الفيزياء والفلك > فيزياء

خرق تناظر الشحنة السوية (CP)

استمع على ساوندكلاود 🎧

وفقاً لنظريةِ الإنفجارِ العظيمِ فإنّ المادّة والمادّةَ المُضادّة تشكلتّا بكميّاتٍ متساويةٍ. عندما تلتقي المادّةُ والمادّةُ المضادّةُ فإنّهما تُفنيانِ بعضَهما البعضُ دونَ أن يبقَ منهما شيءٌ سوى الطّاقة. لذلك فمن حيثُ المبدأ، ينبغي أن تُفنيَ المادّةُ المضادة كلّ المادّةِ في الكون، ولا يجبُ أن يكونَ أحدٌ منّا موجوداً الآن!

ولكنّنا موجودون! و كل ما يستطيعُ الفيزيائيّون أن يخبروك به اليومَ هو أنّ هذا قد حصلَ لأنّه في النّهاية كان هنالكَ جسيمٌ إضافيٌّ من المادّةِ مقابلَ كلّ مليارِ زوجٍ من المادّةِ والمادّة المضادّة. يعمَلُ الفيزيائيّون اليومَ جاهدين لتفسيرِ هذه المفارقةِ العجيبة، كيفَ تمكّنتِ المادّةُ من السّيطرةِ على الكون؟

يعتقدُ بعض العُلماء أنّ الإجابة على ذلك السؤال يرتبط ارتباطاً عميقاً بخرقِ قوانينِ الانحفاظِ الأساسيّةِ الخاصّةِ بفيزياء الجسيمات، الأمر الّذي يعودُ اكتشافهُ إلى عام 1956. فقد وجد الباحثون أنّ الجُسيماتِ من نَفسِ العائِلة؛ مِثلَ البروتوناتِ والنيوترونات الّتي تشكّل المادّة المألوفة، تتصرّف بطريقةٍ مُختلفةٍ قليلًا عن نظيراتِها المُضادّة. وبالرّغم من أنّ المادَة والمادّة المضادّة لها تَمتلِكانِ نفسَ الخصائص، فإنّ جُزيئاتِ المادَة المُضادّةِ هي نُسخٌ مَعكوسةٌ عن تِلك الموجودَةِ في المادّة. ففي كُتلةٍ مِن مادّة الحديدِ على سبيل المثال، فإنّ البروتوناتِ ذاتِ شحنةٍ موجبةٍ في حين أنّ الإلكتروناتِ ذاتِ شحنة سالبة. وفي كتلةٍ مِنَ مادّةِ الحديدِ المُضادّة تكونُ البروتوناتُ المُضادّة ذاتُ شُحنةٍ سالِبةٍ، أمّا الإلكتروناتُ المُضادّةُ (تُعرفُ باسم البوزيترونات Positrons) فتكونُ موجبةُ الشّحنة. فإذا التقتِ المادَة مع المادّة المُضادّة فإنهما تُبيدان بعضهما البعض وتتحوّلان إلى فوتوناتٍ، أو في بعضِ الأحيانِ، إلى بِضع جُسيماتٍ خفيفةِ الوزن مثل النيوترينوهات "Neutrinos". فيما عدا ذلك، يَجِبُ أن تتصرّفَ المادّةُ ومادّتها المُضادّة بِنفسِ الطّريقة. تُسمّى هذه الظّاهِرة باسمِ "تناظرِ الشّحنة السّويّة" (CP).

كسر تناظر السوية هندسيا

ففي حينِ أنّ تناظرَ الشّحنةِ هو مجرّدُ عكسِ إشارةِ الشّحنة (الإلكترونُ سالبٌ ونظيره البوزيترونُ موجب) ، فإنّ تناظرَ السّويّة يتمثّلُ في حفاظِ الجسم (أو أيّ توزّعٍ للنّقاط الهندسيّةِ) على شكلهِ عِند إجراءِ تحويلٍ هندسيّ بالنّسبة لمستوٍ، وبمعنىً أبسط، يُحافظ الجسمُ على خصائصِ توزّعِ نقاطه هندسيّاً عِندَ النّظرِ إليه من خلال مرآة، ومن هنا اشتُقّ الاسم الآخرُ له وهو التّناظر المرآتي ، أو تناظرُ السّويّة.

