البيولوجيا والتطوّر > التطور

ماقبل الأوكسجين | كيف كانت الحياة على الأرض قبل ظهور "الغاز النفيس"؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

عمر كوكبنا الأزرق العزيز، يناهز الـ 4.5 مليار سنة، ويُعتبر النصف الأول منه، مرحلةً مهماً لنشوء أولى أشكال الحياة على الأرض، ونقصد هنا البكتريا؛ ومعرفة كيف تعايشت الحياة مع مناخ الكوكب القديم هو أمرٌ مشوقٌ وهامٌ في نفس الوقت، ففي جزءٍ من هذه الحقبة كان تركيز الأوكسجين على الكوكب واحد على الألف من %1 من تركيزه الحالي.

وفي صدد توسيع فهمنا لشكل الحياة قبل وجود الأوكسجين فإن مجموعةً من العلماء من جامعة Cincinnati قاموا بدراسةٍ مستحاثاتٍ لبكتريا كبريتية (Sulfur Bacteria وهي بكتريا لا تستخدم الأوكسجين) موجودةٍ في Northern Cape في جنوب أفريقيا؛ وتُعتبر هذه المستحاثات البكتيرية (وهما في الواقع مستحاثتان موجودتان في مكانين مختلفين) أقدم مستحاثات البكتريا الكبريتية المكتشفة حتى الآن.

يعود عمر هذه البكتريا المُكتشفة ذات الشكل الكروي (والأكبر حجماً من معظم البكتريا الموجودة اليوم) إلى 2.5 مليار سنة (وإذا أردنا استعمال بعض المصطلحات الخاصة بعلم الصخور أو الجيولوجيا، فإن هذه البكتريا تعود إلى فترةٍ تُسمى الحقبة السحيقة الحديثة Neoarchean era وهي تمتد بين 2.5 إلى 2.8 مليار سنة من الآن*) ، وهذه البكتريا –كما يوحي الاسم- تؤكسد الكبريت –عوض الأوكسجين- للحصول على الطاقة.

وتمثل هذه الكائنات أقدم أشكال الكائنات الحية التي عاشت في أعماق البحار المظلمة (والجدير بالاهتمام أن بعض المناطق في قيعان المحيطات تحوي بيئةً وأحياءً مشابهين اليوم لتلك الموجودة قبل حوالي ثلاث مليارات سنة من حيث نسبة الأوكسجين واستعمال مركبات الكبريت، وبتعبير آخر، فإنها لا تحوي أوكسجين والكائنات فيها تعتمد على أكسدة الكبريت). ولنا أن تخيل أن أشكال الحياة هذه –التي وجدها العلماء كمستحاثاتٍ في صخورٍ معدنيةٍ من السيليكا**- نشأت قبل النباتات بحوالي ملياري سنة؛ وللعلم، فالنباتات لم تظهر على الكوكب إلا منذ 450 مليون سنة.

ويجب أن نشير هنا إلى أن الصخور التي تعود إلى هذه الأزمنة السحيقة نادرة، وبالتالي فإن فهم العلماء للحياة في هذه الفترة يعتمد على مجموعةٍ من المستحاثات القليلة التي تم العثور عليها في جنوب أفريقيا وغرب أستراليا؛ وقد يتساءل المرء، هل وجود المستحاثات في هاتين المنطقتين محض صدفة؟ ربما لا، فالعلماء يظنون أن جنوب أفريقيا وأستراليا كانتا فيما مضى قارةً واحدةً هي Vaalabara، انفصلتا عن بعضهما نتيجة أحداثٍ جيولوجيةٍ شديدة التأثير.

وبالاعتماد على تقنية تقدير الأعمار بالنظائر المشعة والتحليل الصخري الكيمائي للنظائر (وشرح هاتين الطريقتين لا يسعه المقام هنا) فإن القائمين على الدراسة استنتجوا أن مستحاثات البكتريا الكبريتية التي وجدوها كانت موجودةً في قارة Vaalabara.

