المعلوماتية > عام

استحضارُ وجوهِ الغائبين؛ سحرٌ أم تكنولوجيا؟!

في محاولةٍ جديدةٍ لفكِّ شيفرةِ الأوجُه وفهمِ كيفيَّةِ ترميزِها وماهيَّتِها ضمنَ الدِّماغ تمَّ نشرُ بحثٍ نوعيٍّ في الأوَّلِ منَ الشَّهرِ السَّادسِ لهذا العام 2017، يكشفُ كيفيَّةِ قراءةِ العقلِ للأوجهِ المختلفةِ بالنسبةِ للرّئيسيّاتِ ومنها الإنسان طبعاً. وتمَّ اختبارُ هذهِ النَّتائجِ وتوثيقُها من خلالِ إجراءِ التّجاربِ على قردٍ من نوعِ "مَكَاك" وهي فصيلةٌ من قردةِ العالم القديم.

نقلاً عن دوريس تساو "Prof. Doris Tsao" بروفيسور علم الأحياء والهندسة البيولوجية في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا: "لقد وجدنا أنَّ ترميزَ الأوجهِ داخل الدّماغِ بسيطٌ جداً، وبِتْنا الآنَ قادرينَ على قراءةِ وإعادةِ تشكيلِ أيَّ وجهٍ يراهُ قردُ الاختبار، من خلالِ مراقبةِ وتحليلِ الإشاراتِ الدّماغيَّةِ والنَّشاطِ الكهربائيِّ المرتبطِ بمئتين وخمسِ عصبونات فقط ضمنَ دماغِ هذا القرد، ويمكنُ تصُّور تطبيقاتِ هذا الأمر لا سيِّمَا في الطِّبِّ الشَّرعيِّ، إذ يمكنُ إعادةُ تشكيلِ وجهِ المجرمِ منْ خلالِ تحليلِ النَّشاطِ الدِّماغيِّ للشَّاهد".

استطاعَ الباحثونَ في أبحاثٍ سابقةٍ ضمنَ نفسِ المجال تحديدَ المناطقِ الستِّ (six face patches) المسؤولةِ عن قراءةِ الأوجهِ والموجودةِ ضمنَ الجزءِ السّفليِّ من الفصِّ الصّدغيِّ في القشرةِ الدِّماغيَّةِ، إذ تحتوي هذهِ المناطقُ على نوعٍ خاصٍّ منَ الخلايا العصبيَّةِ الّتي تُبْدِي استثارةً عاليةً عندَ رؤيةِ الوجوهِ أكثرَ من اسثارتِها عندَ رؤيةِ أيِّ غَرَضٍ آخر، لذا أُطْلِقَ على هذهِ العصبوناتِ اسم "خلايا الوجه - face cells".

وقدْ كانَ الاعتقادُ سابقاً بأنَّ كلَّ خليَّةٍ منْ هذهِ الخلايا قادرةٌ على قراءةِ ملامِحَ وجهٍ واحدٍ فقطْ، ولكنْ تأتي المفارقةُ هنا بأنَّ الإنسانَ قادرٌ على قراءةِ وتمييزِ ستَّةِ بلايينِ وجهٍ وبكفاءةٍ رغمَ أنَّهُ لا يملِكُ ستَّةَ بلايينِ عصبونٍ من هذا النوعِ، إذاً لا بدَّ من أسلوبٍ آخرَ تستطيعُ من خلالِهِ عصبوناتُ خلايا الوجه قراءةَ الأوجهِ المختلفةِ والتَّمييزَ فيما بينَها.

