الفيزياء والفلك > علم الفلك

كم سنةً يبلغُ عُمر الكون؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

حين ننظرُ- نحن البشر - إلى ما وراءِ كوكبنا، نحو المجموعاتِ الضّخمة من النّجوم، فإنّنا نطرحُ دوماً أسئلةً جوهريّةً عن أصولنا: كيفَ نشأَ كلّ هذا الكون؟ هل كان موجوداً منذ الأزل؟ وإن لم يكن كذلكّ، فكيفَ نشأ؟ ومتى نشأ؟

ومن جانبٍ آخر، كيف يُمكننا تصوّرُ تاريخ شيءٍ بِمُنتهى التَّعقيد، في حين أنّنا لم نكن موجودين لِنشهَد نشأته؟

بناءً على ما سبق، استخدمَ العلماءُ عدّةَ طُرقٍ في مُحاولةٍ لِتحديدِ عُمرِ الكون: سواءً بِالتّحقُقِ مِن عُمرِ أقدَمِ الأشياءِ في الكونِ، أو بتَحديدِ مُعدِّل توسُّعِ الكونِ من أجل تعقّب الزّمن إلى الوراء، أو الاعتمادُ على قياساتِ إشعاعِ الخلفيّةِ الكونيّةِ الميكرويّ "CMB" للكشفِ عن الظّروفِ الأوليّة لِنشأة الكونِ وتطوُره.

[هابل والتّوسّعُ الكونيّ]

لم يكن هناكَ مفهومٌ يخصّ عُمر الكونِ أو نشأتهِ حتّى مطلعَ القرنِ العشرين، إذ اعتقدَ الفلاسفةُ والفيزيائيّون آنذاكَ أن ليس للكونِ بدايةً ولا نهاية. وفي حقبةِ العشرينات، اقترح عالِمُ الرّياضياتِ ألكسندر فريدمان أنّ الكونَ يتوسّع. وقد أكّد العالمُ إدوين هابل هذا الاقتراحَ عِندما اكتشفَ أنّ العديدَ من المجرّات تتحرّك بعيداً عن مجرّتنا بسرعاتٍ هائلة. درسَ هابل سُرعةَ بعضِ تلكَ المجرّات، وعلى أثرِ ذلك نُشرتْ دراسةٌ عام 1929 تُشير أنّ الكون آخذٌ في التّوسّع.

أدركَ العُلماء إمكانيّةَ العودةِ بذلكَ التّوسّعِ زمنيّاً للوراءِ حتّى الوصولِ إلى نقطةِ نشوءِ كلّ شيءٍ في عمليّةٍ تُسمّى "إيجاد العمرِ الدّيناميكيّ للكون"، وكأنّما الكونُ هو فيلمٌ سينمائيٌّ يُمكنك تشغيلهُ عكسيّاً لترى كيف كانَ لحظةَ الانفجارِ العظيم.

يُعرَف معدّلُ توسّعِ الكونِ: ثابِتُ هابل "Hubble constant".

[أحجية هابل]

لم يكن قياسُ ثابتِ هابل سهلاً، فقد تغيّرت قيمتهُ عدّةَ مرّاتٍ منذ الثّلاثينات. والطّريقة الوحيدةُ للتّحقّقِ من ثابتِ هابل هو مقارنةُ عمرِ الكونِ وفقاً لثابت هابل مع عمرِ أقدمِ الأشياءِ الّتي يُمكنُ أن نراها. فعلى الأقلّ، يجبُ أن يكونَ الكونُ أقدمَ من الأشياءِ الّتي يحتويها!

من هذا المُنطلقِ تمكّنَ العُلماءُ من تقديرِ عمرِ النّجومِ المُعمّرةِ الخامدةِ الّتي تُسمّى: الأقزامَ البيضاء "White Dwarfs" عن طريقِ تحديدِ الزّمنِ الّذي تطلّبته لِتبرُد. كما تمكّن العلماءُ أيضاً من تقديرِ عمرِ العناقيدِ النّجميّة "Globular Clusters"؛ وهي عناقيدُ كبيرةٌ مكونةٌ من نجومٍ قديمةٍ مُعمّرة، تشكّلت في الوقتِ نفسهِ تقريباً.

