البيولوجيا والتطوّر > التطور

البلاتيبوس! ثلاثة حيوانات بحيوان واحد!

استمع على ساوندكلاود 🎧

البلاتيبوس (Platypus ) أو خلد الماء أو منقار البطِّ، واحدٌ من عائلتين من الثدييات البيوضة التي لاتزال على قيد الحياة. ربما تعتقد أنَّك قرأت الجملة بشكل خاطئ، لكن دعني أطمئنك بأنَّ ما قرأته صحيح. فهناك مجموعة من الثدييات تسمى أحاديات المسكن أو الكاظميات (Monotremata) والتي انشقَّت عن غيرها من الثدييات في مرحلة مبكرة بسبب وجود صفات الزواحف في أجدادها. للمزيد عن كائنات هذه المجموعة:

هنا

يُصنَّف البلاتيبوس أو خلد الماء مع الثدييات لاشتراكه معها بعدَّةِ صفات كالجسم المكسو بالفرو أيضاً بشكل خاص إنتاج الحليب، ولكن ليس هذا فقط ما يضفي عليه صفة الغرابة، فمنقارهُ قصة أخرى، لهذا المنقار نظامٌ حسيٌّ كهربائيٌّ متطورٌ يستخدمه في البحث عن الغذاء تحت الماء (صورة 1). ليس هذا فحسب، للذكور نتوء صغير (مهماز) على كاحل كل من قدميها الخلفيتين ينتج سماً أثناء صراعها مع أعدائها من أجل التزاوج أو المسكن في فصل التكاثر (صورة 2). أما هيكله العظمي فيشابه هيكل الزواحف كثيراً حيثُ أنَّ أطرافه تقع على جانبي الجسم وليس تحته (صورة 3).

صورة (1)

صورة (2)

صورة (3)

يقدم خليط الصفات هذا في جينوم البلاتيبوس الكثير من الأدلة؛ إذ يمكن للمقارنةِ بين جينوم البلاتيبوسوجينومات كلٍّ من الإنسان وغيرهِ من الثدييات وجينومات الطيور، أن تساعد العلماء على سدِّ الثغرة في فهم تطور الثدييات والسماح لهم بتحديد الوقت الذي ظهرت فيه الصفات والمورثات الخاصة بها؛ إذ يمثل البلاتيبوس أقرب فرعٍ من سلالة الثدييات التي انحدرت من الأجداد الأوائل الذين يتمتعون بسمات كلٍّ من الثدييات والزواحف قبل نحو 166 مليون سنة، "والمميز في البلاتيبوس هو احتفاظه بصفات متداخلة بين تصنيفين مختلفين جداً، في حين فقدت الثدييات اللاحقة خصائص الزواحف". في المقال التالي تجدون موجزاً عن تطور الحياة منذ الانقراض البرمي وحتى انقسام الثدييات المشيميةهنا

وبالفعل، وُضِعَ التسلسل الخاص بجينوم أنثى البلاتيبوس والي تسمى Glennie، وقورِنَ مع جينوم البشر والفئران والكلاب والأبوسوم والدجاج، فوُجِدَ أنَّ نسبة التشابه 82%. لكن ماذا عن تفاصيل هذه المقارنة الجينومية؟ وما هي سمات جينوم البلاتيبوس؟

يبلغ حجم جينوم البلاتيبوس نحو ثلثي حجم الجينوم البشري ويحوي قرابة 18500 مورثة شأنه في ذلك شأن باقي الفقاريات، ولديه 52 صبغي (بينما يبلغ عدد الصبغيات عند البشر 46) عشرة صبغيات منها هي صبغيات جنسية (بينما يبلغ عدد الصبغيات الجنسية عند الإنسان صبغيين فقط). الغريب هنا أنَّ الصبغي X عنده يشبه الصبغي الجنسي للطيور والمعروف بالصبغي Z (فالجنس يُحدَّدُ عند الطيور وبعض الأنواع الأخرى عن طريق النظام ZW بدلاً من النظام XY المعروف)*.

كانت سَلسَلة (والسلسلة هي بشكل غير دقيق معرفة بنية الجينوم) جينوم البلاتيبوس وتجميعه أكثرَ صعوبةً مقارنةً بجينوم أيِّ حيوانٍ آخر حتى الآن، لأن حوالي 50% من جينومه يتألَّف من عناصر متكرِّرةٍ من الـ DNA، ما يجعل تجميعه أمراً صعباً، ومع ذلك استطاع الباحثون التوصل إلى بعض الاستنتاجات:

• وجد الباحثون المورثات المسؤولة عن وضع البيض (وهي سِمةٌ تميز الزواحف أيضاً) والمورثات المسؤولة عن الإرضاع (سِمَةٌ تميِّزُ الثدييات). ومن اللافت للنَّظر أنَّ البلاتيبوس يفتقر لوجود الحلمات لذا ترضع الإناث صغارها من مناطق محددة أسفل بطنها.

