العمارة والتشييد > أيقونات معمارية

سورُ الصِّين العظيم، أصلُ الحكاية

استمع على ساوندكلاود 🎧

يُعتبَر سورُ الصِّين العظيم أحدَ أبرزِ الرُّموزِ التي شهدها تاريخُ الصِّين الطَّويلِ والحافل، وهو جدارٌ دفاعيٌّ واسعٌ شُيِّد على الحدودِ الشَّماليَّةِ للصِّين لحمايةِ الإمبراطوريَّةِ الصِّينيَّة، ويُعتَبرُ أكبرَ المنشآتِ الدِّفاعيَّةِ المبنيَّةِ على الإطلاق.

يتألَّفُ من عددٍ من الجدرانِ المتوازيةِ والحصونِ التي شُيِّدت بفتراتٍ مختلفةٍ امتدَّت لألفَي عام. ورغمَ أنَّ السًّور لم يمنع حقيقةً الغزاة من دخولِ الصِّين، إلّا أنَّه لعبَ دوراً أكبرَ كحاجزٍ يفصلُ بينَ الحضارةِ الصِّينيَّةِ وبقيَّةِ العالم.

تمَّ بناءُ السُّورِ على عدَّةِ مراحلَ منذُ القرنِ الثاني قبل الميلاد ولغايةِ القرنِ السَّابع عشر، حيث بُنيَ الجزءُ الأكثرُ شهرةً وسلامةً حتَّى يومِنا هذا خلالَ فترةِ حكمِ سلالةِ مينغ Ming بينَ القرنين الرَّابع عشر والسَّابع عشر. بطولٍ إجماليٍّ يتجاوزُ 20000 كم، يبدأُ السُّورُ من منطقةِ شانهايغوان Shanhaiguan في الشَّرق وينتهي في منطقةِ جيايوغوان Jiayuguan في الغرب، يتألَّفُ من الجدرانِ ومساراتِ الخيولِ وأبراجِ المراقبةِ والملاجئ، كما ينتشرُ عددٌ من الحصونِ والمعابر على امتدادِ السُّور.

يعكسُ السُّورُ التَّصادمات والتَّبادلات المختلفة التي كانت قائمةً بينَ الحضارةِ الصِّينيَّةِ الزِّراعيَّةِ والحضاراتِ البدويَّةِ القديمةِ المجاورةِ لها، ويقدِّمُ دليلاً ماديَّاً على النَّظرةِ الاستراتيجيَّةِ السِّياسيَّةِ بعيدةِ المدى، والحجمِ الهائلِ للقوَّاتِ الدِّفاعيَّةِ الوطنيَّةِ للإمبراطوريَّاتِ الصِّينيَّةِ القديمةِ، وهو مثالٌ رائعٌ عن العمارةِ العسكريَّةِ الممتازة والتِّقنيَّاتِ والفنونِ التي امتلكتها الصِّينُ القديمةُ، وتتمثَّلُ أهميَّتُه الفريدةُ باعتبارهِ رمزاً وطنيَّاً لحمايةِ أمنِ البلادِ وشعبِها.

التَّسلسلُ التَّاريخي:

تبلورت فكرةُ تشييدِ السُّورِ في عهدِ الإمبراطور تين-شي-هوانغ Qin Shi Huang وهوَ أوَّلُ إمبراطورٍ للصِّين الموحَّدة. كانَ الهدفُ منعُ إغارةِ القبائلِ البدويَّةِ على أراضي الإمبراطوريَّةِ من الشَّمال. بدأت أعمالُ البناءِ في العام 221 ق.م ودُمِج مع السُّورِ عددٌ من التَّحصيناتِ الدِّفاعيَّةِ الموجودةِ مسبقاً. شكَّلَ الجنودُ والسُّجناءُ قوامَ القوى العاملةِ فيه، وتُوفِّيَ العديدُ منهم أثناءَ أعمالِ التَّشييد (يُقَدَّرُ عددُ الوفيَّاتِ بـ 400000) ودُفِنوا ضمنَ الجدار نفسه.

كانَ طولُ الجدارِ في هذهِ المرحلةِ حوالي 5000 كم، ويُعَدُّ أحدَ أكثرِ مشاريعِ البناءِ طموحاً في تاريخِ الحضارات. شُيِّد الجدارُ من الحجارةِ والتُّراب وامتدَّ من ميناءِ شانهايغوان Shanhaiguan حتَّى مقاطعةِ غانسو Gansu، تراوحَ عرض القاعدةِ بين 4.5-15 م أمَّا الارتفاعُ فتراوحَ بين 4.5-9 م، وتُوِّجَ سطحُه بمتاريس حمايةٍ، ووُزِّعت أبراجُ الحراسةِ على امتدادِه.

