العمارة والتشييد > التصميم المعماري

العنوان: عمارة بلاد ما بين النهرين (ميسوبوتاميا) – الجزء الثالث

حضارةٌ أعطت البشريةَ العديد من البدايات باتجاه المدنيّة والتحضُّر. حضارةٌ ضمّت اثنين من عجائب العالم القديم السبع. ولطالما كانت العمارة الانعكاس المباشر لأية حضارة. لنأخذ معاً هذه الجولة القيّمة في عمارة بلاد ما بين النهرين.

تعرّفنا في الجزء الثاني من هذه السلسلة على معابد حضارة ما بين النهرين من حيث تطوُّرها وأنواعها. سنتعرّف في هذا الجزء الثالث والأخير على القصور، والمقابر، والتحصينات، والجسور، والحدائق وغيرها من المنشآت الهامة.

القصور:

صُنِّفت الصروح المُبكِرة من أبنية فترة العُبيد والفترة الأوروكية كأبنية دينية بسبب تواجدها في مناطق مخصصة للأبنية الدينية وبسبب شكل مساقطها وتزينها بمحاريب متنوعة. ولكن رغم ذلك وُجِدت مبانٍ مختلفة عن المعابد كما المباني المستكشفة في تل عُقَير وبعض الأبنية في مجمع إيانا في أورواك حيث لا يظهر الشكل ثلاثي الأطراف للمعابد المعاصرة. لم تتكرر أشكال هذه الأبنية في الفترات الزمنية اللاحقة ومن الصعوبة بمكان تحديد ما إذا كانت وظيفتها دينية غير تقليدية أو وظيفة عامة أخرى. في بدايات الفترة الأوروكية وحتى فيما بعد مارس الحكام المسؤوليات الدينية وفي الحقيقة كان مصطلح الملك الكاهن يُستخدم لوصف الشخص الحاكم في الألفية الرابعة قبل الميلاد في أوروك وسوسة، ومن المحتمَل أنّ بعض هذه الأبنية كانت تُستخدم لأغراض إدارية وشعائرية معاً. نُسِبت وظائف مشابهة إلى البناء الكبير في جمدة نصر والذي احتوى على رُقُم مهمة.

الألفية الثالثة والثانية:

وُجِدت الأبنية الصرحية غير الدينية المبكرة الّتي تعود إلى منتصف فترة سلالات الحكام المبكرة في كيش (المبنى ذو المسقط المحدب والقصر A) وفي إريدو. ولأن هذه الأبنية تختلف عن المعابد المعاصرة ولم تُبنى في مواقع معابد قديمة أو لاحقة، رُجِّح أنها كانت قصوراً مخصصة لسكن الحكام. يمكن تمييز القصور اللاحقة مثل قصور إيبلا وماري بدقة أكبر، ولكن ما تزال هناك شكوكٌ مرتبطةً بالوظيفة الدقيقة لقصر نارام-سين في تل براك على سبيل المثال.

المثال الكلاسيكي لقصور بلاد ما بين النهرين هو قصر حُكّام إشنونّا والذي ضُمَّ إلى مُجمَّعَي معابد بابلية تقليدية، الصفة المميزة لهذا القصر -والتي تكررت في قصور لاحقة في المنطقة- هو الفصل بين الفناء الخارجي الذي كانت تتم فيه معالجة الأمور العامة والفناء الداخلي الذي كُرِّس لوظائف أكثر خصوصية. كانت غرفة العرش تصل بين الفناءين واستُخدِمت بدورها كغرفة استماع من قِبَل الحاكم. كان هذا التشكيل السّمة الأساسية للقصور اللاحقة في بلاد ما بين النهرين.

مخطط قصر ماري في منطقة تل حريري والذي بُني بعد حوالي ثلاثمائة عام احتوى نفس العناصر من حيث الفناء الخارجي المستخدم لإدارة الشؤون العامة، ولكن القصر بحد ذاته كان أوسع بكثير من قصر إشنونّا.

