الرياضيات > الرياضيات

تقنيّة جديدة تتيح لعلماء الرّياضيات تحويل الأرقام إلى فن

استمع على ساوندكلاود 🎧

مكَّنَت تقنيّات التّصوّر الرّياضيّة مؤلفَ المقال من إنشاء هذا المشهد الافتراضيّ، والّذي يُبيّنُ انفجارَ أشكالٍ من عالَمِ الرّياضيات في العالَم الماديّ.

فيما مضى، اعتقد علماءُ الرّياضيات أنَّ عمَلَهم هو اكتشاف رياضياتٍ جديدةٍ ومن ثمَّ تركُ الأمر للآخرين ليقوموا بشرحها.

أمّا اليوم، فإنّ الأدواتِ الرّقميّة كالطّابعةِ ثلاثيّةِ الأبعادِ، والرّسومِ المُتحرّكةِ والواقع الافتراضيّ أصبحت في مُتناوَلِ اليدِ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى، ممّا يسمحُ للرّياضيّينَ باكتشافِ أعمالٍ وتمثيلِها بآنٍ واحدٍ. فبدلاً من رسمِ سطحٍ مُعقّدٍ على السّبّورةِ، يمكننا الآن تسليمُ الطّلّاب نموذجًا فعليّاً يمكن لهم إدراكُه أو دعوتهم للطّيران فوقَه في الواقعِ الافتراضيِّ.

وفي العام الماضي، قامت ورشةُ عملٍ تُسمّى «تمثيل الرّياضيات» في معهد البحوث الحسابيّةِ والتّجريبيّةِ في الرّياضيات (أيسيرمICERM) بدعوة مجموعةٍ مُنتَقَاةٍ من الرّياضيّين ومُمارسي الفنِّ الرّقميِّ للاحتفال بما يبدو كأنّه عصراً ذهبيّاً للتّصوّرِ الرّياضيِّ . وبالطّبع، فقد كان التّصوّر أساسيّاً للرّياضيات منذ عهد فيثاغورث، ولكن يبدو أنّ هذه هي المرّة الأولى الّتي كان له فيها ورشةُ عملٍ خاصة.

كان الجوُّ مُكهربًا. وجرت محادثاتُ المُفكرينَ المبدعين الجامحين والّذين طبّقوا الرّياضيات على عالم التّصميم كأمثلةٍ للنّتائج الرّياضيّةِ البحتةِ المُكتشفَةِ من خلالِ التّجربةِ والتّصوّر بواسطةِ الحاسوب. وألقت الورشةُ الضّوء على المستوى الّذي وصلت إليه قوّةُ التّصوّر في دراسةِ ومُشاركةِ الرّياضيات.

إعادةُ تخيُّلِ الرّياضيات

يلعب التّصوّر دورًا مُتناميًا في البحثِ الرّياضيّ. فوفقًا لجون سوليفان John Sullivan من الجامعة التّقنيّة في برلين، يمكن على وجه التّقريب تصنيفُ أنماط التّفكيرِ الرّياضيِّ إلى ثلاثِ مجموعاتٍ:

- «الفيلسوف»؛ الّذي يُفكِّرُ في المفاهيمِ المُجرّدةِ بشكلٍ صرفٍ.

- «المحلّل»؛ الّذي يُفكِّرُ في الصّيغ.

- «الهندسيّ»؛ الّذي يُفكِّرُ في الصّور.

ويتمّ تحفيزُ البحث الرّياضيِّ من خلال التّعاون بينَ أنواعِ المفكرين الثّلاثة جميعاً. ويعتقد العديد من الممارسين بوجوبِ إعادةِ تقويم التّدريسِ لكي يكونَ مُتَّصلاً مع أنماطِ التّفكير المختلفة.

حلقات بوروميان Borromean Rings، شعار الاتحاد الدولي للرياضيات.

