العمارة والتشييد > الترميم وإعادة التأهيل

نيزكٌ يضربُ متحفَ التَّاريخِ العسكري في Dresden

استمع على ساوندكلاود 🎧

إنَّ الهدفَ الرئيسيَّ للمتاحف هوَ العملُ على حفظِ وصيانةِ القطعِ الأثريَّةِ أو الفنيَّةِ أو العلميَّةِ وعرضِها أمامَ الزُّوَّار للتَّمكُّنِ من نقلِ المعرفةِ أو التَّطوُّرِ التَّاريخيّ للمنطقةِ التي يتواجدُ ضمنَها المُتحف، وبذلكَ يكونُ الاهتمامُ الأكبرُ منصبَّاً على طرقِ عرضِ هذه المجموعاتِ داخلَ المتحفِ للقيامِ بوظيفتِها، لكن في مثالنا التَّالي نرى أنَّ عمليَّةَ إعادةِ تصميمِ المتحفِ الأصليّ التَّاريخيّ بذاتِها تُعدُّ مساهَمةً كبيرة ًفي عمليَّةِ عرضِ تاريخِ المنطقةِ.

تحوَّلَ متحفُ مدينةِ Dresden للتَّاريخِ العسكريّ منذُ إنشائه عامَ 1897م من متحفٍ ومستودعٍ للأسلحةِ السَّاكسونيَّةِ إلى متحفٍ تابعٍ للحزبِ النازيّ، ومن ثَمَّ متحفٍ تابعٍ للاتِّحادِ السُّوفييتيّ، ومتحفٍ لألمانيا الشَّرقيَّةِ بعدَها، ليتحوَّلَ إلى متحفٍ للتَّاريخِ العسكريّ تابعٍ لجمهوريَّةٍ ألمانيَّةٍ موحَّدةٍ وديمُقراطيَّةٍ. ونظراً لموقعِ المتحفِ خارجَ حدودِ المركزِ التَّاريخيِّ للمدينةِ فقد حافظَ على سلامتِه أثناءَ حملةِ القصفِ العسكريِّ عليها مِن قِبَل الحلفاءِ في نهايةِ الحربِ العالميَّةِ الثَّانيةِ، وبحلولِ العامِ 1989م لم يكن منَ السَّهلِ تحويلُ المتحفِ الذي كانَ تابعاً لألمانيا الشَّرقيَّةِ إلى متحفٍ تابعٍ لدولةٍ ألمانيَّةٍ حديثةٍ وموحَّدةٍ، الأمرُ الذي دفعَ الحكومةَ إلى اتِّخاذِ قرارٍ بإغلاقِه، ولكن بحلولِ العام 2001 كانت المُعطياتُ والمشاعرُ قد تغيَّرت، وطُرِحت مسابقةٌ معماريَّةٌ لمشروعٍ يُمكِّنُ النَّاسَ من تغييرِ طريقةِ تفكيرِهم ونظرتِهم تجاهَ الحربِ.

التَّصميمُ الفائزُ بالمسابقةِ الخاصُّ بالمعماريّ الأميركيّ/البولنديّ Daniel Libeskind دانييل لبسكيند يعتمدُ على الكسرِ الصَّريحِ لتناظرِ المبنى الأصليّ الكلاسيكيّ عن طريقِ إضافةِ جزءٍ جديدٍ على شكلِ وتدٍ ضخمٍ مصنوعٍ منَ الزُّجاجِ والبيتونِ والمعدنِ، ممتدَّاً على ارتفاعِ خمسةِ طوابق، بوزنٍ يُقدَّرُ بـ 200 طن، محقِّقاً أفكارَ المصمِّم بشكلٍ كبيرٍ؛ فشفافيَّةُ الواجهةِ الزُّجاجيَّةِ الحديثةِ وانفتاحُها نحوَ الخارجِ مقارنةً مع انتظامِ كتلةِ المبنى الأصليِّ وسطوحِهِ الصَّمَّاء توضِّحُ خطورةَ الماضي الاستبداديّ مقارنةً بالانفتاحِ الدِّيمقراطي الحديثِ لألمانيا الموحَّدة، والتَّفاعلُ بينَ هاتين الكتلتين المتضادَّتين يُشكّلُ طابعَ المتحفِ العسكريِّ الحديث. حيثُ يقول المعماري: "لم يكن الهدفُ الحفاظُ على واجهةِ المتحفِ التَّقليديَّةِ، وإضافةُ عنصرٍ غيرِ مرئيٍّ مخفيَّاً في الخلفِ، وإنَّما قد رغبتُ في خلقِ مُقاطَعةٍ واضِحةٍ وصريحةٍ ضمنَ المبنى التَّاريخيّ الأصليِّ، وعملتُ على خلقِ تجربةٍ جديدةٍ للزُّوَّارِ محاوراً إيَّاهُم بأنَّ العنفَ المنظَّمَ، والتَّاريخَ العسكريَّ مرتبطان بشكلٍ وثيقٍ مع مصيرِ المدنِ"

