كتاب > روايات ومقالات

ناسكُ الشخروب أحدُ أعمدةِ الأدب. مراجعة رواية "سبعون" لميخائيل نعيمة

استمع على ساوندكلاود 🎧

لا أعتقدُ أنَّ هناكَ مقالٌ ما أو أقصوصةٌ مِنَ المُمكنِ أن توفيَ الأديبَ ميخائيل نعيمة حقه، أو أن تختصرهُ بعنوانٍ أو تقيّدهِ بصفةٍ فهو ما برحَ يُحطمُ العناوينَ والصفاتِ والحدودَ والحواجز وكلَّ ما يعتري جسدَ الإنسانِ البائسِ الخائفِ ابنَ ذاكَ العصرِ، عصرُ نعيمة الذّي شَهِدَ حربَينِ عالميّتينِ مزقتا الكرةَ الأرضيةَ ومِن بعدهما قامتِ الاختراعاتُ والاكتشافاتُ العلميةُ والثورةُ الأدبيّة وكلُّ الأحداثُ التي مرت في القرنِ العشرينِ والتي كانَ لها مجملُ الأثرِ على الإنسانِ ما عدا تحريرَ روحهِ وفكرهِ وقلبه.

كانَ نعيمة قد حملَ على عاتقهِ لواءَ تحريرِ الإنسانِ من مخاوفهِ وأوهامهِ وسيطرةِ الدولار والجشع والخوف والاستغلال.

يحكي لنا نعيمة في الجزءِ الأولِ من كتابِ سبعون عن لبنان الجميل بصنينه، ذاكَ الجبلُ البديعُ ذو المناظرِ الخلَابةِ التي تَحسبُ نفسكَ زرتها ألفَ مرةٍ من شدةِ الوصفِ والعشقِ والحبلِ السريِّ الذّي يربطهُ به والذّي لم يقطعهُ غيابُ نعيمةَ عنه لمدةِ ثلاثينَ عاماً، لم يكن أولها دراسته في فلسطين ولا آخرها سخطَ القدرِ عليه لأن وضعَ بندقيةً في يده في إحدى سهولِ فرنسا في الحربِ العالميةِ الأولى مع الجيشِ الأميركي!

يمضي نعيمةُ بنا واصفاً لبنانَ وبيتَهُ والشخروب وهو المنطقةُ الأعزُّ إلى قلبهِ والتي تملكُ بها العائلةُ قطعةَ أرضٍ صغيرةٍ تزرعها وتحصدها، يمضي بنا ونمضي به وكأننا على ظهرِ نسرٍ من نسورِ جبلِ صنين نتنفسُ هواءهُ النقي ونطربُ لتناغمِ الصخورِ والشجرِ بصمتٍ لا يقطعهُ إلا خرخرةَ المياهِ المتفجرةِ من صخوره.

يروي لنا كم كانتِ الحياةُ بسيطةً وصعبةً من تأمينِ المياهِ مِنَ النبعِ إلى البيتِ الذّي يحصنه الترابُ وبعضُ الموادِ البسيطةِ لتقييهم صقيعَ الشتاءِ وحرَ الصيفِ، ليسحرنا بعدها بمحبةِ العائلةِ وتفانيها وانسجامها بالعملِ على مخرِ عبابِ بحورِ العذاباتِ وقساوةِ العيش المضنية، إلى أن تأخذهُ الحياةُ إلى فلسطين ليتابعَ دراستهُ بمنحةٍ في المدرسةِ الروسيةِ الأرثوذكسيةِ فيتعلمُ اللغةَ الروسيةَ ويختلطُ بأقوامٍ عدةٍ كان لها الأثرُ الكبيرُ بتكوينِ شخصيته.