بهذا استطاعوا تقديرَ عمرِ أقدمِ الأشياءِ بما يتراوحُ بينَ 12 و 13 مليار سنة، ولكن وجدَ العلماءُ في التّسعينات أنّ عمرَ الكونِ استناداً إلى ثابتِ هابل، كانَ أصغرُ من عمرِ تلكَ النّجومِ المُعمّرة بعدّةِ ملياراتٍ من السّنوات!

في عام 1998، توصّل كلٌّ من البروفيسور "ريس" وزملائه "شاول بيرلموتر" من مختبرِ لورانس بيركلي الوطنيّ، و"بريان شميت" من المختبرِ الوطنيّ الأستراليّ، إلى جذورِ المُشكلة: لم يكنِ الكونُ يتوسّعُ بمعدّلٍ ثابت، بل إنّ معدّل التّوسّع يزداد. وقد اكتشفوا ذلكَ من خلالِ مراقبةِ نوعٍ من المستعراتِ العُظمى "Supernova"؛ وهو انفجارُ نجمٍ في نهايةِ حياته.

تنفجرُ المستعراتُ العُظمى من النّمطِ (1a) بِسطوعٍ مُنتظمٍ، وينتقلُ ضوؤها بِسُرعةٍ ثابتة. بناءً على هذه المعلومةِ، ومن خلالِ مراقبةِ العديدِ من المُستعراتِ العُظمى من النّوع (1a)، استطاعَ العلماءُ حسابَ المسافةِ بين النّجم والأرضِ، بالإضافةِ إلى حسابِ الوقتِ الّذي يستغرقهُ الضّوءُ للوصول إلينا، وبهذا تمكّنوا من إدراكِ حقيقةِ تغيّر مُعدَّل التّوسّعِ الكونيّ مؤخّراً. وبالاعتمادِ على هذه الطريقةِ الّتي توظّفُ ظاهرةَ المستعر الأعظمِ لحساب المسافاتِ في الكونِ، قدّر العلماءُ عمرَ الكونِ بنحو 13.3 مليارِ سنة.

للمزيد حول المُستعرات: هنا

[مقادير الوصفة الكونيّة]

كما ذكرنا آنفاً، هناك طريقةٌ أخرى لتقديرِ عمرِ الكونِ اعتمادًا على إشعاعِ الخلفيّةِ الكونيّةِ الميكرويّ أو مايُسمّى: "Cosmic Microwave Background"، وبعبارةٍ أخرى، الإشعاعُ المتبقّي بعد الانفجارِ الكبيرِ والّذي ينتشرُ في كلّ اتجاه. للمزيدِ حولَ إشعاعِ الخلفيّة الكونيّةِ الميكرويّ هنا

يبيّنُ إشعاعُ الخلفيةِ الكونيّة الميكرويّ لنا الظّروفَ الأوليّةَ الّتي نشأَ الكون فيها، بالإضافةِ إلى مكوّناتِ الكونِ في مراحلهِ المبكّرة، أي أنواعُ الأشياءِ الّتي كان يحويها عند نشأته. فإذا فهمنا ذلكَ بما فيه الكفاية، فإنه من حيث المبدأ، يُمكِننا أن نُقدّر السّرعةَ الّتي نشأت بها مكوّنات الكونِ في تلك الشّروط الأوليّة، وكذلك كيفَ ينوي الكونُ أن يتوسّع من نقاطٍ مُختلفةٍ مستقبلاً.

باستخدامِ مِسبارِ ويلكينسون الّذي يقيسُ تبايُنَ الأشعّةِ الكونيّةِ التّابع لناسا "WMAP"، أنشأَ العلماءُ رسماً تفصيليّاً لأدقِّ وأصغَرِ الاختلافاتِ في درجاتِ الحرارةِ لإشعاعِ الخلفيّة الكونيّة الميكرويّ، ثمّ قارنوا نمطَ تلكَ التّقلّباتِ مع النّماذج النّظريةِ المختلفةِ الّتي تتنبّأ بأنماطِ إشعاعِ الخلفيّةِ الكونيّة الميكرويّ، وفي نهايَةِ المَطافِ وجدوا تَطابُقاً عام 2003.

