الفنون البصرية > فن وتراث

العرس الشامي. كيف نظمته جدّاتنا؟

تتباهى الدمشقياتُ بحفلات زفافهنّ، فتراهُنّ متجمهراتٍ حولَ ألبوم صور العروس، يقلّبن الصور ويتذكّرن ذكرياتِ حفلةٍ دامت ساعتين فقط، ولكنها تُمثلُ لهنّ أسمى معاني الأنوثة والخيال، فهذا ما ورثْنَهُ عن جدّاتهنّ من قبل، لم تتغير أعراس الدمشقيين كثيراً عن السابق، إذا ما استثنينا التكنولوجيا. وعلى وقع مقارنة الماضي بالحاضر، يقفزُ سؤالٌ ملحٌّ تفرضه الدراما السورية؛ هل كانت ليلةُ العمر بالنسبة للدمشقيات فيما مضى بهذا الشكل حقاً؟ سؤالٌ محيّر في الحقيقة، من هذا المؤرخ الذي سيسجّل حفل زفاف النساء في كتابه؟ هل سيدخل إلى داخل البيت ويشاهد ماذا يحدث؟ بالتأكيد لا، فهو غير مضطر، حيث كل الرجال ستفهم قصدي، إذا لا تنسى المرأةُ ليلةَ العمر طيلة الفترة الاولى من زفافها فتبقى تذكرُه وبالتفصيل لزوجها، فكيف له أن لا يكتب عن أفراح الدمشقيات داخل البيوت؟

يأتي الفرحُ على وقْع الموسيقى العربية الحديثة، تتناوبُ السيّدات في دمشق الرقصَ والفرح والاحتفال بعروسين يجلسان على المنصة، يختمان سوياً مشواراً طويلاً من العزوبية، ليصبحا روحاً واحدةً في جسدين، حيث طريقٌ جديدٌ من الحياة بانتظارهما، ليلةُ الزفاف والفرح، تعدّ قصيرة من حيث التوقيت إذ لا تتجاوز فترة الاحتفال ضمن الصالات المخصصة لهذه المناسبات أكثر من ساعتين، لكن الدقائق فيها تمرُّ رويداً رويداً على العروسين، لتبقى ذكرى حميدة الوقع عليهما، مستبدلةً عواطف الخطوبة الوردية الصافية، بعواطف الزوجية الأزلية.

وبين صخب العواطف هذا نطرح السؤال، منذ متى يقيمُ الدمشقيون حفلاتِ الزفاف بهذه الطريقة؟ سؤالٌ حاولت الدراما السورية الإجابة عليه، ولكنها شكلت نمطاً عاماً وسارت عليه في شرح آلية الزفاف عند الدمشقيين تاريخياً، متجاوزةً الكثير من الفنون والعادات والتقاليد، التي برعت الجدّات الدمشقيات في ابتكارها، تلك الرابطة الأبدية التي تربط بين زوجين، كان لها عنصرها الخاص في تاريخ دمشق.

يذكر البروفيسور في جامعة بون يهوشوا فرنكل في كتابه “Mamluk Ulama on Festivals and Rites of Passage: Wedding Customs in 15th century Damascus”، أو “علماء المماليك، مهرجان وطقوس العبور: عادات الزفاف في القرن ال 15 في دمشق”، تفاصيل كثيرة عن الأعمال والعادات في ليلة الزفاف، وأهمّ التحضيرات التراثية التي يقوم بها سكان عاصمة بلاد الشام ويقول هنا: “يبدأ الأمرُ بتفاوض العائلتين، فإذا ما نجحت هذه المفاوضات يكون هذا الاتفاق بمثابة خطوة رسمية أولى تقومُ بها الأُسرتان لِلَمّ شمل ولديهما، حيث يُؤتى بمنديلٍ من حرير، مكتوبٌ عليه عقد الزفاف، يوقّع عليه الوالدان، كجزءٍ أساسي من الخطوبة، حيث يكون للموسيقيين دورٌ في كبيرٌ في إدخال البهجة والسرور، وفي نفس الوقت موسيقاهم المميزة تسهمُ في إسماع أهل الحيّ بأن خطوبة قد قامت هنا، فيحتشدُ الجيران لمشاهدة الموسيقيين وهم يعزفون ألحان الفرح، وتسمى هذه خطوبة، وغالبا ما تكون في بيت عائلة العروس”.

أما يوم الزفاف، فترتدي العروسُ أفره ثيابها وأحلاها، وتتزيّن بالحليّ والعطور، ويصفف شعرها السبل والجميل بأفضل طراز ممكن في ذلك الزمان، وتعاونها في الصفّ نساء أسرتها، أما العريس فيرسل نساء أسرته لجلب العروس من منزلها، حيث يتجمهرُ الناس في الزقاق وهم يشاهدون العروس تطلّ على عائلتها الجديدة لتغادر من بيت أبيها إلى بيت زوجها، تاركةً خلفها كل ذكريات الطفولة الجميلة التي قضتها في هذه الدار السعيدة، منتقلةً إلى دار زوجها، حيث لن تعود طفلة أبداً، بل ستصبح امرأة وربّة منزل وتكوّن أسرتها الخاصة، ويصبح أهلها الحقيقين هم زوجها وأطفالها المستقبليين، وأما والداها وأخوتها، يصبحون أقاربها فهي لا تنساهم ولكن الحياة دائما تسير للامام.