إلى جانِبِ تَشابُهِ المادَة والمادّة المُضادّة من حيثُ السّلوك، فإنّ تناظُرَ الشّحنة السّويّة يقضي بأن تكونَ كميّةُ المادّةِ الّتي تشكّلت بفعل الانفجارِ العظيمِ قبل نحو 13.7 مليارِ سنة، مساويةً لكميّةِ المادّةِ المُضادّة. لكن من الواضحِ أنّها لم تكُن كذلك فعلًا، لأنّهما لو كانتا متساويتين لأفنَتا بعضهما البعض وأبادَت كُلَ ما نعرفهُ من مجرّاتٍ و نجوم و حتّى نحنُ البشرَ قبلَ أن يولد الكون.

إذا كان خرقُ هذا التّناظُر مُمكنًا؛ أي إذا تصرّفتِ المادَةُ المُضادّةُ أو على الأقلّ قسمٌ منها بِطريقةٍ تختلفُ عن نظيرتها المادّةِ العاديّة، فلرُبما يفسّر هذا الاختلافُ سببَ انتصارِ المادةِ اليوم!

خَرق تناظر السّويّة "Parity violation"

أجرت العالِمة شين شيونغ وو Chien-Shiung Wu من جامعة كولومبيا عام 1957، دراسةً لاختبارِ مبدأ انحفاظِ السّويّة ضمن أبحاثٍ عن تحلّل الكوبالت 60-، النظيرُ غيرُ المستقرّ لِعنصر الكوبالت. يَتحلل الكوبالت 60- إلى نظيرٍ آخرَ هو النّيكل 60-، وخلالَ هذه العمليّةِ يصدرُ إلكترونٌ واحدٌ وجُسيمُ نوترينو إلكترونيّ مضادّ واحد. ثمّ يُطلقُ نظيرُ النّيكل 60- زوجاً واحداً من الفوتونات.

ينصّ مبدأ انحِفاظِ السّويّة (انحفاظُ الخواصّ عند إجراءِ تناظرٍ مرآتيّ) على أنّ القوانينَ الفيزيائيّةَ تبقى ذاتُها حتّى لو انقلبتِ الإحداثيات المكانيّة للجُسيمات. وبالفعلِ أثبتت تجربةُ العالِمة شين شيونغ أنّ الكوبالت -60 يتفكّكُ إلى ترتيبينِ يُعاكس كلّ منهما الآخر (كما لو كان أمام مرآة).

إنّ إصدارَ الفوتوناتِ خلالَ التّفكّك هو عمليّة كهرطيسيّة، ومِن المَعروفِ أنّ العمليّاتِ الكهرطيسيّة تُحفظُ مع انحفاظِ تناظر السّوية، إلا أنّ إصدارَ الإلكِترونِ وجُسيمُ النوترينو الإلكترونيّ المُضادّ هي عمليَة انحلالٍ إشعاعيّ بواسطةِ التّآثراتِ الضّعيفةِ الّتي لم يختبرها أحدٌ بهذهِ الطّريقة، إلى أن قرّرتِ العالمةُ شين شيونغ اختبارها.

كان من المُفترضِ في تلكَ التّجربة أن تصدُرَ الإلكتروناتُ في نفسِ الاتّجاه وبنفسِ مقدارِ الفوتوناتِ وفقاً لِمبدأ انحفاظ السّويّة، لكنّ وجدت شيونغ وفريقها أنّ ما حدثَ في الواقع هو العكسُ تماماً، وخلافًا لِجميعِ القوى الفيزيائيّةِ المعروفةِ الأخرى، فإنّ التّآثراتِ "الضّعيفة" (النّاتجة عن قوى التّآثر الضعيف) لا تحافظُ بالضّرورةِ على تناظرِ السّوية عند تفكّكِ بعضِ الجسيمات؛ بمعنى أنّها ليست مُتناظرة دائماً في الطّبيعة!

هذا يعني أنّ الكونَ عند تشكّلِه، كانَ يسلكُ طريقًا مُفضّلًا يخرقُ تناظرَ السّويّة "P symmetry".

وفي ضوءِ ذلك، حاز كلٌّ من الباحثيْن (تسونغ داو لي) و(تشن نينغ يانغ)، الّذين اقترحا في المقامِ الأوّلِ اختبارَ تناظرِ السّوية استناداً على التّآثرات الضّعيفة، على جائزةِ نوبل في الفيزياءِ مناصفةً عام 1957.