تمكّنَ العلماءُ، بالاعتمادِ على تِلك المُقارنات، من اكتشافِ شَكلِ الكونِ وكثافتهِ بالإضافةِ إلى مُكوّناته. فقد وجدَ مسبارُ ويلكينسون أنّ المادّةَ العاديّةَ تُشكّل حوالي 4% من الكون. والمادّةُ المُظلمةُ حوالي 23 %، أما نسبةُ 73% المتبقية فهيَ الطّاقةُ المُظلمة. قدّرَ العلامءُ باستخدام بيانات مسبار ويلكينسون عمرَ الكونِ بنحو 13.772 مليارسنة، بزيادةٍ أو نقصانٍ قدرهُ 59 مليون سنة.

للمزيدِ حول المادّةِ المُظلمة هنا

للمزيد حول الطّاقةِ المُظلمة هنا

وفي عام 2013، أنشأَ تلسكوبُ الفضاءِ بلانك "Planck" التّابع للوكالةِ الفضائيّةِ الأوروبيّةِ رسماً أكثرَ تفصيلاً لتقلّباتِ درجاتِ الحرارةِ في إشعاعِ الخلفيّةِ الكونيّة الميكرويّ، قُدّرَ من خلالهِ أن يكونَ عمرُ الكون 13.82 مليارِ سنةٍ، بزيادةٍ أو نقصانٍ مقداره 50 مليون سنة، وهو تقديرٌ يزيدُ قليلاً عن تقديرِ مسبار ويلكينسون. كما أجرى تلسكوبُ بلانك قياساتٍ أكثرَ تفصيلًا لمكوّناتِ الكونِ،إذ كشفَ أنّ نسبةَ الطّاقةِ المظلمةِ أقلّ قليلًا (حوالي 68%)، بينما وجدَ أنّ نسبةَ المادّةِ المُظلمةِ كانت أكثرُ قليلاً (حوالي 27%).

[الأحجيات الجديدة]

حتّى مع تلكِ القياساتِ الدّقيقة للغاية، لا يزالُ لدى العُلماءِ بعضُ الأحجياتِ الّتي تتطلّبُ حلولاً. فحقيقةُ أنّ مُعدّل التّوسّعِ الكونيّ المُقاسِ حالياً أعلى بنحو 5% مما تنبّأ العُلماءُ اعتماداً على إشعاعِ الخلفيّةِ الكونيّةِ الميكرويّ، هي حقيقةٌ مربكة! ولم يتأكدِ العُلماءُ بَعدُ مِن سببِ هذا التّبايُن.

قد يكون هذا دليلًا على عَدمِ إدراكنا الكافي لفيزياءِ الكون، أو قد يكون خطأٌ في أحد القياسيْن، إلا أنّ شعورَنا بالضّيقِ والقلقِ حول فارقٍ قيمته 5% ماهو إلا دلالةٌ على تقدّمنا الهائلِ في علمِ الكونيّات، فقد كانت قياساتُ معدّلِ التّوسعِ متضاربةً بأضعافِ تلك النّسبةِ قبل 15 أو 20 عاماً.

إذن، ما زالَ هنالكَ الكثيرُ مما تبقّى لفهمِ المادّةِ المُظلمةِ والطّاقةِ المُظلمةِ، والّتي يبدو أنّها تُشكّلُ حوالي 95% من الكون. لعلّ أفضلَ فرصةٍ لفهمِ طبيعةِ تلك المكوّناتِ المُظلمةِ المُبهمةِ هي باستغلالِ الاختلافاتِ الطّفيفةِ في القياساتِ لإيجادِ المَزيدِ من الخيوطِ الّتي تقودُنا لكشفِ المزيدِ من الألغاز والأحاجي وحلّها.

المصدر:

هنا