الفيزياء والفلك > علم الفلك

مسرحيّة دراميّة كونيّة أبطالها عناقيد المجرّات

عادةً، لا يَخْلو النّصُّ المسرحيُّ أو الرّوائيُّ من عنصرِ الصّراعِ والتّصادمِ بين الشّخصيّات، وهو عنصرٌ مهمٌّ يُضفي لمسةً جميلةً ومهمّةً تجعلُ منَ الأحداثِ أكثرَ إثارةً. ونصُّ المسرحيّةِ الّذي سنسرده لكم هنا سيضمُّ هذا العنصر أيضًا، إلّا أنّه مختلفٌ بعضَ الشّيء عن المألوف. فأبطالُ مسرحيّتنا ليسوا نجومَ سينما ولا نجومًا حقيقيّين، بل عناقيد المجرّات (Galaxy clusters) !

عناقيدُ المجرّاتِ هي مجموعةٌ من المجرّاتِ المُتَرابِطةِ مَعَ بعضِها بفعلِ الجّاذبيّةِ والمادةِ المُظلمةِ؛ حيثُ يمكن اعتبارُها جسمًا واحدًا على المقاييسِ الكونيّة. أحيانًا تقتربُ هذه العناقيدُ من بعضِها ويحصلُ تصادُمٌ فيما بينها وتتداخلُ المجرّاتُ مع بعضِها في رقصةٍ طويلةٍ تستمرُّ لملياراتِ السّنين، وتنتهي هذه الرّقصةُ بعنقودٍ واحدٍ ضخمٍ ناتجٍ عن اندماجِ العناقيدِ المُتصادمة.

مثلُ هذه الأحداث تُعدُّ كنزًا ثمينًا بالنّسبةِ للعُلماء، لما تفصح عنهُ من معلوماتٍ قيّمةٍ عن تطوّرِ العناقيدِ وتشكُلِّ المجرّاتِ والمادةِ المُظلمة. سنذكر لكم خِلالَ مقالنا مثالَين عن تصادمِ عناقيدِ المجرّاتِ.

المثالُ الأوّلُ هو عنقودُ المجرّاتِ الّذي يُطلقُ عليه: Abell115 ويبعدُ عنّا 2.4 مليار سنةٍ ضوئيّة؛ وهو ناتجٌ عن تصادمِ عنقودَينِ هائلَينِ منَ المجرّاتِ، كلٍّ منهُما يحوي على مئاتِ المجرّاتِ المُشابهةِ لمجرّتنا. يعتقد العُلماءُ أنّ هذا التّصادمِ هوَ أعنفُ التّصادماتِ الّتي حدثت في الكونِ منذُ الانفجارِ العظيم.

قامَ علماءُ فلكٍ من جامعة كولورادو بمراقبةِ عنقودَي مجرّاتٍ عملاقَين اصْطَدَما فيما بينِهما ونتجَ عنهما هذا العنقود.

كانت النّتائجُ الّتي تمخّضت عَنْ هذا البحثِ مفاجِئَةً وغيرَ متوقّعة. إِذ تبيّنَ أنَّ هناك منطقةً "عنيفةً" نتجت عن هذا التّصادمِ. هذه المنطقةُ تتكوّنُ من الغازاتِ السّاخنةِ الّتي تصلُ درجةُ حرارَتِها إلى 1.7 مليون درجةٍ مئويّة، وهي أسخن بثلاثِ مرّاتٍ تقريبًا من مراكزِ عناقيدِ المجرّات.

يَعتقدُ العُلماءُ أنَّ هذه الحرارةَ ناتجةٌ عن تحويلِ الطّاقةِ الحركيّةِ الهائلةِ النّاتجةِ عن تصادمِ العناقيدِ إلى طاقةٍ حراريّة.

لدراسة هذه الظّاهرة صمّمَ العُلماءُ مُحاكاةً حاسوبيّةً لهذا التّصادم، وأجروا هذه المُحاكاة بالاستعانة بأحدِ الحواسيب العِملاقة التّابعة لوكالة ناسا. أظهرت هذه المُحاكاةُ (بالإضافة إلى الحرارة العاليّة) أنّ عنقودَ المجرّاتِ، الّذي نتجَ عن التّصادم، يُصدرُ كميّاتٍ كبيرةٍ من الأشعّةِ الرّاديويّة إلى الكون. هذه الإشعاعات الرّاديويّة ناتجةٌ عن حركةِ الإلكتروناتِ ضمنَ الحقلِ المغناطيسيِّ للعنقودِ الّتي تتحرّكُ في الفضاء بسرعاتٍ قريبةٍ من سرعة الضّوء. على ما يبدو، تمَّ تحفيزُ هذه الإكتروناتِ وتزويدها بطاقةٍ هائلةٍ نتيجةَ الانفجارِ الّذي حصلَ والّذي كما ذكرنا آنفًا يُعدُّ من أعنفِ وأكبرِ الانفجاراتِ منذ الانفجار العظيم.