إنَّ إعادةَ تصميمِ المتحفِ يخلقُ فرصةً لإعادةِ النَّظرِ في مدينةٍ تمَّ تدميرُها من قِبَل قوَّاتِ التَّحالفِ في نهايةِ الحربِ العالميَّةِ الثَّانيةِ؛ حيثُ تؤمِّنُ منصَّةُ العرضِ داخلَ الوتدِ الزُّجاجيّ رؤيّةً خلَّابةً للمدينةِ في وضعِها الحاليِّ بينما تُشيرُ زاويةُ الوتدِ إلى الاتِّجاهِ المعاكسِ تماماً، نحوَ مصدرِ إطلاقِ القنابلِ أثناءَ القصفِ، ممَّا يخلقُ جوَّاً يدفعُنا للتَّفكيرِ في أحداثِ الماضي، حيث يقولُ المصمِّم: "إنَّ Dresden مدينةٌ تغيَّرت بشكلٍ كاملٍ عن الماضي، ولكنَّ هذا لا يعني بأنَّ أحداثَ الماضي هي أشياءٌ هامشيَّةٌ لا تستَحِقُّ التَّفكيرَ بها، بل هيَ أساسُ التَّغييرِ الحاصلِ في المدينةِ اليوم، والمسبِّبُ الأساسيُّ لشكِلها الحاليّ"

داخلَ المبنى الأصليّ يُعرضُ التَّاريخُ العسكريُّ الألمانيُّ بترتيبٍ زمنيٍّ، وتكامُلُ هذا العرضِ مع المساحاتِ الواسعةِ ضمنَ الكتلةِ الجديدةِ على امتدادِ خمسةِ طوابقَ بما تحتويهِ من مساراتٍ ومعروضاتٍ تعالجُ موضوعَ الحربِ من وجهةِ نظرٍ موضوعيَّةٍ جديدةٍ، آخذةً بعينِ الاعتبارِ المؤثراتِ الاجتماعيَّةَ، والدَّوافعَ البشريَّةَ التي تخلقُ سياسةَ العنفِ.

ولا يُعتبرُ متحفُ التَّاريخِ العسكريِّ المشروعَ الأوَّلَ المرتبطَ بمفهومِ الحربِ لـِ Libeskind، فمتحفُ التَّاريخِ العسكريِّ إلى جانبِ المتحفِ اليهوديِّ في برلين يحملانِ في طيَّاتِهما المعنى نفسَه، حتَّى لو لم يكن ذلك ظاهراً بوضوحٍ، فتصميمُه لكلا المتحفين يعتمدُ على إقحامِ أفكارٍ مبتكرةٍ وحديثةٍ على مبانٍ تُعدُّ منَ الأعمالِ الرياديَّةِ الأولى لعمارةِ ماقبل الحداثة، وكلاهُما يعتمدانِ على إعادةِ إحياءِ التَّركيزِ العاطفيِّ والعقليِّ على التَّاريخِ إلى جانبِ إظهارِ مفهومِ الحربِ والعنفِ والدَّمارِ والكراهيَّةِ. يقول المصمِّم: "إنَّ تدميرَ المدنِ الأوروبيَّةِ من قِبَل النازيِّين هو جزءٌ من قصَّةِ تدميرِ مدينةِ Dresden حيثُ لا يمكنُ فصلُ (الإبادةِ اليهوديَّةِ) عن المتحفِ الذي يتناولُ ذكرياتِ ألمانيا بشكلٍ عام و Dresden بشكلٍ خاصّ".

