العمارة والتشييد > العمارة والسينما

مدنُ صراعِ العروش حقيقةٌ أم مجرَّدُ خيال؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

ما الذي يجعلُ المدينةَ تختلفُ عن البلدة؟ ما الذي يحدِّدُ الفرقَ بين هاتين المجموعتين المتشابهتين جدَّاً من الأبنيةِ والشَّوارع؟ لماذا نستطيعُ أن نتتبَّعَ تاريخَ البلداتِ فى العصرِ الحجريّ بينما تبقى المدينةُ الأولى لغزاً صعباً؟ على الرُّغمِ من اعتبارِ المدينةِ والقرية متشابهتان إلَّا أنَّ للمدينةِ عنصراً تطوريَّاً يميِّزها ويجعلُها تظهرُ بقوَّةٍ: المواطنين والمجتمع المدني.

فبينما تُعتَبَرُ القرى مجرَّدَ نظامٍ عمرانيٍّ لمجموعاتٍ منَ النَّاسِ تعيشُ سويَّةً، فإنَّ إنشاءَ المدينةِ يعتمدُ على المؤسَّساتِ التي تخدمُ فكرةً محدَّدةً وواضحةً عن المجتمع وعن الالتزامِ بينَ الأفرادِ؛ بهدفِ تنظيمِ هذا العالمِ القائمِ على أسسٍ ومعاييرَ مشتركة.

يعتَبرُ المجتمعُ المدنيّ تحديداً الفكرةَ المعبِّرة عن النِّظامِ الاجتماعيّ وتراكمِ التَّقاليدِ والقوانين والمبادئ والمعتقدات، وهي العناصرُ التي أعطتهُ الإنطلاقة، أمَّا الحضر فهوَ النَّموذجُ العمرانيُّ المكرَّسُ خصِّيصاً لتأطيرِ فكرةِ هذا المجتمع ضمنَ مؤسَّسات. لاحظ أنَّنا لم نتحدَّث هنا عن الأبنيةِ والشَّوارع، بل عن "لحظةِ الـتَّأسيس" وهي أساس المدينة.

كما يقول المؤرِّخ الفرنسي Fustel de Coulanges: "بينما يُعتبرُ المجتمعُ المدنيّ موروثاً عريقاً متراكماً على مدى قرون، فقد تأسَّست المدينةُ في يومٍ واحدٍ، مالئةً إيَّاهُ بالشَّوارعِ والمنازلِ والمحلَّاتِ التِّجاريَّة كنتيجةٍ لذلك".

يقولُ البروفيسور Hermann Minkowski في كتابهِ Vers une cosmologie. Fragments philosophiques:

"يقومُ الإنسانُ بما يستطيع ليصمِّمَ ما حوله بما يعكسُ صورته، بكلِّ ما تحويه من فرديَّةٍ وخصائصَ عامَّة"

في هذا السِّياق ليست المدينةُ تجمَّعَ منازل بل جهازاً كونيَّاً يقومُ بشرحِ: النِّظام – الكون - الاضطراب – الفوضى، والمؤسَّساتُ السياسيَّةُ هي الضَّمان لعملِ هذا الجهازِ وتطبيقِ القوانينِ التي تحكمُهُ؛ لهذا يؤثِّرُ وجودُها على الشَّكلِ التَّأسيسيّ للمدينةِ بشكلٍ مماثلٍ لتأثيرِ الحياةِ الحضريَّةِ والمجتمعِ المدنيّ. وقد عرَّف آرسطو هذا الظَّرف منذُ القرنِ الرَّابع قبلَ الميلاد وقدَّم فعلَ تأسيسِ المدينةِ كفعلٍ مرتبطٍ وخاضعٍ للنِّظامِ السِّياسيّ. ويقترحُ De Coulanges على الأغلب مناظرةً عن إذا ما كانت السِّياسةُ عنصراً لاحقاً وأكثرَ تعقيداً من أن تكونَ عنصراً أساسيَّاً في تشكيلِ المدن.

يقول أرسطو: "مع احترامي للأماكنِ المحصَّنة، إلَّا أنَّها لا تناسبُ جميعَ الأنظمة، على سبيل المثال هيَ مناسبةٌ لحكمِ الأقليَّاتِ أو الأنظمةِ المَلَكيَّةِ المطلقة، أمَّا للأنظمةِ الدِّيموقراطيَّة فالمناطقُ المفتوحةُ هيَ الأفضل، بينما لا ينفعُ هذان الحلَّان معَ الأنظمةِ الارستقراطيَّة بل ما يناسبُها هو تحصيناتٌ متفرِّقةٌ لعددٍ من الأماكن".

اقترحَ المعماريّ Joseph Rykwert في السِّتينات من القرنِ الماضي أنَّ كلَّ هذهِ الأسس السِّياسيَّة والرَّمزيَّة تشتركُ بمجموعةٍ من العناصرِ الشَّائعة، فقد قدَّمَ كلُّ تأسيسٍ لمدينةٍ بدءاً من وادي الفرات إلى اتروريا واليونان وروما والصِّين والهند والصحراء الإفريقيَّة الكبرى والأمريكيين الأصليين واللَّاتينيين في أميركا الجنوبيَّة ما قبل الكولومبيين نظاماً كونيَّاً معيَّناً امتلكَ مركزاً مؤسساتيَّاً ودينيَّاً ومناطقَ مفتاحيَّةً رئيسيَّةً وحدوداً وبوَّابات ومتاهات.

لا يوجدُ الكثيرُ منَ الرُّسومِ التوضيحيَّةِ في هذا المقال، ولكنَّ الرَّسمَ المرادَ التَّعبير عنه مشابهٌ جدَّاً لما قد رسمتموه في مخيِّلتكم، مركز وشوارع وحدود وبوَّابات ومتاهات.