احتوى القصر أكثر من 260 غرفة في الطابق الأرضي وغطى مساحة تتجاوز هكتارين. لم تكن قصور بلاد ما بين النهرين تقتصر على كونها مسكناً ومركزاً إدارياً وشعائرياً فقط، بل كان من الممكن أن تضم معابد وغرف تخزين ومصانع تنتج موادَ متنوعة.

تختلف القصور المكتشفة من فترة الألفية الثانية بحجمها وبدرجة حفاظها على شكلها. على سبيل المثال قصر كاسيت في دور-كوريغالزو كان غير تقليدي إذ أنّهُ بدلاً من التوزيع الاعتيادي لصفَّين من الغرف بين الفناءين الداخلي والخارجي (حيث تمتلك كل غرفة جدار خارجي وإطلالة على فناء)، كان هنالك ثلاثة صفوف من الغرف.

الفترة الآشورية المتأخّرة:

كانت قصور ملوك هذه الفترة والمكتشفة في كالخو ودور-شاروكين جوهرة قصور بلاد ما بين النهرين. تتبع القصور الآشورية الملكية النمط المعماري لقصر حاكم إشنونّا، وظهر نفس النمط في البيوت الخاصة الكبيرة. كان قصر سارجون في دور-شاروكين أكبر القصور. بُني القصر في فترة 717-707 ق.م وهُجر بعد وفاة سارجون في معركة في 705 ق.م. يقع الحصن على زاوية ضلعَي سور المدينة، بُني القصر الملكي والمعبد على منصة وباقي المكاتب الهامة على مستوى أقل ارتفاعاً، يحتل القصر ثلاثة أرباع الحصن حيث انحصرت المعابد والزيقورة في زاوية واحدة. احتوى القصر فناءين خارجيين حيث كانت تتم إدارة معظم الشؤون العامة، الغرفة الأكبر في القصر كانت غرفة العرش والتي كانت حسب ما هو معتاد في هذه الأبنية منفصلة عن الفناء الخارجي من الداخل، واحتوت غرفة العرش ثلاثة أبواب كبيرة. وفي إحدى النهايات وُضِع العرش على منصة حجرية وفي النهاية المقابلة استقرت حجرة انتظار مع درج لولبي كبير يصل إلى السطح. كانت القصور الآشورية عادةً تتألّف من طابقٍ واحد ولكن هناك دلائل على أنّ الملك نقل بعض الطقوس الدينية لتُقام على السطح. ووُضِع في حالات كثيرة صفّان من الأحجار المتوازية على أرضية غرفة العرش وعلى طول هذا المسار كانت تسير مجمرة نحاسية ذات عجلات تُقدّم نوعاً من الدفء للترحيب بالحاكم. يتم الوصول إلى غرف العرش هذه بمحورٍ منحنٍ ولكن في القرن السابع قبل الميلاد تغيّر محور الوصول ليصبح مستقيماً مباشراً، وذلك ربما بسبب التأثُّر بالحضارة البابلية. كانت الجدران الداخلية للقصور الملكية مغطاة بحجارةٍ منقوشة بمشاهد من المحكمة ورموز دينية ومشاهد الصيد و تسجيلاتٍ للحملات العسكرية. توفّر هذه الرموز أدلةً قيّمةً على أشكال المباني كون أنّه غالباً لا يمكن استعادة إلا الأجزاء السفلية من الجدران.

الفترة البابلية الحديثة:

كانت غرف الاستقبال الرئيسية في الفترة البابلية الحديثة تقع في الجانب الجنوبي من الفناء. في حال لم يكن الجدار الخارجي يمتد من الشرق للغرب فإن أشكال وأحجام الغرف كانت تتعدل بحيث تتجه غرفة الاستقبال الرئيسية شمالاً.

