العمارة والتشييد > التصميم المعماري

عمارة بلاد ما بين النهرين (ميسوبوتاميا) – الجزء الأول

استمع على ساوندكلاود 🎧

حضارةٌ أعطت البشريةَ العديد من البدايات باتجاه المدنيّة والتحضُّر. حضارةٌ ضمّت اثنين من عجائب العالم القديم السبع. ولطالما كانت العمارة الانعكاس المباشر لأية حضارة. لنأخذ معاً هذه الجولة القيّمة في عمارة بلاد ما بين النهرين.

يتحدث هذا البحث عن عمارة بلاد ما بين النهرين ويدرس فقط الأمثلة المحفوظة بطريقة جيدة من هذه العمارة.

كانت عمارة الطوب الطيني في بلاد ما بين النهرين (ميسوبوتاميا Mesopotamia) تتطور باستمرار باستخدام مواد جديدة وتقنيات جديدة، وحتى تصاميم الأبنية تعدّلت لتناسب الاحتياجات المتغيرة للسكان. من الصعب معرفة كيف ومتى حدثت هذه التغيرات لأن عمليات التنقيب تكشف جزءاً بسيطاً فقط من مخططات الأبنية ومنطقة ما بين النهرين لم تكن معزولةً عن الحضارات المحيطة بل أثّرت وتأثرت بها من الناحية المعمارية، ويمكن رؤية هذا التأثير بوضوح في العديد من الأدلة. يصف هذا البحث أولاً مواد البناء ثم التقنيات المستخدمة ويعطي أمثلةً عن أنماط البناء السائدة بترتيبها الزمني.

مواد البناء:

الطين هو أشهر مواد البناء في المنطقة، ومنه أُنشئت الجدران والأرضيات وحتى الأسقف، وهذا ليس مستغرباً حيث يتوفر الطين بسهولة في مناطق الطمي بمحيط الأنهار، التي تتوافر بكثرة في المنطقة، ولولا الطين كان من الممكن ألّا يتواجد الخزف ولا الألواح الطينية ولا حتى حضارة بلاد ما بين النهرين. يُعد الطين مادة بناءٍ متنوعة حيث يمكن بناء الجدران ككتل وهي تقنيةٌ معروفة لدى العرب بالطيف tauf. يمكن تشكيل طوب الطين إما بالأيدي أو بقوالب، ويسهل استخدامه للبناء بعد تجفيفه في الشمس. يتم شوي طوب الطين بالأفران للحصول على طوب صالح للاستخدام في قنوات التصريف وتعبيد الطرق وفي الأماكن الأخرى التي يمكن أن يتآكل بها طوب الطين المجفف بالشمس بسبب المياه الجارية. (قوالب القرميد ما تزال من أكثر مواد البناء الشائع استخدامها في العالم الصناعي)، كما يمكن للطين أن يشكل مونةً ولاصقاً فعالاً للجدران والأرضيات والأسقف، ومن أجل البناء الفعال بالطين من المهم أن يتم تدعيمه منعاً لتشقُّقه عندما يجف، ومن أشهر مواد التدعيم القش، بالإضافة إلى العديد من المواد مثل الألياف النباتية وروث الحيوانات وأليافها و الرمل والحصى.