مع موتِ الإمبراطور تي-شي-هوانغ Qin Shi Huang وسقوطِ سلالةِ تين Qin، تداعى السُّور وساءَت حالةُ العديدِ من أجزائه واحتاجت للتَّرميم، وبعدَ سقوطِ سلالةِ هان Han في العام 220 م، استولت عددٌ من القبائلِ الحدوديَّةِ على شمالي الصِّين. رَمَّمت أقوى هذهِ القبائل الجدارَ ووسَّعته للدِّفاعِ ضدَّ هجماتِ القبائلِ الأخرى، وفي عهدِ مملكة بي-كي Bei Qi (550–577م)، استُصلِحَ الجدارُ لمسافةِ حوالي 1500 كم، أما سلالةُ سي Sui التي حكمت لفترةٍ قصيرةٍ ولكن مؤثِّرةٍ (581–618م)، قامت بترميمِ وتوسعةِ السُّور عدَّةَ مرَّاتٍ.

مع سقوطِ سلالةِ سي Sui ونهوضِ سلالةِ تانغ Tang (618-907م) فقدَ السُّورُ أهميَّتهُ الدِّفاعيَّة، نظراً لأنَّ الصِّين قد هَزمت قبيلةَ توتجيِي Tujue وتوغَّلت في الأراضي التي تقعُ شمالَ السُّورِ خارجَ الحدودِ الأصليَّةِ التي كانَ يحميها. خلالَ حكمِ سلالةِ سونغ Song (960-1279م) هاجمت قبيلتا لياو Liao وتجين Jinالحدودَ الشَّماليَّةَ للصِّين وسيطرت على مساحاتٍ على كلتا جهتي الجدار. سيطرت سلالةُ يِويِن Yuan المنغوليَّةِ القويَّةِ (1368-1206م) التي أسَّسها جنكيز خان على كافَّةِ أرجاءِ الصِّين، وعلى أجزاءٍ واسعةٍ من آسيا وقسمٍ من أوروبا. لم يكن لسورِ الصِّينِ العظيمِ أهميَّةٌ عسكريَّةٌ أو دفاعيَّةٌ تُذكَر بالنِّسبةِ إليهم، ومع ذلكَ فقد زُوِّدَ السُّور بالجنودِ بغرضِ حمايةِ القوافلِ والتُّجَّارِ المسافرين على امتدادِ الطُّرقِ التِّجاريَّةِ المربحةِ التي أُنشِئت خلالَ تلكَ الفترة.

رغم تاريخِه الطَّويل، إلَّا أنَّ سورَ الصِّينِ العظيمِ كما نراهُ اليوم شُيِّد بشكلٍ أساسيٍّ خلالَ حكمِ سلالةِ مينغ Ming (1368-1644م) كما ذكرنا سابقاً. وعلى غرارِ المغول، لم يهتم حُكَّامُ سلالةِ مينغ Ming الأوائل بالتَّحصيناتِ الحدوديَّةِ، فبقيَ الاهتمامُ بالجدارِ محدوداً حتّى العام 1421م حينَ أعلنَ الامبراطور يونغلوِ Yongle بكين كعاصمةِ الصِّينِ الجديدةِ. ازدهرت الصِّينُ خلالَ هذهِ الفترةِ وشهدت قدراً هائلاً من أعمالِ البناءِ شملت السُّور العظيم والجسور والمعابد. شُيِّدَ سورُ الصِّينِ العظيمِ بالشَّكلِ الذي نراهُ اليوم ووُسِّع بدءاً من العام 1474م نظراً للتوسُّعِ الإقليميّ ورغبةِ الحكَّامِ بتعزيزِ الموقفِ الدِّفاعيّ، فكانَ إصلاحُ وتوسعةُ السُّورِ أساسَ هذهِ الاستراتيجية، إذ لعبَ السُّورُ دوراً حيويَّاً بالدِّفاع عن العاصمةِ بكِّين.

في منتصفِ القرنِ السَّابعِ عشر، اقتحمت قبائلُ المانتشو Manchus القادمةُ من وسطِ وجنوبي منشوريا السُّورَ العظيم واحتلَّت بكِّين، معلنةً سقوطَ حكمِ سلالةِ Ming وبدءِ فترةِ حكمِ سلالةِ كينغ Qing (1644-1912م).

أهميَّةُ سورِ الصِّين العظيم:

يُعتبَر سورُ الصِّينِ العظيم أحدَ الرُّموزِ الماديَّةِ التي تعبِّرُ عن القوَّةِ الصِّينيَّةِ، بالإضافةِ إلى ما يمثِّله من حرصِ الصِّينيّين على صدِّ التَّأثيراتِ الثَّقافيَّةِ الخارجيَّةِ والسَّيطرةِ على المواطنين في الدَّاخل.