وقد جاءَ الحلُّ لتلكَ المشكلةِ ضمنَ هذا البحث، إذْ وجدَ الباحثونَ أنَّه يتم تمثيلُ الوجهِ ضمنَ فضاءٍ متعدِّدِ الأبعادِ أطلَقُوا عليهِ "فضاء الوجه - face space" ويرتبطُ كلُّ بُعدٍ منْهُ بأحدِ صفات أو ملامحِ هذا الوجه كلَونِ البشرةِ مثلاً أو البعدِ بينَ العينين أو عرض ِالجبين أو ... إذ أنه وبإسقاط الوجه على كلِّ محورٍ من هذه المحاور نحصل على مسقطٍ يُعبِّر عن شكل الصفة المرتبطة بهذا المحور (حجم العينين مثلاً) إذ يختلف هذا المسقط من وجهٍ لآخر باختلاف الصفة ذاتها بين الوجهين، وبالتالي تستطيعُ هذه الأبعاد التراكبَ فيما بينها بعدَّةِ طرقٍ لتشكيلِ جميعِ احتمالاتِ الأوجهِ الممكنة.

أمَّا عن عصبوناتِ خلايا الوجه الخاصَّةِ بقراءةِ الأوجه، فترتبط كلُّ خليَّةٍ منها ببُعدٍ واحدٍ فقطْ من أبعادِ فضاءِ الوجه، أي أنَّ كلَّ خليةٍ تبدي استجابة معينة تجاه ميزةٍ واحدة من ميزات الوجه، فمثلاً يتم تمثيل ميزة المسافة بين العينين ببعدٍ واحدٍ من أبعاد فضاء الوجه، وبالتالي فإن مجموعةَ عصبونات خلايا الوجه المسؤولةَ عن التعرف على هذه المسافة ستبدي مثلاً استجابةً عالية عندما تكون المسافة كبيرة بين العينين، واستجابةً أقل للمسافة الأقل، كما يكون مسقط الوجه ضمن فضاء الوجه كبيراً بالنسبة للمسافة الكبيرة بين العينين وأصغرً للمسافة الأقلِّ طولاً، وبهذا نلاحظ أن استجابة الخلايا المسؤولة عن ميزةٍ ما، تتناسب مع مسقط الوجه على المحور المرتبط بهذه الميزة.

وقد تمَّ إثباتُ ذلكَ من خلالِ تشكيلِ عددٍ كبيرٍ من الأوجهِ الَّتي تبدو مختلفةً كثيراً فيما بينها (نظراً لاختلافِ عدَّةِ ملامحَ رغمَ تشابهِ ملامحَ أخرى) وباختبارِ استجابةِ عصبوناتِ خلايا الوجه لصور هذهِ الأوجُه وُجِدَ أنَّ الخلايا المسؤولةَ عن محورٍ معيَّن (أحدِ الملامحِ أو الخصائصِ) قدْ أبدَتِ الاستجابةَ ذاتَها لجميعِ الأوجهِ المتماثلةِ بهذهِ الخاصيّةِ، والمختلفةِ بخصائصَ وملامحَ كثيرةٍ أخرى، وأبدت استجابة مختلفةً اختلافاً يتناسب مع اختلاف الخاصية بين مجموعة الأوجه، إذاً فاستجابةُ عصبوناتِ خلايا الوجه هيَ مُجرَّدُ عمليَّةِ قياسٍ لمسقط الوجه على محورٍ واحدٍ فقط (المحور المرتبط بالخلية الخاضعة للقياس) مع إهمالِ جميعِ المحاور المتبقيّة.

بناءً على ذلك يُمكن تحويل صورة وجهٍ ما إلى مجموعةٍ من الإشارات الدماغية من خلال قياس ملامح هذا الوجه وتوليد الإشارة الدماغية المناسبة لكلِّ خليةٍ من خلايا الوجه (ترميز) وبالعكس قراءة مجموعة من الإشارات الدماغية الصادرة عن خلايا الوجه وتحليلها بهدف إعادة تشكيل ملامح الوجه بناء على قياس هذه الإشارات (فك ترميز).