تنوعت أشكال وقياسات طوب الطين بمرور العصور، الأشكال المبكرة المستخدمة كانت طويلة ورفيعة، أما في الألفية الرابعة أو الثالثة قبل الميلاد كانت أشكال الطوب عموماً مستطيلة وغالباً طولها ضعف عرضها. عُثر على أشكال طوبٍ مختلفة الأبعاد لكن أشهرها كانت بطول 35 سنتيمتراً. غالباً ما كانت القوالب المجففة بالشمس أو المشوية المستخدمة للأبنية الملكية، تُمهر بختم خاص بالبنّاء الملكي وأحياناً يحتوي اسم المبنى. عند استخدام قوالب الطين أو القوالب المشوية بأشكال عقود وأقواس وقباب، فلا حاجة لاستخدام مواد إنشائية أخرى، ولكن غالباً ما استُخدم الخشب أو القصب في الأسقف حيث كان البناء يُشاد بطوب طينية مربعة أو مستطيلة مرصوصة بمونة طينية ومغطاة بلاصق طيني، مع وجود جيزان خشبية تدعم الأسقف المؤلفة من طبقات من نشارة الخشب وممدودة بطبقات من التربة ومغطاة بلاصق طيني. بينما كان الطين مادة البناء الأكثر استخداماً، كانت سعف النخل بجنوب بلاد ما بين النهرين والحور وأنواع أخرى من الأشجار تشكل مصدراً للأخشاب الممكن استخدامها بالأسقف، كما وفّر النخل مادة بناءٍ للأكواخ.

وُجِدت الأحجار في عدة مناطق ما عدا تلك المغطاة بالتربة المترسبة. وفي جنوب العراق أدغالٌ غزيرة من القصب زُرعت من أجل استخدامها في البناء، مثال على ذلك قاعة استقبال باسم "المضيف" بنيت في القرن العشرين قبل الميلاد كاملةً من القصب.

كان الطين متوافراً وعمالته رخيصة، و استُخدمت مواد أغلى في الأبنية الفخمة مثل الطين المشوي ومونة من القار والأخشاب المستوردة من لبنان وجبال الأمانوس والحجارة المنقولة من مسافات بعيدة، و تزينت الغرف بمقتنيات ثمينة مثل لوحات الجدران ولوحات الفسيفساء ومنحوتات حجرية وأخشاب نادرة.

تقنيات الأبنية:

حتى قبل معرفته بالزراعة وتدجين الحيوانات، أسّس الإنسان مستعمراتٍ دائمة. والجدير بالذكر أنّ أحد أهم الأسباب التي جعلت الإنسان يعتمد على الزراعة هو أنها مكّنته من الاستقرار في نفس المكان وإنشاء بيوت دائمة سمحت بتحسين البيئة المحيطة بها.

كانت الأبنية المبكرة قباباً دائرية نصف مغمورة ولكن تطورت تقنيات البناء بسرعة واستُخدمت الغرف المستطيلة ذات الجدران المبنية بطوب الطين المجفف والأسقف المدعمة بجيزان خشبية مع استخدام لاصق طيني، وقد ظهرت في سامراء في حوالي عام 6000 ق.م. كانت التقنيات غالباً بسيطة، فقد بُنيت الأقواس والعقود واستُخدمت الأعمدة المفردة أو المرتبطة، مع أن الأسقف الأفقية المدعمة بالأعمدة خشبية كانت الأكثر انتشاراً. تمّ إيجاد عددٍ من مساقط الأبنية على لوحات طينية تُظهر كيف كانت الأبنية تُصمَّم بعناية وتُبنى وفق مخططاتٍ دقيقة. وتظهر الأدلة أن القصور كانت تُخطَّط تبعاً لنظام قياس خاص. ومن جهة أخرى، يُعتقَد أنه من المستبعد أن تكون لأية أنظمة هندسية أو رقمية تأثير على عمارة بلاد ما بين النهرين.

أنواع الأبنية:

تكشّفت عمارة بلاد ما بين النهرين من خلال الحفريات التاريخية، وعلى الرغم من تآكل بنية المعابد الهرمية المسماة بالزيقورات إلّا أنها ما زالت تفرض سيطرتها على مشهد المدن القديمة رغم أنّ تفاصيلها لم تظهر حتى تم التنقيب عنها. ولم يبقَ في منطقة ما بين النهرين أي مبنى قائماً يعود إلى ما قبل الفترة البارثية (Parthian الفارسية القديمة) حيث غطت آثارها طبقات سميكة من الطين تجمّعت غالباً من تآكل المبنى بحد ذاته. وفقط في ظروف استثنائية يمكن ملاحظة مساقط المباني على السطح، مثل معبد وزيقورة لارسا (تل سنكورة) على سبيل المثال. تميّزت عدة أنواع من المباني في فترات مختلفة. فالأبنية المبكرة عُرفت كمساكن، رغم أن بعض الأبنية الأخرى أدّت وظائف إضافية. في منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد ظهرت أُولى القصور وهي تعد مع المعابد من أهم أبنية عمارة بلاد ما بين النهرين وطغت على أنماط الأبنية الأخرى. وفي نهاية الألفية ذاتها طغا نمطٌ معين من المعابد ألا وهو الزيقورات وهي منصاتٌ مرتفعة متراكبة مع وجود معبد في الأعلى. بُنيَت مبانٍ ذات وظائف أخرى ولكن دون أهمية معمارية معينة.

البيوت:

كان البيت بنيةً معمارية رئيسية في عمارة بلاد ما بين النهرين، و كانت كلمة "بيتو" باللغة الأكادية تعني البيت السكني واستُخدمت أيضاً للإشارة إلى القصور والمعابد.

احتوى البيت السامرائي على عدة غرف مستطيلة الشكل تتشابه فيها الجدران الداخلية والخارجية. كانت البيوت في منطقة تل الصوان تأخذ الشكل المتعامد على هيئة الحرف T ومقسمة لقسمين، في فترة 6000-5400 ق.م كانت البيت التقليدي دائري البنية مع مرافق مستطيلة.

في فترة العُبَيد (نسبةً إلى موقع تل العُبَيد الأثري)، كان المنزل ثلاثي الأطراف - بسبب وجود غرفة رئيسية كبيرة في الوسط (أحيانا بشكل متصالب) - على طول المبنى تتوزع غرف أصغر في كلا الطرفين، ووُجِدت أمثلة على ذلك في تل مَدهور وتل عَبادة وخيط قاسم.

استمر شكل البيت ثلاثي الأطراف في الفترة الأوروكية ولكن ظهر شكلٌ جديدٌ أيضاً من الأبنية ذات الفناء الداخلي الذي توزعت على جوانبه الغرف. كانت غرفة الاستقبال الرئيسية على أحد الجوانب بعيداً عن المدخل الرئيسي. وفي بعض الأحيان تم الجمع بين البيت ثلاثي الأطراف مع الفناء الداخلي في مبنى واحد، وهذه الأبنية ذات الفناء كانت أساس العمارة القديمة لبلاد ما بين النهرين وفيما بعد شكلت أساس العمارة الإسلامية وما زالت مستخدمة في الشرق الأدنى حتى الآن.

كان شكل البيت ذو الفناء هو الشكل المثالي للأبنية واستخدم في تشكيل المعابد والقصور، ولكن رغم ذلك أُنشِئت في بعض الأحيان أنماطٌ أخرى من المنازل، يمكن في المدن عند عدم وجود مساحة كافية أن تتواجد الغرف فقط على اثنان أو ثلاثة من جوانب الفناء، وفي المناطق الفقيرة كان يمكن أن لا يتواجد الفناء مطلقاً. علاوةً على ذلك، أدّت قوانين الإرث في المنطقة آنذاك إلى تقسيم الملكيات مما أدى إلى تقسيم المسكن إلى وحدات أصغر. وبما أن وحدات الطين مادة بناء متنوعة الاستعمالات كان من السهل إغلاق مداخل الأبنية القديمة وفتح أبوابٍ جديدة.

وهكذا نكون قد تعرّفنا على مواد البناء وتقنيات البناء في حضارة بلاد ما بين النهرين، بالإضافة إلى تطوُّر بناء البيوت. سنتعرّف في الجزء الثاني على المعابد المميزة الّتي شهدتها هذه المنطقة، فتابعوا معنا.

المصدر:

هنا