أكثر القصور البابلية إثارةً للإعجاب هو الحصن الجنوبي في بابل الذي تطور بناؤه على عدة قرون وأُعيد بناؤه من قِبَل الحُكّام المتعاقبين، أطلق نبوخذنصر الثاني على الحصن تسمية "أعجوبة البشرية، ومركز الأرض، المَسْكَن المُشرق ودار العظَمة". احتوى القصر خمسة أفنيةٍ متنوعة، كان للأفنية الأربعة الداخلية غرف استقبال على الجانب الجنوبي. تقع غرفة العرش الرئيسية في الفناء الثالث وتقيس 42*17م. كانت واجهتها مغطاة بطوب مُزَجَّج وتصوِّر أسوداً وجذوع وسعف نخل منمنمة. كان لغرفة العرش ثلاثة مداخل يقاس عرض الأوسط 6م. كان لهذه المداخل أقواساً كما في القصور الآشورية. لم تتحدد كيفية تغطية غرفة العرش حيث يمنع عرض الغرفة الكبير وجودَ جيزانٍ غير مدعمة وبما أنه لا أثر لوجود أعمدة في غرفة العرش فربما كانت مسقوفة بعقد.

في الركن الشمالي من المبنى نرى ترتيباً غير معتادٍ للغرف اكتُشِفت مع حدائق بابل المعلقة، ورغم أنه من الصعب نفي هذا الاحتمال ولكن مخطط هذا القسم من القصر أقرب لأن يكون مجموعة من غرف التخزين من أن يكون أساساً للحدائق المعلقة الأسطورية.

الفترة الأخمينية:

عندما هزم ملوك الفرس الأخمينيين الإمبراطوريات القديمة في الشرق الأدنى أعادوا إشغال قصور الحكام المهزومين. استمر قصر بابل في الخدمة حتى الفترة السلوقية. رغم أن القصور التي بناها الملوك الفرس أدّت نفس وظيفة قصور بلاد ما بين النهرين القديمة إلا أنّ تصميمها كان مختلفاً. اتّسَمَت القصور في السهل الإيراني بالاستخدام الكبير للأعمدة في القاعات والأروقة كما في باسرجاد Pasargad ومن ثم في بيرسيبوليس Persepolis.

بُني قصرٌ في مدينة سوسة تحت حكم داريوس، جمع القصر عدة أفنية كما في الطراز البابلي بقاعة ذات أعمدة وثلاثة أروقة معمَّدة كما في طراز بيرسيبوليس. جمعت العمارة الأخمينية خصائص مستمَدّة من التقاليد المعمارية والفنية للمستعمرات الفارسية في المناطق الجديدة. رغم أن القاعات المعمّدة انتشرت في القرن السابع ولكن التباعد بين الأعمدة والتيجان الحلزونية كانت إغريقية، وتيجان الأعمدة النخيلية استوحيَت من مصر، أما النقش المنخفض المزين للمنصات التي بُنيت عليها القصور كانت من الطراز السابق لبلاد ما بين النهرين.

أنهت سيطرة الإسكندر على الشرق الأدنى التراث المعماري لحضارة بلاد ما بين النهرين، ورغم بقاء بعض المباني قيد الاستخدام ولكنّ البناء اللاحق استوحى التصاميم والتقنيات الجديدة من الحضارة الهلنستية أو من تلك الّتي تطورت في الشرق الأدنى.

المقابر:

وضع سكان بلاد ما بين النهرين شروطاً للحياة الآخرة. في العموم، أُقيمت المنشآت تحت الأرض من أجل الدفن أو الهدايا المرافقة له، وتواجدت هذه المنشآت أحياناً تحت أرضيات المنازل أو القصور وأحياناً أخرى في مقابر منفصلة. البنية الفوقية تقريباً غير معروفة حتى الآن ولكن في أوائل الألفية الثالثة وُجدت دلائل بعد التنقيب في إحدى المقابر تدل على وجود أسقف معقودة ومقاعد خارجية ومنصات تقدَّم عليها العطايا الجنائزية. غالباً ما تكون القبور محفوظة بشكل جيد لأنها كانت مدفونة. وهكذا اكتُشفت قبور ذات عقود سليمة في "تبة كَورا" تعود الى فترة لم تنجُ منها الأبنية المقامة فوق الأرض.