التَّجرِبةُ العمليَّةُ والتَّطبيقُ التِّقنِي

قامَ الباحثونَ بدايةً بإنشاءِ فضاءٍ مكونٍ من خمسين بعدٍ (محور) لتمثيلِ الأوجهِ المختلفة، حيث تمَّ استخدامُ خمسةٍ وعشرينَ بعداً من أصلِ خمسينَ لتمثيلِ الخصائصَ المتعلِّقةِ بشكلِ الوجهِ (المسافةُ مابينَ العينين، مسافةُ خط الشعر، ...) أمَّا الخمسةُ والعشرونَ المتبقيَّة فهيَ لتمثيلِ الخصائصِ غيرِ المتعلّقةِ بالشَّكل (لونُ البشرة، نوعُ البشرة، لون العينين، ...)،

فيما يلي فيديو توضيحي لتمثيل الوجوه المختلفة تبعاً للخصائص المذكورة سابقاً: هنا

بعدَ ذلكَ قامُوا بإجراءِ الاختباراتِ على قردةٍ من نوعِ "مَكَاك"، حيثُ تمَّتْ زراعةُ أقطابٍ كهربائيَّةٍ ضمنَ القشرةِ الدِّماغيَّةِ لها بهدفِ قراءةِ وتسجيلِ الإشاراتِ الصَّادرةِ عن كلِّ عصبونٍ من عصبوناتِ خلايا الوجه، وقامُوا فيمَا بعد بعرضِ صورٍ لوجوهٍ بشريَّةٍ مختلفة. وبيَّنت التَّجربة أنَّ كلَّ عصبونٍ خليَّة وجه كانَ يُسْتَثَارُ بدرجةٍ معيّنةٍ تتناسَبُ مع إسقاطِ صورةِ الوجهِ على محورٍ واحدٍ فقطْ من المحاورِ الخمسين. وبتحديدِ المحاورِ المسؤولةِ عن إثارةِ كل مجموعةٍ من العصبوناتِ استطاعَ الباحثونَ تطويرَ خوارزميَّةٍ قادرةٍ على قراءةِ وفكِّ ترميزِ أيَّ وجهٍ آخرَ يلتقطهُ الدِّماغُ بناءً على قياسِ الاستثاراتِ العصبيَّةِ للخلايا المعنيّة بالنِّسبَةِ للمحورِ المرتبطِ بِها. أي أنَّهُ باتَ بالإمكانِ عرضُ أيِّ وجهٍ أمامَ قردِ الاختبارِ وقراءةِ الإشاراتِ الدِّماغيِّة الخاصَّةِ به وإعادةِ تشكيلِ صورةٍ لهذا الوجهِ بناءً على تحليلِ وفكِّ ترميزِ الإشارات المقروءة من عصبونات خلايا الوجه، وقدْ كانتِ الصّورُُ الأصليُّة والصّورُ الَّتي تمَّ بِناؤها متماثلةً إلى حدٍّ هائل.

والجديرُ بالذِّكرِ أنَّ تحليلَ استجابةِ العصبوناتِ الخاصَّةِ بمنطقتينِ فقطْ من أصلِ المناطقِ السِّتَّةِ المسؤولةِ عن قراءةِ الأوجه "six face patches" كانت كافيةَ لفكِّ ترميزِ الأوجهِ المختلفةِ، ويُقدَّرُ عددُ هذهِ العصبوناتِ بمئةٍ وستِّ خلايا ضمنَ المنطقةِ الأولى، وتسعٍ وتسعينَ خليةً ضمنَ المنطقةِ الثانية، ما يساوي مئتين وخمسٍ من الخلايا العصبية من نوع خلايا الوجه.

"يقالُ أنَّ الصُّورةَ تساويْ ألفَ كلمة، ولكنّني أقولُ أنَّ الصُّورةَ تساوي مئتي خليةٍ عصبيِّة" - دوريس تساو (Doris Tsao)

فيما يلي نتائج الاختبار على ثمانية صور لأشخاص حقيقيين (الصورة على اليسار هي الصورة الأصلية وإلى يمينها الصورة التي تم التنبؤ بها):

المصدر:

1- هنا30538-X

2- هنا

3- هنا