نتيجةً لإهمالهِ لقرون، تعرَّضت عدَّةُ أقسامٍ منَ السُّورِ للخراب، كما قطعت عدَّةُ طرقٍ السُّورَ بنقاطٍ متعدِّدةٍ، ويقعُ أكثرُ أجزاءِ السُّورِ سلامةً في منطقةِ Badaling التي تقعُ على بعدِ 70 كم شمال غربي بكِّين، وقد أُعيدَ بناؤه وترميمُه في أواخرِ خمسينات القرن العشرين. أدرجت منظَّمةُ اليونسكو سورَ الصِّينِ العظيمِ على لائِحةِ مواقِعِ التُّراثِ العالميِّ في العام 1987 م كأحدِ أكثرِ الأعمالِ المعماريَّةِ أهميَّةً عبرَ التَّاريخ. يجذبُ السُّورُ آلافَ السُّيَّاحِ الأجانبِ والمحليِّين كلَّ يوم.

معاييرُ اختيارِ السُّور من قبلِ اليونسكو كموقعٍ للتُّراثِ الثَّقافيّ:

مشروعٌ طموحٌ بدرجةٍ عاليةٍ من الجودةِ والاحترافيَّةِ في البناء ويشكِّلُ تحفةً فنيَّةً معماريَّة، كما تُعتبرُ عناصرُ الجدارِ بمقياسِها الضَّخمِ مثالاً رائعاً على اندماج العمارةِ مع الطَّبيعة.

يحملُ السُّورُ دليلاً استثنائيَّاً على حضاراتِ الصِّينِ القديمةِ التي تظهرُ تأثيراتُها بوضوحٍ من خلالِ التَّحصيناتِ والمنشآتِ التي شُيِّدت مع تعاقبِ السُّلالاتِ الحاكمة.

تُعتبَرُ هذهِ الممتلكاتِ الثَّقافيَّة المعقَّدة مثالاً فريداً ومذهلاً عن العمارةِ العسكريَّةِ التي خدمت هدفاً استراتيجيَّاً واحداً لحوالي 2000 عام. ويوضِّحُ تسلسلُ مراحلِ بنائِها نجاحَ تقدُّمِ التِّقنيَّات الدِّفاعيَّة وتكيُّفها لتلائمَ سياسات الحكومات المتبدِّلة.

للسُّورِ أهميَّةٌ رمزيَّةٌ فريدةٌ في تاريخِ الصِّين، إذ كان غرضُهُ حمايةُ الصِّينيِّين من الاعتداءاتِ الخارجيَّةِ، والحفاظُ على الثَّقافةِ الصِّينيَّةِ منَ التَّأثُّرِ بعاداتِ الشُّعوبِ الأجنبيَّةِ. وبالنَّظرِ للمعاناةِ التي ترتَّبت على بنائه، مثَّلَ السُّورُ أحدَ المراجعِ الرَّئيسيَّةِ في الأدبِ الصِّينيّ، وتمَّ ذكرهُ في العديدِ من الأعمالِ الأدبيَّةِ مثل نشيد الجندي 200م، وقصائد توفو Tu Fu (712-770م) والرِّوايات الشَّعبيَّة لحقبةِ مينغ Ming.

الأصالةُ والكمال:

يحافظُ سورُ الصِّين على جميعِ العناصرِ الرُّوحيَّةِ والماديَّةِ والمعلوماتِ التَّاريخيَّةِ والثَّقافيَّةِ التي صاغت قيمتَهُ العالميَّة الاستثنائيَّة، ورغمَ الإيمانِ بأهميَّته وضرورةِ المحافظةِ عليه، إلّا أنَّ السَّلامةَ البصريَّةَ للسُّورِ وأصالتَه تعرَّضت للتشويهِ في منطقةِ بادالينغ Badaling من خلالِ تشييدِ عددٍ من المرافقِ السِّياحيَّةِ بقربهِ.

هذا وقد أُدرِجت مختلفُ أجزاءِ وعناصرِ السُّور كمواقعَ تراثيَّة تجبُ حمايتُها بموجبِ قانونِ حمايةِ الآثارِ الثَّقافيَّةِ الصَّادرِ عن جمهوريَّةِ الصِّين الشَّعبيَّةِ. نُفِّذت سلسلةٌ من خططِ التَّرميمِ للحفاظِ على السُّورِ وحمايةِ مختلفِ أجزائه ممَّا يضمنُ الحفاظَ على قيمتِه الاستثنائيَّةِ العالميَّةِ وجميعِ مميِّزاتِه. ونظراً لامتدادِ السُّورِ الطَّويلِ، تطلَّبت الحمايةُ القيامَ بإجراءاتٍ منهجيَّةٍ علميَّةٍ ذاتِ أولويَّات، وذلكَ بغرضِ تحقيقِ علاقةٍ متناغمةٍ ومستدامةٍ بين حمايةِ هذا الإرثِ المعماريِّ من جهةٍ والاقتصادِ الاجتماعيِّ والثَّقافةِ من جهةٍ أخرى.

هل أعجبتكَ حكايةُ سورِ الصِّينِ العظيم؟ ما الذي كنتَ تعرفُهُ منها قبلَ قراءةِ المقال؟

المصادر:

1 - هنا

2 - هنا

3 - هنا