لم تكن القبور الملكية صروحاً معماريةً مذهلة رغم الثروة الكبيرة التي كانت تُدفَن معهم، الاستثناء الأبرز كان الضريح الملكي في أور، حيث اكتُشفت قبور حكام السلالة الثالثة لأور. وُجِدت هذه القبور في أقبية معقودة تحت بناءٍ يُحتَمَل أنّه كان يُستخدم لأداء طقوسٍ دينية، ربما للشفاعة لروح صاحب القبر.

كانت قبور الملوك الآشوريين الأواخر حُجراتٍ تحت الأرض في القصر في آشور ووُجِدت قبور الملكات الآشوريات في القسم الجنوبي من القصر الشمالي الغربي في كالخو. كانت الأضرحة عقوداً مبنيةً من الطين المشوي وكان لبعضهم أبواباً حجرية. رغم الثروة الهائلة من الأواني الذهبية والجواهر المودعة في القبور، كانت الغرف نفسها صغيرة وتحوي فقط بعض الحوامل للمشاعل.

الحصون والتحصينات:

بُنِيت التحصينات في بلاد ما بين النهرين عادةً من الطوب الطيني وكانت الأجزاء السفلية تُدعَّم أحياناً بالأحجار. عادةً ما تكون خطوط جدران المدينة مرئية بسهولة ويمكن تتَبُّعُها لأميال ولكن نادراً ما بقيت الأقسام العلوية من التحصينات محفوظة.يمكن أن نأخذ فكرة جيدة عن مظهر هذه التحصينات من النقوش الآشورية المتأخرة.

أمّنت الجدران وظيفة الدفاع ضد الاعتداء وفي جنوب البلاد أمّنت الحماية من الفيضانات أيضاً، بالإضافة إلى أنّها حدّدت مناطق المستعمرات وعملت كمُذكِّرٍ بصري بوجود السلطة. وُجِد أحد أقدم جدران التحصينات (7000 ق.م) في قرية قرب تلعَفَر حيث يبدو أنّه مثّل قيمةً رمزية أكثر من وظيفته الدفاعية.

تمّ الكشف عم عدد من المستعمرات المسوَّرة والجزر المسوَّرة على طول نهر الفرات ضمن مشروع إنقاذ سد حديثة (1978-1984). يمكن أن يعود تاريخ هذه المستعمرات إلى النصف الأول من الألفية الأولى عندما كانت سوخو دولة مستقلة تدين بالولاء إسميّاً للسلطة الآشورية. كانت حصون "سور جرعة" واسعة الامتداد. مساحة الحصن الرئيسي 300 م2 وكان محميّاً بجدارٍ داخلي من الطوب الطيني، وبمرتفعٍ عالٍ منتهٍ بجدار، ومحاط بخندق عميق. كان هناك أيضاً جدارٌ خارجي وخندق بطول 750 م.

تمّ الكشف فقط عن بعض الحصون الأصغر في بلاد ما بين النهرين، في الواقع تمّ التنقيب فقط عن بضع مواقع صغيرة لهذه الفترة التاريخية وذلك لأن علماء الآثار ركزوا على المدن الأكبر. رُجِّح أنّ مستعمرة صغيرة على أعلى تل في "يِمنيّة" على نهر الفرات عملت كنقطة حراسة لـ سوخو تعود للقرن التاسع قبل الميلاد. ويمكن لحصن مربع من الطوب الطيني المتراص في أعلى "تل قَبّة" أنه كان يحدد الحدود بين مملكة ميديا ومملكة بابل في أوائل القرن السادس قبل الميلاد.

