العمارة والتشييد > التشييد

فلسفةُ التَّصميم وراءَ المنشآتِ الجميلة

استمع على ساوندكلاود 🎧

الثَّقافةُ الحديثةُ تميلُ إلى ربطِ جمالِ المنشآتِ معَ المظهرِ الخارجيِّ فقط، لكنَّ الفلسفةَ كانت تسعى دائماً إلى توحيدِ فضائلِ الجمالِ والصَّلاحِ والواقعِ. إذاً كيفَ يمكنُ تقييمُ منشأ معيَّنٍ إن كانَ يحقِّقُ هذه الصِّفات أم لا؟

ضمنَ الدِّراسةِ المرفقةِ لتصميمِ جسرٍ اقتُرِحَ تنفيذُه فوقَ نهرِ Hudsonالتي تمَّ العثورُ عليها في معاملاتِ الجمعيَّةِ الأمريكيَّةِ للمهندسينَ المدنيين في كانونَ الأوَّل 1896، يوجد قسمٌ تمَّت كتابتُه من قبلِ الفيلسوفِ وعالِمِ الرِّياضيّات Charles Sanders Peirce الذي استعانَ بهِ المهندسُ George S. Morison ليساعدَهُ في بعضِ الحساباتِ، بعنوان "إجراءُ تحقيقٍ دقيقٍ لنظريَّةِ الجملونِ الصُّلبِ بمفاهيمَ مستقلَّةٍ كلياً."

وفقاً لمحتوياتِ المخطوطاتِ -المكتوبةِ بخطِ يدِ Peirce- كانت مهمَّتُهُ الأساسيَّةُ تحضيرُ تقريرٍ عن تأثيرِ الأحمالِ الحيَّةِ على المنشأ. تمَّ إيجادُ مسودَّاتٍ كثيرةٍ للدِّراسةِ، حسابات مفصَّلة عديدة ومسودَّات متنوِّعة، لكن ولسوءِ الحظِّ لم يتمَّ العثورُ على الوثيقةِ النِّهائيَّةِ. بالرّغم من ذلكَ، فقد عُثر على مسودَّةٍ كاملةٍ تمثِّلُ المقدِّمةَ، تستحقُّ أن تُقتبسَ كجوابٍ للسُّؤالِ المطروحِ أعلاه.

يقولُ Peirce:

"بعدَ الاتِّفاقِ لحسابِ تأثيرِ الأحمالِ على تصميمِ الجسرِ فوقَ نهرِ Hudson، بدأتُ بدراسةِ مخطَّطاتِ المشروعِ وحينها تأثَّرتُ أكثرَ فأكثرَ وبطريقةٍ غامضةٍ، كَوني الشَّخص المعني بدراسةِ هذهِ الأداةِ التي من شأنِها الرَّفعُ من مستوى الإنسانِ.

إنَّ أيَّ شخصٍ في بدايةِ يومهِ عندما يريحُ عينَيهِ للحظةٍ أمامَ هذا المنظرِ الرَّائعِ ينبغي أن يلفتَ الجسرُ نظرَهُ وأن يفكِّرَ مليَّاً بقيامِ هذا الجسرِ بعملٍ رائعٍ ببساطةٍ وهدوءٍ، محقِّقاً بكلِّ تفاصيلِهِ مبادئَ المنطقِ السَّليمِ والإحساسِ الجميلِ، سوفَ يتلقَّى درساً أخلاقيَّاً تاركاً أثرَهُ على سلوكِهِ لبقيَّةِ اليومِ.

يعلِّمُنا علمُ النَّفسِ الحديثُ أنَّهُ في غيابِ التَّفكيرِ الجادّ فإنَّ تأثيرَ المنظرِ علينا يمكنُ أن يكونَ أكبرَ على العقلِ الباطني -تلكَ القوَّةُ المدهشةُ التي نسمّيها الغريزة هيَ أكبرُ بكثيرٍ منَ النَّفسِ البسيطةِ- لتقومَ تلكَ الأحاسيسُ الجميلةُ بشبهِ حساباتٍ من شأنِها الرُّقيّ بأفكارِ الشَّخصِ واصلةً إلى وعيهِ.

الآن عندما بدأتُ بالحساباتِ سألتُ نفسي ما هو تعدادُ الأشخاصِ الذين سوفَ يتأثَّرونَ بهِ يوميَّاً قرناً بعدَ قرنٍ أو حتَّى ألفيَّةً بعدَ ألفيَّةٍ، وجدتُ أنَّ المجموعَ التامَّ للفائدةِ نسبةً للبساطةِ والكفاءةِ العلميَّةِ لمخطَّطاتِ الجسرِ كافيةٌ لإيقاظِ حتَّى أعمقِ المشاعرِ في نفسِ الإنسانِ.

لتنهضَ الأجيالُ القادمةُ وتمجِّدَ مصمِّمي ومنفِّذي هذا النَّصبِ، وليقوموا بلعنِ هؤلاء الذينَ يحاولونَ تشويهَ تلكَ المناظرِ الطَّبيعيَّةِ بمنشآتٍ بشعةٍ وغيرِ مدعَّمةٍ، التي تمثِّلُ نصفَ شيءٍ والنِّصفُ الآخرُ من شيءٍ آخر، لتحطَّ من قدرِ أرواحِ الأجيالِ القادمةِ مُتعِبَةً ومُعذِّبَةً لنظرِهم.

ألم يكن على كلِّ شخصٍ ساهمَ في هذا الإزعاجِ أن ينتبهَ لذلكَ بشكلٍ جادٍّ؟

القرنُ التَّاسعُ عشر سوفَ يُنظرُ إليهِ على أنَّهُ العصرُ التَّقليديُّ للهندسة -ولكلِّ فنٍّ عصرُهُ التَّقليديُّ- قبلَ أن يتقلَّصَ إلى طموحاتٍ صغيرةٍ، و كلُّ مهندسٍ يأملُ بأن يتوِّجَ القرنَ بنوعٍ رائعٍ وخالدٍ منَ البساطةِ التَّقليديَّةِ. كلُّ أمريكيٍّ يجبُ أن يرغبَ بوضعِ نصبٍ مميَّزٍ كهذا في نيو يورك، على الرّغمِ من أنَّهُ يخشى تحوُّلَهُ إلى سجلٍّ لا يُمحى من الغباءِ والذَّوقِ السيِّئ."

كلماتُ Peirce البليغةُ تضعُ تحدٍّ لكلِّ من يمارسُ الهندسةَ بعدَ ١٢٠ سنةٍ. هل منشآتُنا تعملُ "كأدواتٍ للرَّفعِ من مستوى الإنسانِ" بحيث أنَّها "تطابقُ بكلِّ تفاصيلِها مبادئَ المنطقِ السَّليمِ والإحساسِ الجميلِ؟" كيف سيُنظرُ إلى القرنِ الحادي والعشرين من قِبَلِ "الأجيالِ القادمةِ" فيما يتعلَّقُ "بالمصمِّمين والمنفِّذين لمنشآتِ هذا القرن؟ هل تقلَّصت هذهِ المهنةُ بشكلٍ دائمٍ إلى "طموحاتٍ صغيرةٍ" في هذهِ الفترةِ من تاريخِها أم أنَّهُ لم يفت الأوانُ بعد لتقديمِ "نوعٍ دائمٍ و رائعٍ من البساطةِ التقليديَّةِ"؟

المصدر: هنا