وفي هذا المشهد يضيف فرنكل: “يكون الاجتماع بين الطرفيين، النساء اللاتي جئنَ لأخذ العروس إلى بيت العريس، والنساء اللواتي كُلّفنَ من أهل العروس بتسليمها لنساء من أهل العريس، حيث يكون هذا اللقاء قد دُبّر قبل يوم الزفاف، حتى يذكر الحاضرين بأن المفاوضات بين العائلتين كانت صعبة وأن العريس لم يحصل على الموافقة بسهولة إلا بعد أن أرضى أهلها وأقنعهم برجولته”، ويتابع “ويقوم أهلُ العروس بدعوة النساء لوليمة رئيسية تقدّم فيها الأطباق من لحم الماعز أو أي لحمٍ آخر”.

وما أن تنتهي هذه المأدبة حتى ينطلق موكبُ العروس جنباً إلى جنب مع الهدايا التي اشتراها العريس لها، ويقصد بهذا الموكب إظهار ثروة أهل العريس، وترتدي العروس على رأسها غطاءً من ثلاث طبقات يعرف لدى الدمشقيين بـ “الشربوش”، ويرافقها في الموكب الرجال والنساء على طول الطريق احتفالاً بها، مستخدمين أصواتهم العالية وهتافاتهم الشعرية المميزة كنوع من المساعدة التي يقدمها العامة من أجل الإسهام في إدخال البهجة والسرور على قلب العروس التي تكون حزينة في تلك اللحظات لمغادرة بيت أهلها.

أما بيتُ العريس، فيتم تزيينُه وتطييبُه، وتُغطّى أرضيتُه بالسجاد، وتُضاءُ المصابيح، ومن وراء الستار تتقدم أختُ العريس وتضعُ تاجاً على رأس العروس، وتحيط بها بالشموع ويقوم الموسيقيون بضرب الدف، ويقترب منها العريسُ ويقبّلُها من جبينها، هنا يقف الحاضرون لأجلها ويقومون وينثرون المال عليها. ثم تجلبُ العروس هديتَها للعريس، وغالباً ما تكون سيفاً، تُهديه لزوجها، حيث يقوم بطرقه بضرباتٍ رقيقة على رأسها ومن ثم تستمرُّ الحفلة، ولكن بصخبٍ أكبر.

وتُختتم هذه المراسم بوقوف أمّ العريس عن باب غرفة الزوجين، حيث عليهما أولاً الانحناءُ لها، احتراماً لمقامها وتأكيداً على أنهما سارا بما يرضيها ويفرحُ قلبها. وفي الصباح الباكر، تتوالى النساء من أهل العريس لخدمة العروسين، فتقدم لهما الطعام الطيب، ثم يدخلن غرفة العروسين ويقدمن المباركة لهما، وهنا تنتهي آخر فصول الزفاف عند الدمشقيين.

بصفة عامة، نلاحظ أن الزفاف في أيامنا وفي أيامهم متشابهٌ في كثير من الأمور ومختلف في أمور كثيرة، ولعلّ معظم العادات الدخيلة التي نراها اليوم هي نتيجة تأثير الثقافة التركية التي جاءت خلال فترة الدولة العثمانية، فكلنا نعلم عن فرض الثقافة التركية على الشعوب التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية، فربما عادات “العراضات الشامية” و”الزغاريد” والفصل بين النساء والرجال – نلاحظ حالة الاختلاط بين الرجال والنساء في كثير من تفاصيل الزفاف قديماً – وغيرها كلها تشكلت في العهد العثماني، كما اختفت عادات الدف والسيف وموكب العروس المفعم بالفخر واحتفالات الناس بموكب العروس، كما اختفت أيضاً نتيجة تبدّل رأي علماء الدين في العهد العثماني كعامل أول وتوصياتهم بإلغاء هذه العادات التي تخالف الدين برأيهم.

وبنظرةٍ إلى الماضي، فإننا نشكرُ الجدّات والنساء على هذه العادات الجميلة التي تزيّن حفل الزفاف السوري بشكل عام مهما اختلفت الأماكن والمدن، تلك النساء التي اختارت أن تنظّم زيجاتِنا وأفراحنا حتى بعد مماتهنّ بمئات السنين، مؤكّدن على قوة المرأة السورية في النهوض بمجتمعها، وتفكيرها الإيجابي والجذاب في جعل الحياة تبدو أجمل في ليلةٍ لن ينساها العريس والعروس طالما رابط الأبدية يجمعهما تحت سقف واحد.

المصادر:

Mamluk ‘ulama’ on Festivals and Rites de passage: Wedding Customs in 15th Century Damascus\ Yehoshua Frenkel. Bonn: University of Bonn، 2011.

Egypt and Syria in the Fatimid، Ayyubid and Mamluk Eras VI: Proceedings of the 14th and 15th International Colloquium Organized at the Katholieke ... May 2006 (Orientalia Lovaniensia Analecta)\ K. D'hulster، U Vermeulen. Antwerp: Peeters، 2010.

The Crusades and the Near East: Cultural Histories\ Conor Kostick. London: by Conor Kostick، 2010.

Marriage، Money and Divorce in Medieval Islamic Society (Cambridge Studies in Islamic Civilization) \ Yossef Rapoport. London: Cambridge University Press، 2007