يحملُ المشروعُ عدَّةَ رسائل وأهداف رئيسيَّة، أحدُها هو تغييرُ وجهةِ النَّظرِ العامَّةِ تجاهَ الحربِ، حيثُ يقدِّمُ التَّاريخَ العسكريَّ الألمانيَّ بعدِّةِ وجهاتِ نظرٍ مختلفةٍ؛ فالمعرضُ الجديدُ وسمتُه الواضحةُ يعملُ على إعادةِ مزجِ التَّعابيرِ والمفاهيمِ التَّقليديَّةِ والجديدةِ معاً، والتقارُبِ ما بين الشَّيء التَّقليديِّ والشَّيءِ المبتكرِ، مابينَ التَّفسيراتِ القديمةِ والجديدةِ للتَّاريخ العسكريِّ، وكلُّها تُعدُّ حجرَ الأساسِ ضمنَ النَّهجِ الجديدِ للمتحفِ.

إلى جانبِ التَّاريخِ الثَّقافيِّ للعنفِ: حيثُ يعملُ على تعريفِ الزُّوَّارِ بتاريخِ ألمانيا العسكريِّ ولكنَّهُ يتجاوزُ موضوعَ الأسلحةِ والزِّيِّ العسكريِّ في استقصائاتِه حولَ العنف الذي تمارسُهُ الحكوماتُ، ليطرحَ مفاهيمَ جديدةً في تقييمِ ذلك التَّاريخِ وثقافةِ العنفِ التي أوصلت الدُّولُ لتلكَ المرحلةِ.

ولكنَّ الموضوعَ الأساسيَّ المحوريَّ بالنِّسبةِ للمتحفِ هو الإنسانُ: حيثُ تهتمُّ عمارةُ المبنى ومعارضُهُ بالنَّظرةِ الإنثروبولوجيَّةِ التي تأخذُ بعينِ الاعتبارِ طبيعةَ العنفِ، فالمتحفُ يعملُ على دراسةِ المخاوفِ والأملِ والعاطفةِ والذِّكريات والدوافعِ وحالاتِ الشَّجاعةِ والعقلانيَّةِ والعدوانيَّةِ التي عملت على تسريعِ عجلةِ العنفِ وبالتَّالي الحرب.

والآن يُعَدُّ متحفُ Dresden للتَّاريخِ العسكريّ المتحفَ الرسميَّ والمركزيَّ للقوَّاتِ المسلَّحةِ الألمانيَّةِ وسيحتوي على معارضَ بمساحةِ 1950.96م2 ممَّا يجعلُهُ أكبرَ متاحفِ ألمانيا. إلى جانبِ كون منطقةِ المتحفِ الجديدةِ تُعدُّ منطقةً مزدحمةً ومزدهرةً بشكلٍ كبيرٍ، نسبةً للفترةِ الزَّمنيَّةِ الطَّويلةِ التي هُجِرَت فيها، ومن هنا يأتي الأملُ بأن يكونَ المتحفُ العسكريُّ الحديثُ نقطةَ انطلاقٍ لتحويلِ المنطقةِ إلى وجهةٍ دوليَّةٍ، ومركزٍ ثقافيٍّ ضخمٍ، فعلى الرّغمِ من كونِه يعرضُ النّقاطَ التَّاريخيَّةَ ضمنَ معارضَ وصالاتٍ خاصَّةٍ، إلَّا أنَّهُ سيتسقبلُ العروضَ والمحاضراتِ والندواتِ الدُّوليَّةَ.

كيفَ تقيِّمونَ هذا النَّوعَ من المداخلاتِ على المباني القديمةِ؟! وهل تحقِّقُ هذه المداخلاتُ غايتَها في إحياءِ تلكَ الأبنيةِ؟ أم أنَّها تسيءُ إلى طابِعها المعماريّ وتفسدُ رونَقَها؟ شاركونا بآرائِكم.

المصدر: هنا