لا تعتمد هذه البكتريا على الأوكسجين، كما قلنا، لكنها ظهرت في أعماق البحار قبل فترةٍ وجيزةٍ من ظهور بنات عمها –إن صح التعبير- في المجمعات المائية (بحيرات، مستنقعات..) الضحلة، وهذه الأخيرة قامت بإنتاج الأوكسجين كناتجٍ ثانوي لعلمية التركيب الضوئي ولذلك يُسمي العلماء هذه الفترة –التي تلت ظهور البكتريا التي تدور حولها هذه الدراسة- بحدث الأكسدة العظيم (Great Oxidation Event) الذي حدث بين 2.4 إلى 2.2 مليار سنة مضت.

مستحاثة للبكتريا الكبريتية وهي طبعاً صورة مكبرة هنا، حيث أن الخط الأسود الصغير أسفل ويمين الصورة طوله خمسن ميكرومتر، والميكرو هو جزء واحد من مليون جزء من المتر.

كيف حصلت هذه البكتريا على غذائها؟

يبدو أن هذه البكتريا كانت تقضي يومها منهمكةً في "أكل" كبريتيد الهيدروجين (Hydrogen Sulfide) أو (H2S) الذي يقدمه إليها البركان في أعماق المحيط (وهو سبب تلك الرائحة المزعجة التي تصدر عن البيض العفن)، فتحصل منه على الطاقة وتطلق غاز الكبريت عديم الرائحة؛ وهذا التفاعل مشابه لما تقوم به اليوم بعض البكتريا المفككة للمواد العضوية.

وعلى الرغم من أننا لا نجزم بأن تلك البكتريا العتيقة هي ذاتها الموجودة اليوم، لكننا نعرف أن هذه البكتريا –القديمة- كانت تحصل على ما تحتاجه من المعادن الغنية بالكبريت التي جُلِبت من اليابسة ورُسِبت في قيعان المحيطات أو من فوهات البراكين.

أمرٌ آخر؛ إننا لا نستطيع القول بأن ما اكتشفه العلماء في هذه المستحاثات هو أقدم أشكال البكتريا الكبريتية (ولا نعرف كيف نشأت على سطح الأرض في المقام الأول ولا كيف أثرت على عملية التطور) لكننا نعرف أنها كانت موجودةً منذ 2.52 مليار سنة على الأقل، والبحث أكثر في هذا الموضوع، هو أمر –كما أشرنا- مشوق ومهم بكل تأكيد.

البنية المجهرية للمستحاثات البكتيرية المُكتشفة

الحاشية:

*الزمن الجيولوجي هو طريقة لتقسيم عمر الأرض إلى فترات زمنية تفصل بينها غالباً أحداث جيولوجية هامة أثرت على نشوء أو تطور الحياة على الأرض. أكبر أشكال هذا التقسيم هو الدهر Eon وهو فترة تمتد لمئات ملايين السنين، وأقدم دهر هو الدهر السحيق Archean Eon يمتد من 4 مليارات سنة إلى 2.5 مليار سنة من الآن ويُقسم الدهر إلى أحقاب Era، ومن ضمن أحقاب الدهر السحيق، الحقبة السحيقة الجديدة وتمتد بين 2.8 إلى 2.5 مليار سنة من الآن (وقد يستغرب القارئ ترافق لفظي "سحيق" و"جديد" في نفس الاسم، لكن اللبس يزول إذا علمنا أن الدهر السحيق مقسم إلى حقبات هي الحقبة السحيقة الأقدم Eoarchean و الحقبة السحيقة القديمة Paleoarchean والحقبة السحيقة المتوسطة Mesoarchean والحقبة السحيقة الحديثة Neoarche.

(Timeline of Science، The Ultimate Visual Guide to the Discoveries that Shaped the World، DK، p366)

** السيليكا: هي أوكسيد السيليكون SiO2

للتعرُّف أكثر على السيليكا: هنا

المصدر: هنا