً على أقسامِ عرضٍ ومسرحٍ مُجَهَّزٍ بتقنيةِ عرضِ 4D وحَديقة معرضٍ في الهَواءِ الطلق، متميزاً بموقعهِ ضمنَ مركَز مدينة شنغهاي ليعملَ على جَعلِ الإنسانِ يفكرُ مُطولاً ويتأمل بعلاقتنا مع الطبيعة أي كما ينبغي لجَميع متاحف الطبيعة بأن تكون، كما أنه استطاعَ عكس ثقافةِ مجتمعه وارتبط مع البيئة المحيطة والقائم ضمنها.

فما رأيك بهذا التصميم المتميز للمبنى؟ وهل استطاع برأيك تحقيق الهَدف الذي صُمِمَ لأجله؟

المصادر:

هنا

هنا

هنا