يعتقدُ فريقُ البحث أَنَّه في النهايّة سيرتاح العنقودُ المجرّيُّ Abell115 وسيستقرّ على شكلّ عنقودٍ ضخمٍ من المجرّات المُتكاثفة في مركزه، وهو مشهدٌ مُملٌّ مقارنةً بالحركةِ التي يرصدُها العُلماء اليوم.

العنقود الثاني الذي سنتحدّث عنه هنا هو MACS J0416، وهو عنقودٌ هائلٌ نتج عن تلاقي عنقودين قبل مليارات السّنين. ويبعد عنا 3.4 مليار سنة. يتميز هذا العنقود عن غيره من العناقيد باحتوائه على كميّاتٍ كبيرةٍ من المادة المُظلمة. حيثُ مكّنت هذه الخاصّة العُلماءَ من تصويرِ تأثيرهِا بشكلٍّ واضحٍ كما هو مبيّن في الصّورة.

المادةُ المُظلمةُ هي مادةٌ غامضةٌ لا يعرفُ عنها العُلماءُ شيئًا يُذكرُ وتشكّلُ 27% من مجموعِ الطّاقةِ في الكون، بفضلها تبقى النّجومُ في مجرّاتها ولا تتشتّتُ بعيدًا عنها. وهي شفافةٌ لأبعدِ الحدودِ ولا تتفاعلُ مع الضّوءِ أبدًا إلّا بطريقةٍ واحدة.

بسبب كتلتها الكبيرة فإنّها تُسبّبُ انحرافَ الضّوءِ عندما يمرُّ خلالَها في ظاهرةٍ تُعرف باسم Gravitational lensing، أي أنَّ المادةَ المُظلمةَ يمكن أن تعملَ مثل العدسةِ بسبب جاذبيّتها. معظمُ معلوماتنا الشّحيحة عن هذه المادةِ استنتجناها من هذه الظّاهرة.

الصّورُ الّتي حصلَ عليها العلماءُ كانت بذرة العمل على دراسة هذا العنقودِ بالاستعانةِ بثلاثِ تلسكوباتٍ، لهذا السّببِ نتجت هذه الصّورةُ المركّبةُ من ثلاثةِ صورٍ:

- الصّورةُ الأولى: من تلسكوب هابل الفضائيِّ وهي صورةُ المجرّاتِ والنّجوم الّتي نراها في الخلفيّة.

- الصّورة الثانيّة: من تلسكوب تشاندرا للأشعة السّينيّة وتظهر على شكلّ انبعاثاتٍ متشتّتةٍ باللّونِ الأزرقِ (تمَّ تلوينها بالأزرق اصطلاحًا لأنّه لا يوجدُ لونٌ للأشعةِ السّينيّةِ عند البشر). وهي تُظهر وجودَ غازاتٍ في هذه المنطقة.

-الصّورةُ الثّالثة: تمَّ التقاطها بمصفوفةِ التلسكوبات NRAO (Jansky Very Large Array) للأشعةِ المنبعثةِ والمنتشرةِ وتمَّ تلوينها باللّون الزّهريّ.

كما ذكرنا آنفًا فإنَّ المادةَ المُظلمةَ تؤدّي إلى انحرافِ الضّوءِ وترك بصمةٍ واضحةٍ من خلالِ تشويهها لخلفيّةِ صور المجرّات. هذا العنقودُ يحوي الكثيرَ من المادةِ المُظلمةِ وعرفنا ذلك من خلال دراسة المجرّات المشوّهة الواقعة خلف العنقود (ظاهرةٌ على شكلّ خطوطٍ طويلةٍ منحنيّة).

لاحظ العُلماءُ أنَّ شكلَّ المادةِ المُظلمةِ مُنسجمٌ مع الهالةِ الزّرقاء. مما يدلُّ على أنَّ المادةَ المُظلمةَ والغازاتِ لم تتشتّت نتيجةَ التّصادم، ربّما لم يحدث التّصادم بعد!! فلو كان التّصادم قد حصلَ فعلًا، لكانت المادّةُ المظلمةُ والغازات تشتّتا وانفصلا.

للمزيد من المعلومات:

تلسكوب تشاندرا: هنا

تلسكوب هابل: هنا

كيف يتم حساب كتلة عناقيد المجرات: هنا

المصادر:

هنا

هنا