الفيزياء والفلك > علم الفلك

رصد ظاهرةٍ كونيّة فريدة بمساعدةِ حيلةٍ صغيرة لأينشتاين

استمع على ساوندكلاود 🎧

أمواج الجاذبيّة هي اضطراباتٌ في نسيج الزمكان، لعلّلك سمعت هذه العبارة مرارًا وتكرارًا، لكن ما هو نسيج الزمكان وما هي أمواج الجاذبيّة؟

دعونا نحاوِل تصوّر نسيج الزمكان بدايةً بتخيّل أنّهُ ملاءة سرير! إنّ وضع كرةٍ صغيرة على سطح ملاءة السرير لا يُغيّر شكلها كثيرً، وإذا مرّرت كراتٍ أخرى بالقرب منها فإنها لن تتأثر كثيرًا بوجود الكرةِ الصغيرة. ولكن إذا وضعت جسمًا أكبر وأثقل على سطح الملاءة فإنّ ذلك سيشوّه شكلها العام ويجعل الملاءة تنحني أكثر بكثير. فإذا مرّرت كراتٍ صغيرة بالقرب من الحفرةِ الّتي صنعها الجسم الثقيل على الملاءة فإنّ الكرات الصغيرة ستتأثر وقد تتهاوى داخل هذه الحفرة.

هكذا تعمل الجاذبية، نعم!

لا تجذب الأشياء بعضها البعض ولكنها في الحقيقة تتبعُ انحناء نسيج الزمكان، الّذي ينشأُ بتأثيرِ الأجسام الكونيّة الأكبر كتلةً. فالأرض مثلًا تنجذب إلى الشمس بسبب بئر الجاذبية الّذي تشكلهُ في نسيج الزمكان.

كان العالم الألمانيّ ألبِرت أينشتاين أول من تنبّأ بهذه الظاهرة، من خلال نظريّته عن النسبيّة العامة والتي تفترض أنّه من الممكن للأجسام أن تتأثّر بانحناء نسيج الزمكان، والّذي ينشأُ بدوره عن تأثيرِ الأجسام الكونيّة الأكبرِ كتلةً. واعتقد آينشتاين أنّ هذا الأمر قد يحدث أيضًا للضوء، بمعنى أنّهُ مِنَ المُمكِن أن يَنحني الضوء الصادر عن نجمٍ ما عِند مُرورِه بِجانب جرمٍ فلكيٍّ ذي كتلةٍ عظيمة، الأمر الّذي يُضاعفُ ضوءَ النجمِ أثناء وروده إلينا.

بمعنىً آخر، ينحني الضوء بِسبب الكُتلة، تمامًا كما ينحني داخِل العدسات الزجاجيّة. وبالتالي، يُمكنُ لِثقبٍ أسودَ أو مَجرّة ​​أو أيةِ أجرامٍ سماويةٍ ذات كُتلةٍ هائلة أن تَجمعَ الضوءَ مِن الأجسامِ الموجودةِ خلفَها، و تقوم بمضاعفة ضوئها وتركيزه، الأمر الّذي يمكننا من رؤية الأجسام الكَونيّة صّغيرة الكُتلة والّتي لا يمكننا رصدها عادةً بسبب خفوتِها أو بُعدِها الكبير عنّا، لذلك فهي مفيدةٌ جدًا بالنسبة للفلكيين. تُسمّى هذه الظاهرة باسم "التعدّس" أو "التحدّب" بفعل الجاذبيّة، وهي ظاهرةٌ لا يُمكننا التحكُم بها، لأنها تحدث بشكلٍ تلقائيّ. يُسمّي العُلماء الكُتلةََ الهائلةََ الّتي تُسببُ انحراف الضوء، باسم "العدسَة الجاذبة" أو "العدسة الثقاليّة"لأنها تتصرّف كالعدسة الزجاجيّة.

الأمر المثير للدهشة أنّ واضع النظرية نفسَه لم يكن لديه الإيمان بإمكانيّة رصدِ شيء كهذا. ذكر آينشتاين في مقالةٍ له نُشرت في مجلة العلوم Science في العام 1936: "لا يوجد أملٌ برصد هذه الظاهرة بشكلٍ مباشر". أما نحن اليوم في العام 2017، فهل مكننّا التقدم التكنلوجيّ الذي قدمته لنا السنين من نفيّ كلامِ عظيم الفيزياء أينشتاين وفي نفس الوقت إثبات نظريّته؟

في الواقع أجل! فقد تمكّن فريقٌ دوليٌّ من الباحثين من رصد ظاهرة التحدّب الضوئي بفعل الجاذبيّة عندما حدثت لنجمٍ بعيد. استخدم الفريق بقيادة كايلاش ساهو Kailash Sahu مقرابَ هابل الفضائيّ لتصوير نجمٍ يقع بالقرب من أحد الأقزام البيضاء يُسمّى Stein 2051 B.

تمكّن العلماء من رصد ظاهرة التحدّب لأول مرة عام 1919 أثناء كسوفٍ شمسيٍّ. إذ رصد العالم آنذاك انحناء الضوء الصادر عن الشمس حول القمر. هذه الأرصاد أعطت الشرارة الأولى لإثبات صحة النظرية النسبية العامة لآينشتاين، في حين تمكّن فريقٌ من الباحثين عام 2016 من رصدِ قزمٍ بنيّ اعتمادًا على هذه الظاهرة (رابط المقال هنا)؛ واليوم وبعد أكثر من مئة عام أعاد فريق كايلاش إثبات نظرية النسبية العامة عن طريق الاستطلاعات التي قام بها مؤخراً.

علاوةً على رصد الظاهرة، مكنتنا الطريقةُ التي اتبعها كايلاش من حساب كتلة القزم الأبيض Stein 2051 B. الجدير بالذكر أن حساب كتلة القزم سابقاً كان شبه مُستحيل. والمثير في الأمر أنه يمكن استخدام هذه الطريقة لأي نجمٍ يمرُّ بالقرب من نجمٍ آخر! الأمر الّذي يفتح لنا نوافذ جديدةً نُطلّ منها على الكون. إذ أن العصر القادم، هو عصرُ المقاريبِ العملاقة، وسيكون عصر رصد الظواهرِ الفلكيّة النادرة. فالرّصد الذي قام به فريق كايلاش أثبت أن لا شيء مستحيل، حتى ولو كان هذا رأي أهم عمالقة الفيزياء السابقين.

المصادر:

هنا

هنا

هنا