• لمعرفة أيِّ الخصائص التي ترتبط بالزواحف على مستوى الحمض النووي، حلَّل الباحثون التسلسلات المورِّثيَّة المسؤولة عن إنتاج السُّم في الذكور (سِمَةٌ تميِّز الزواحف)، فوجدوا أنَّها تنشأ من تكرار مجموعةٍ من المورثات التي تطورت من جينوماتِ أحد أسلاف الزواحف، ومن المذهل أنَّ التكرارات في ذاتِ المورثات قد تطورت بشكل مستقل في الزواحف السامة على ما يبدو.

• يسبح البلاتيبوس بعيونٍ وآذانٍ وفتحات أنفٍ مغلقةٍ معتمداً على مستقبلات كهربائية حسيَّة في منقاره للكشف عن الحقول الكهربائية الضعيفة التي تحدثها الفريسة تحت الماء، وقد وجد العلماء أنَّ الجينوم يحتوي الكثير من المورثات التي تشفِّرُ (أي تعطي التعليمات لصنع) لنوعٍ محدد من المستقبلات الشمية وهذا أمر غريب، فمن المُتوقَّع وجود القليل منها لكون هذا الحيوان يقضي معظم حياته تحت الماء. حيث أنَّ مثل هذه المورثات توجد في الحيوانات التي تعتمد على حاسة الشم مثل القوارض والكلاب؛ ولذا فالعلماء يشكِّكون في أنَّ وجودها في البلاتيبوس بكثرة هو بهدف الكشف عن الرائحة أثناء البحث عن الطعام تحت الماء.

الآن وبعد أن تحدثنا قليلاً عن سمات هذا الكائن الغريب، هل يمكن الاستفادة منه في مجال آخر غير التطور؟

في الحقيقة، يحاول الباحثون ذلك، ومثالنا هنا عن محاولة الاستفادة من سُمِّ البلاتيبوس في إيجاد علاج لداء السكري من النمط الثاني، فما تفاصيل هذا البحث؟

يُنتَجُ الهرمون GLP-1 الذي يحرِّضُ على إفراز الأنسولين لخفض سكر الدم، في القناة الهضمية للإنسان والبلاتيبوس وآكل النمل (Chinda)، حتى الآن لا غرابة في ذلك، لكنَّ الغريب في الأمر أنَّ هذا الهرمون يُفرَزُ في سُمِّ هذين الحيوانين أيضاً، لكن تختلفُ مهمة الهرمون GLP-1 المُنتَج في القناة الهضمية عند البلاتيبوس عن مهمة الهرمون نفسِهِ المنتج في السُّمِّ، فالأولى هي تنظيم سكر الدم أما الثانية فهي لصدِّ الذكور الآخرين خلال موسم التكاثر.

وما حاجتنا إلى هرمون البلاتيبوس إن كنا نصنعه نحن؟

الفرق بين الهرمونين يكمن في ديمومة (مدة البقاء بالشكل الفعَّال) كلٍّ منهما، فعند الأشخاص المصابين بالسكري من النمط الثاني، لا يدوم هرمون GLP-1 طويلاً بينما يدوم الهرمون المنتج في سم البلاتيبوس مدةً أطول (نظراً للوظيفة الدفاعية التي تحدثنا عنها). وقد ألهم هذا الفرق الجوهري الباحثين حول إمكانيَّة تطوير علاجٍ للسكري من النمط الثاني، ولكن الأمر لا يزال بحاجة إلى المزيد من الأبحاث.

عالم الحيوانِ واسع جداً ويلفه الكثير من الغموض رغم الجهود التي تُبذَلُ لسبرِ أغواره، وما البلاتيبوس سوى كائنٍ من كائناتٍ عدَّةٍ في هذا الكون مترامي الأطراف الذي ما زلنا بحاجة إلى الكثير من الأبحاث لكشف النقاب عن أسراره التي لا تنتهي.

الحاشية:

*النظام XY: لتحديد الذكورة والأنوثة هو نظام يعتمد على مبدأ بسيط: الفرد الذي يملك نسختين من الصبغي X أي XX هو أنثى أما من يملك صبغي X وصبغي Y أي XY فهو ذكر (والعامل الحاسم هو Y فلو امتلك شخص نتيجة مرض XX و Y في نفس الوقت فهو ذكر) وهذا النظام موجود في معظم الثدييات.

أما النظام ZW فهو مؤلف من صبغي Z وصبغي W وهو موجود في الزواحف والطيور والأسماك وبعض الحشرات، يكون فيه النمط ZZ موجوداً في الذكور والنمط ZW في الإناث.

المصادر:

1 - هنا

2 - هنا