خرقُ تناظر الشّحنة (C):

أصيبَ العديدُ من العلماءِ بالذّهول عِند اكتشافِ خرقِ تناظرِ السّوية. وكانت لِهذه النّتيجةِ آثارٌ مضاعفة. أحدها أنّ العلماءَ أدركوا أنّ تناظُراً آخرَ كانوا يؤمنونَ بِجوهريته، وهو اقترانُ الشّحنة أو تناظرِ الشّحنة (C symmetry) - لابدّ وأنّه قابلٌ للخرق أيضًا!

يُعرّفُ اقترانُ الشّحنة على أنّه التّناظر بين الجُسيماتِ والجُسيماتِ المُضادّة لها. ولوحظَ أنّه عند تطبيقه على الجسيماتِ الّتي تمتلكُ خاصيّةً تدعى "اللفّ المغزليّ" أو Spin (مثل الكواركات Quarks والإلكترونات)، تُصبح التّبدُلات بين تناظرِ الشّحنة وتناظرِ السّوية متناقضةً مع بعضها البعض.

وهذا يعني أنّه لا يُمكِنُ أن يَكون أيّ مِن التَناظُرين صَحيحاً إذا خُرقَ أحدهما. ومع ذلك ،فكّرَ العلماءُ بأنّ مجموعَ التَناظُرين أو ما يُسمى "تناظرَ الشّحنة - السّوية" (CP)، قد لا يزالُ انحفاظُه قائماً. وفي هذه الحالةِ، سيكونُ هنالك تناظرٌ على الأقلّ بين سلوكِ الجُسيماتِ والجُسيماتِ المُضادّة لها بِشحنةٍ معكوسة.

لكن للأسف، لم تكنِ النّتائجُ كما كان مُتوقّعاً. ففي عام 1964، اكتَشفت مجموعةٌ بحثيّةٌ يرأسها (جيمس كرونين) و(فال فيتش) أثناء تأديتهما لتجربةٍ في مختبر بروكهافن الوطنيّ، أنّ تناظرَ الشّحنةِ - السّوية قد خُرقَ كذلك!

أجرى الفريقُ دراسةً حولَ تفكّكِ الكاونات "kaons" المُحايدة إلى بايونات "pions"؛ وكلاهما جُسيمانِ مُركّبانِ يتألّفُ كلّ منهما من كوارك وكوارك مُضادّ. هنالك نُسختان من الكاونات المحايدةِ لكلّ منهما عمرٌ مُختلف: عمرٌ قصيرُ الأمدِ يتحلّلُ إلى بايونيْن اثنيْن، وعمرٌ طويلٌ نسبيّاً يتحلّل إلى ثلاثة بايونات.

مع ذلك، وجدَ الفريقُ البحثيّ أنّ الكاونات طويلةِ العمرِ تتحلّل أيضاً - إنّما نادراً - إلى بيونيْن اثنينِ بدلاً من ثلاثةِ بايونات، الأمرُ الّذي يتطلّبُ خرقَ تناظرِ الشّحنة - السّوية CP.

من هذا المنطلق، اكتُشفَ خرقُ تناظرِ الشّحنة - السّوية CP عام 1980، ورافق ذلك الاكتشافُ فوزٌ بِجائزةِ نوبل في الفيزياءِ في العامِ ذاته.

تنبّأ الباحثانُ (ماكوتو كوباياشي) و(توشيهيد ماسكاوا) عام 1973 بوجودِ جيلٍ جديدٍ من الجسيماتِ الأوليّة. في ذلك الوقتِ كان العلماءُ يعرفون جيلين من الجُسيماتِ الأوليّة فقط لا أكثر. وبالفعل في غضونِ سنواتٍ قليلةٍ، كَشفتِ التّجاربُ في مختبرِ المُسارعِ سلاك "SLAC" الوطنيّ عن الجسيماتِ تاو "tau"، وهي الجيلُ الثّالثُ من المجموعةِ الّتي تشملُ الإلكتروناتِ والميونات "muons". كما اكتشفَ العلماءُ في مختبرِ مسارعِ فيرمي الوطنيّ في وقتٍ لاحقٍ الجيلَ الثّالثَ من الكواركات، وتحديداً الكواركاتُ القعريّةُ والكواركاتُ القُميّة (up quark and down quark).

المزيد من حالات خرقِ تناظر الشّحنة - السّويّة:

وجدَ العلماءُ في أواخرِ التسعينات في مختبرِ فيرميلاب والمختبرِ سيرن الأوروبي "CERN" المزيدَ من الأدلّةِ على خرقِ تناظرِ الشّحنةِ - السّويّة في تحلّلِ الكاونات المحايدة. كما شرعتْ تجاربُ منذ عام 1999، كتجربة ببار "BaBar" في مختبرِ سلاك، وتجربةُ بيل "Belle" في مختبر كيك "KEK" في اليابان، للنّظرِ في خرقِ تناظرِ الشّحنةِ - السّوية في انحلالِ جسيماتٍ مركّبةٍ تُسمّى: ميزونات ب أو "B mesons".