كان حكّام بلاد ما بين النهرين عادةً يحتفظون بسجلات تتعلق بإنشاء أسوار عبر أراضي البلاد كنوع من الحماية إما من البدو أو من الفيضانات. وكانت هذه الأسوار غالباً تمتد لعدة أميال. ولربما أشهر هذه الأسوار هو ذلك الذي بناه نبوخذنصر بين نهرَي الفرات ودجلة، والذي عُرف لاحقاً باسم جدار ميديا. لم يكن مسار هذا السور محدَّداً لمدة طويلة، ولكن في عام 1983 اكتُشف جزءٌ منه وثَبَت أنه كان مبنياً من طوب الطين المشوي الذي نُقِش بختم نبوخذنصر المثبَّت بمونة من القار.

الجسور والمنشآت المائية الأخرى:

صُنِّفت القنوات التي كانت تؤمن المياه (قوام الحياة) في جنوب بلاد ما بين النهرين كأحد أكثر المنشآت القديمة المثيرة للإعجاب. تطلّبت هذه القنوات استثماراً عالياً في كل من الإنشاء والصيانة، كما في السدود والحواجز المائية وأسوار أرصفة الموانئ وغيرها من المنشآت المائية المرتبطة بهم. اكتُشِفت إحدى هذه المنشآت، وهي منظِّم ماء، في موقع تِلّو (قديماً غيرسو) في محافظة ذي قار العراق حالياً. أنشأ الملوك الآشوريون المتأخرون شبكةً واسعةً من القنوات في شمال البلاد. كما في جِروان قرب نينيفا حيث حُملت المياه عبر وادٍ بواسطة قناةٍ حجريةٍ لجر المياه. نادراً ما اكتُشف وجود جسور. وقد أنشئ في خُرسَباد (دور-شاروكين قديماً) جسرٌ ذو دعائمَ حجرية يصل بين الحصن ومعبد نَبو، واكتُشفت في بابل دعامات حجرية بشكل قوارب حملت جسراً يقطع نهر الفرات ويصل طرفي المدينة، ومن المحتمل أنَّ الجسور العائمة ذات الدعامات بشكل قوارب كانت أكثر انتشاراً من الجسور المثبَّتة.

منشآتٌ أخرى:

يوجد عدد من المنشآت المكتشَفة والتي لا يمكن تصنيفها بسهولة كبيوت أو معابد أو قصور أو حصون او منشآت مائية. أحد الأمثلة على هذه المنشآت يقع في تل قُبّة يعود إلى 2800 ق.م ويتألف من سلسلة من الجدران متحدة المركز، وتنوّعت الآراء حول وظيفته بين كونه معبداً أو حصناً أو غرفة تخزينٍ واسعة. كانت الحبوب تُخزَّن عادةً في حفرٍ تحت الأرض ولكن في فترات معينة، تحديداً في الألفية الرابعة والثالثة قبل الميلاد حيث أُنشئت غرف تخزين من الطوب الطيني بجدران متوازية.

الحدائق والأجنحة:

وُجِدت نصوصٌ مسمارية تصف حدائق وبساتين في مدن بلاد ما بين النهرين.

توضّح خارطة لمدينة نِيبور تعود إلى عام 1300 ق.م أنّ الركن الجنوبي الغربي للمدينة احتوى حدائق واسعة. ففي الطقس الحار، أمّنت الحدائق الشرقية بمناخها الجاف ملجأً للهروب من الطقس القاسي.

توضّح الكتابات الملكية اهتمام حكام بلاد ما بين النهرين بتحسين البيئة المحيطة عن طريق إقامة حدائق مترفة، وتباهى الملوك الآشوريون تحديداً بإنشائهم حدائق تشابه جبال الأمانوس واستقدموا إليها نباتاتٍ وحيواناتٍ نادرةٍ وغريبة، وظهرت هذه الحدائق أحياناً في النقوش الحجرية الآشورية.