الفرقُ الوحيدُ بينَ الصُّورةِ في ذهنكم وبين الأساسِ الحضريِّ الحقيقيّ هوَ القبولُ غير المشروط بأنَّ هذهِ العناصرِ هي التي شكَّلت النظامَ الكونيّ على الأرض.

حتَّى الآن لم نتكلَّم إلَّا عن التَّاريخ، التَّاريخ بمعنى أنَّكَ تشعرُ بأنَّ هذهِ الطُّقوس والمؤسَّسات بعيدةٌ جدَّاً عن المدنِ الضَّبابيَّةِ الكبيرة والمنتشرةِ التي يسكنُ فيها غالبيَّتنا. إذا كنتَ محظوظاً كفاية لأن تكونَ من سكَّانِ البلداتِ الصَّغيرة، ستكونُ لا تزالُ مرتبطاً بشبكةٍ من الشَّبكات!، بمستنقعِ المعلوماتِ التي تحكمُ الأرض!، فباستثناءِ بعضِ الأماكن المحدَّدةِ كمراكزِ المدنِ التَّاريخيَّة في أوروبا أو ساحات البوليفار في الأمريكيتين، يبدو أن المدينةَ العصريَّةَ عبارةٌ عن نظامٍ من العناصرِ المركَّبةِ أكثر من كونِها حركةً كونيَّةً تضمنُ النِّظام، هذا صحيحٌ بالطَّبع فقط إذا تجاهلنا النِّصفَ الآخرَ من الإنتاجِ الحضريّ في يومِنا هذا: المدن الخياليَّة.

الآن إلى الفقرةِ التي انتظرناها جميعاً منذُ بدايةِ المقال، منذُ العهدِ القديم وصولاً لأغنيةِ A Song of Ice and Fire (1996)، غالباً ما تتطوَّرُ الأعمالُ الخياليَّةُ بسياقٍ حضريٍّ، مدن لا تمتلكُ بطبيعتها التَّعقيد الهزليّ للمدنِ المعاصرة؛ فكلُّ مدينةٍ منَ المدنِ الموجودةِ في كتبِ جورج مارتن George R. R. Martin تمثِّلُ موقعاً سياسيَّاً وطريقةً معيَّنةً في مواجهةِ العالم، وليست مصادفةً أن تصنَّفَ هذه الكتبُ مع الكتبِ التي تحتوي خريطة، هذا النَّوعُ من الكتبِ الذي يعتبرُ أنَّهُ تأسَّسَ مع كتابِ المدينةِ الفاضلة Utopia عام 1516.

تعتبرُ مقدِّماتُ مسلسلِ لعبةِ العروش نجاحاً باهراً في هذا السِّياق، فبغيابِ وجودِ خريطةٍ ملموسةٍ مثل التي ترافقُ الكتاب، يفتتحُ المسلسلُ بالخريطةِ بحدِّ ذاتِها، أرض الممالك السَّبع! حيثُ يتجوَّلُ المشاهدُ من خلالِ هذهِ النَّبذةِ المختصرةِ والإنفوغرافيك المنمنمة، بينَ المدنِ الرَّئيسيَّة واحدةً تلوَ الأخرى حلقةً بعدَ حلقة.

تتوضَّعُ أرضُ الملك King’s Landing على منحدرٍ متوَّجٍ بالقصرِ الملكيِّ العظيم، حيثُ ترتبطُ مكانتكَ الاجتماعيَّة بموقعِ سكنِك، فتنحدرُ كلَّما اتَّجهتَ نحوَ الوادي بعيداً عن القصر. يقعُ مركزُ وينترفيل Winterfell (مملكة الشَّمال) خارجَ القلعة، ونلاحظُ أنَّها على شكلِ شجرة، باعتبارِها مدينةً تكرِّمُ الآلهةَ القديمة. أمَّا الجدارُ هنا ليس (سور المدينة) بل (بوَّابة المدينة)، وهو الذي يحدِّدُ من يكونُ تابعاً للنِّظامِ الاجتماعيّ ضمنَ الممالك ومن هم المنبوذون منها (الهمج).

تصنَّفُ مدينةُ Pentos بأنَّها تلكَ المدينةً (على الجانب الآخر)، حيثُ يتمحورُ وجودُها على أساسِ مواجهتِها لـ (أرض الملك) King’s Landing، فهي تجسِّدُ آخرَ بقايا عائلةِ Targaryen وحلفائِهم Dothrakis على الشَّاطئ المقابل، وتعتبر ملجأً لـ (الآخر).

تستمدُّ جميعُ هذهِ المدنِ (الحضريَّة) شخصيَّتها وصفاتِها من العائلةِ الحاكمة، فهي خياليَّة ولكن مرتبطة بتاريخنا الحقيقي، فالعناصرُ المكوِّنةُ لنشأتِها قويَّةٌ وأساسيَّةٌ وكاشفة، تأخذُ مؤسَّساتها أشكالَ أنظمةٍ سياسيَّةٍ واضحةٍ جدَّاً يمكنُ أن يقرأها المتابعُ منذُ المشهدِ الأوَّل. ويبقى هذا التَّمثيلُ الكلاسيكيّ لتأسيسِ المدنِ على قيدِ الحياة عن طريقِ هذهِ المدنِ الخياليَّة.

لا تزالُ شارةُ البدايةِ بموسيقاها الجميلةِ وخريطتِها التَّفاعليَّة تصيبُني بالقشعريرة في كلِّ حلقة، طبعاً يزدادُ الحماسُ والإثارةُ كلَّما فكَّرتُ في احتمالِ ارتباطِ هذهِ الممالكِ بالواقع.

المصدر:

هنا