بتحليلِ العشراتِ من أنواعٍ مختلفةٍ من تفكّكاتِ ميزونات ب، كشفَ العلماءُ في تجربتي ببار وبيل اختلافاتٍ طفيفةٍ في الطّريقةِ الّتي تتفكّكُ بها الميزوناتُ ب والجسيماتُ المضادّةُ لها. وكانتِ النّتائجُ مطابقةً لتوقّعاتِ (كوباياشي) و (مسكاوا)، وقد تُوّج إنجازُهما بجائزةِ نوبل في الفيزياء مناصفةً عام 2008.

عندما نشأ الكونُ في الانفجارِ الكبيرِ قبل 14 مليار سنة، كان ينبغي بعدها أن تتولّدَ المادّةُ والمادّةُ المُضادّةُ في كميّاتٍ متساوية. لكن لو تعاملتِ الطّبيعةُ معهما بالطّريقةِ نفسها، فإنّ المادّةَ والمادّةَ المُضادّةَ ستُبدِّدان بعضهما بعضاً، ولن تخلّفان شيئاً سوى الطّاقة.

إنّ خرقَ تناظرِ الشّحنةِ - السّويّةِ ضروريٌ لتوضيحِ ذلك الخللُ الّذي أدّى إلى تغلّب المادّة على المادّة المُضادّةِ في الكون، ومع ذلك، فإنّ عددَ حالاتِ خرقِ تناظرِ الشّحنة - السّويّة التي لوحظتْ حتى الآن في تجاربِ فيزياءِ الجُسيماتِ صغيرٌ جداً.

الدّراساتُ الحاليّةُ والمستقبلية:

جمعت كلتا التّجربيتينِ ببار وبيل في الآونةِ الأخيرة كنوزهما الدّفينةُ من البياناتِ الخاصّةِ بِهما في تحليل واحدٍ مُشتركٍ، كشفَ لأوّلِ مرّةٍ خرقَ تناظرِ الشّحنة - السّويّة في نوعٍ من أنواعِ تفكّكِ ميزوناتِ النّمط ب، الأمرُ الّذي لم تتمكّن التّجربتانِ كلٌّ على حدة من التّوصل إليهِ بسبب الإحصاءات المحدودة.

أدى ذلكَ إلى توافقِ نتائجِ ذلك التّحليلِ وجميعِ الدّراسات الأخرى مع النّظريّة القياسية حتى الآن. لكنّ الباحثين لن يتخلّوا عن أملهم في إيجاد سلوكيّاتٍ غير متوقّعةٍ في العمليّات الّتي يحكمها خرق ُتناظرِ الشّحنة - السّوية.

يسعى مشروعُ بيل الثّاني (وهو قيدُ الإنشاءِ حالياً من قبل شركة كيك) على إنتاجِ الميزوناتِ "ب" بمعدّلٍ يزيدُ عن سابقتها بكثير، مما يتيحُ دراساتٍ مستقبليّةٍ لِخرقِ تناظر الشّحنة - السّويّة بدقّةٍ أكبر.

تواصلُ تجربةُ مصادمِ الهادروناتِ الكبير "LHCb" في مختبرِ سيرن "CERN" الدّراساتُ المُتعلّقةُ بالميزوناتِ ب، وتشملُ إنتاجَ الميزوناتِ الأثقَلِ وزناً مما تُنتجها نادراً تجاربُ ببار وبيل. وسترتقي التّجربةُ إلى مراحلِها المتقدّمةِ مستقبلاً لجمعِ البياناتِ بعشرةِ أضعافِ معدّلها الحاليّ.

الجديُر بالذّكر، أنّه حتّى هذه اللحظةُ لم يُكشف عن خرقِ تناظرِ الشّحنة - السّويّة إلا في جسيماتٍ كتلكَ المكوّنةِ من الكواركاتِ فقط، لكنّ الدراما العلميّةِ لم ولن تُغلقَ البابَ أمام المزيدِ من الاكتشافاتِ المُذهلةِ، والّتي قد تحملُ أجوبةً لطالما أرّقت الجنسَ البشريّ.

المصدر: هنا