وهنالك أدلة لحدائق أكثر رسمية، فقد كشفت التنقيبات في معبد أكيتو خارج مدينة آشور وجود حفرٍ مرتَّبةٍ بانتظام اتُّفِق على أنّها استُخدِمت لزراعة الأشجار والشجيرات الصغيرة. أكثر الحدائق القديمة المثيرة للإعجاب هي حديقة كورش الكبير (سايروس) المكتشَفة في باسارغاد (في إيران حالياً)، حيث اكتُشفت قنواتٌ وأحواضٌ حجرية. ورغم أن التنقيبات لم تستطع إظهار طريقة تشكيل النباتات في هذه الحدائق، ولكن الكُتّاب القدماء سجّلوا اهتمام الفرس بالأشجار وبتنظيم التشكيلات الزراعية، ضمّت حديقة باسارغاد عدة أجنحة بأحجام مختلفة. لم تتواجد تصاميم هذه الأجنحة ذات صفوف الأشجار المفتوحة من الجهات الأربعة في بلاد ما بين النهرين الجنوبية، ولكن ظهرت أبنيةٌ مشابهة في النقوش الآشورية.

أشهر حدائق بلاد ما بين النهرين هي حدائق بابل المعلّقة، حيث أنّها، وتبعاً لرواية جوزيفوس نقلاً عن بيروسوس، أُنشِئت من قبل ملكٍ بابلي أراد تقديمها لزوجته الميدية لتذكّرها بجبال موطنها الأصلي. اعتُبرت الحدائق المعلقة مع سور بابل فيما بعد اثنين من عجائب الدنيا السبع. تعود التقارير الخمس التي تصف الحدائق إلى القرن الأول قبل الميلاد أي بعد مدة طويلة من الفترة البابلية الجديدة. وقد وصفوأ المدرجات المتصاعدة المبنية من الحجارة والطوب المشوي مع استخدام مونة القار، وغلاف عازل للمياه، وأيضاً أجهزة غير اعتيادية مثل اللوالب والمنحنيات استُخدمت لرفع وتوزيع المياه على الحدائق. رُشِّحت عدة أماكن لتكون مواقع للحدائق المعلقة، ولكن أيّاً من هذه المواقع لم يكن مؤكَّداً، ومن الضروري العلم أنه بسبب تأخُّر هذه المصادر وغياب أيّ وصفٍ لهذه الحدائق في مخطوطات ملوك الفترة البابلية الجديدة، يبقى وجودها بحد ذاته مشكوكاً بأمره. رأت عالمة الآثار ستيفاني دالي Stephanie Dalley في عام 1992 أن الحدائق المعلقة كانت نموذجاً مصغراً عن الحدائق الجبلية للملوك الآشوريين المتأخرين، ربما مدموجة مع فكرة الزيقورة المتدرجة. الالتباس في العالم الكلاسيكي لبابل وآشور قاد إلى افتراض أنّ الحدائق المعلقة وُجِدت في بابل وليس في نينيفا.

الخاتمة:

استمرت التقاليد المعمارية لبلاد ما بين النهرين القديمة على مدى أكثر من ثلاثة آلاف عام. واعتمدت لدرجة كبيرة على الرعاية الملكية وكانت موضحة بشكل رئيسي في تشييد المعابد والقصور. عندما انتقلت القوة السياسية إلى أيدي الحكام الأجانب، من اليونان أو إيران، واحتلّت المعتقدات الدينية الجديدة مكان الأديان القديمة في بلاد الرافدين واختفت التقاليد المسمارية، بدأت الممارسات البنائية في بلاد الرافدين والتي اعتمدت على الطوب الطيني المجفف المتواضع بالتآكل. استُبدلت هذه التقنيات القديمة بعمارة معتمدة على الآجر أو الحجر ومرتبطة بمونة من الكلس أو الجبس، والتي كانت الأشكال الغالبة فيها هي الأقواس والقباب والتي ساهمت بدورها في تشكيل العمارة الإسلامية.

ما انطباعك بعد هذه الجولة التاريخية الحضارية العميقة؟!

المصدر:

هنا