ثم يتابع في الجزأين الثاني والثالث حكايتهُ التي امتدت أولاً إلى روسيا حيثُ أكملّ دراستهِ هناك وتخرجَ منها بعد أن خفقَ القلبُ خفقتهُ الأولى هناك بسيدةٍ متزوجةٍ واصفاً المشاعرَ التي اختلجتهُ جرّاءَ تلكَ التجربة، بعدها يمضي إلى أميركا لتحصيلِ لقمةَ العيشِ بعدَ الأوضاعِ السيئةِ في سوريا ولبنان وهناك تعرّفَ إلى جبران خليل جبران ليأسسا معاً رابطةً أدبيةً كانتِ النبراسَ الأولَ في ظلمةِ العربِ واللغةِ العربيةِ ولكم أن تتخيلوا اجتماعَ هذينِ العملاقين والمحبةَ التي جمعتهما وكللت روحيهما المترابطتانِ برباطٍ لا يفكهُ موتٌ أو غربةٌ أو بُعد.

وشاءتِ الأقدارُ أن يُجندَ في الجيشِ الأميركي رغماً عنهُ ليسافرَ إلى فرنسا للقتالِ في الحربِ العالمية الأولى، ميخائيل نعيمة الذّي لم يسامح نفسهُ على قتلِ سمكةٍ اصطادها، حاملاً بندقية تحتَ أصواتِ المدافعِ وفوقَ آهاتِ الجرحى.

يتطرقُ نعيمة لنشوءِ أميركا وسيطرةِ الرأسماليةِ وتقلباتِ السوق والمجتمعِ الهشِ الذّي قضمتهُ الأنانيةُ وحبُّ المالِ والوحشة إذ اضطرَ الأديبُ الكبيرُ إلى مزاولةِ أعمالٍ بسيطةٍ كبائعٍ بأجرٍ زهيد ليسدَ رمقهُ واصفاً تلكَ المرحلةِ بوصفٍ ينطبقُ تماماً على كلِّ مواطنٍ أميركيٍّ حلمَ بذلكَ الحلم.

وقد كانَ للرابطةِ الأدبيةِ التي تأسست في أميركا بصمةً واضحةً في نهضةِ الأدبِ العربي والفضلَ الأكبرَ في شحذِ الهممِ وانطلاقِ الصحفِ والأقلامِ وبروزِ المواهبِ وتسطيرِ الأدبِ العربي بعنوانٍ واضحٍ في صفحاتِ الأدب العالمي.

لكن حنين نعيمة إلى مسقطِ رأسه لم يخبو ولم يطمرهُ الدولارُ أو السرعةُ أو الاختراعات فآثرَ الرجوعَ والالتحامَ بضيعتهِ ولقمةَ العيشِ الصعبة مع الأهلِ والأحباب ولزمَ دارهُ وسُميَّ "ناسكُ الشخروب" وألّفَ العديدَ مِن الكتبِ والأشعارِ باللغاتِ العربيةِ والروسيةِ والإنكليزية كما أمضى بعضاً من وقتهِ متجولاً بينَ الجامعاتِ والمنتدياتِ والمدارسِ مخاطباً إياهم بضرورةِ الاستماعِ إلى صوتِ العقلِ وإلى باطنِ الإنسانِ الثمينِ المتعطشِ للاكتشافِ الذّي يمثلُ الغايةَ الأسمى للحياةِ وما عداها هو مجردُ عناوين.

لا يمكنُ لأيِّ كتابٍ أن يرسمَ ملاحمَ الأديبِ الكبيرِ ميخائيل نعيمة ولا أظن أن قلماً تجرأَ على إعطائه حقه بوصفٍ، ومن الجديرِ بالذكرِ أنَّ كتابَ سبعون بأجزائه الثلاث كانَ سيرةً ذاتيةً وملخصاً لمعاناةِ الأمةِ واللبنانيين في بلادِ المهجر، إلا أنَّ أديبَنا عاشَ حتى عمرِ التاسعِ والتسعين مكتفياً بسبعينَ سنةٍ من الحياة حتى يكتبها ويطلعنا عليه.

وسأتركُ لكم مساحةَ التفكيرِ والإبحارِ ببحرِ العظيمِ ناسكُ الشخروبِ ميخائيل نعيمة.

لمؤلف: ميخائيل نعيمة.

الناشر: مؤسسة نوفل الطبعة الثانية عشر.

الطبعة الأولى عام 1977.

الجزء الاول: 429 قطع متوسط.

الجزء الثاني: 364.

الجزء الثالث: 352.