وقد استفادَ أوليفان في أعماله الشّخصيّةِ من الصّور. درس نظريّةَ العُقَد الهندسيّةِ الّتي تنطوي على إيجادِ «أفضلِ» التّكوينات "best" configurations. فعلى سبيلِ المثالِ، يُمكننا التّفَكُّر في عملِه على حلقاتِ بوروميان، الّذي فاز بمسابقة شعارِ الاتحادِ الدّوليّ للرّياضيات منذ عدّةِ سنواتٍ حيث ترتبطُ الحلقاتُ معًا، ولكن إذا قُطِعَت إحداها، ستنهار الأخريات، ممّا يجعلِ الشعارَ معبِّراً عن الوَحْدَة.

إنّ نسخةَ «الفقاعة» من التّكوين (الشّعار السّابق)، والمُبيّنة أدناه، صُغرى، بمعنى أنّها أصغر شكلٍ ممكنٍ بحيث لا تتداخل الأنابيبُ حول الحلقاتِ. إنّها كما لو كنتَ تنفخ فقاعةَ صابونٍ حول كلٍّ من الحلقات في التّكوين. وغالبًا ما تنطوي تقنيّاتُ إثباتِ أنّ تكويناتٍ كهذه هي الأمثلُ على مفاهيم التّدفق: ما يعني أنّه إذا لم يكن تكوينٌ معيّنٌ هو الأفضل، فإنّه يوجدُ في كثيرٍ من الأحيانِ طرقٌ لجعله يتحرّكُ باتّجاهٍ من شأنه أن يجعلَه أفضل. إنّ لهذا النّموذجِ إمكاناتٌ كبيرةٌ للتّصوّر.

في ورشةِ العملِ، أبهرَنا سوليفان بفيديو يُبيّنُ الأشرطةَ الثّلاثة وهي تتدفّقُ في وضعها الأمثل. حيث تسمح هذه الرّسومِ المُتحرّكةِ للباحثينَ برؤيةِ أفكارِهم متحرِّكةً. ولا يمكنُ اعتباره أبدًا بديلًا عن الإثباتِ الرّياضيّ. ولكن إذا أظهرَ الرّسمُ المتحرّكُ أنّ شيئًا خاطئاً يحدث، فعندها سيُدرك الجَمْعُ أنّه قد ارتكبَ خطأً في حساباته.

في هذه النسخة من حلقة بوروميان، يتم نفخ ‹ فقاعة صابون › افتراضية حول تكوين إطار السلك.

الفنّانونَ الرّقميّونَ

لقد ساعدت أدواتُ التّصوّر علماءَ الرّياضياتِ في مُشاركةِ عملهم بطرقٍ مبتكرةٍ ومثيرةٍ للدّهشة - حتّى أنّها ساعدتهم في إعادةِ التّفكير فيما قد تنطوي عليه وظيفةُ الرّياضيّ.

فعلى سبيلِ المثالِ عالِمَةُ الرّياضيات فابيِين سِرِّيْيِر Fabienne Serrière، الّتي جمعت مبلغًا قدره 124,306 دولاراً أمريكيّاً من خلال صفحتها على موقع كيكستارتر Kickstarter عام 2015 لشراءِ آلةِ حياكةٍ صناعيّةٍ. كان حلمها هو عملُ أوشِحَةٍ ذاتُ حياكةٍ خاصّةٍ تُظهر الأتومات الخلويّ cellular automata ، وهو عبارةٌ عن نموذجٍ رياضيٍّ من الخلايا مرسومةٍ على شبكةٍ. ولتنفيذِ خطواتِ التّصميمِ الخوارزميِّ الخاصِّ بها، قامت سِرِّيْيِر باختراقِ الشّيفرة الّتي تتحكّمُ بالآلة. وهي تعملُ الآن وقتاً-كاملاً على منسوجاتٍ مخصّصةٍ في استوديو سياتل الّذي قامت سِرِّيْيِر بإنشائه لهذا العمل خصّيصًا.

(هنا )

(هنا)

أمّا بالنّسبة لإدموند هاريس من جامعةِ اركنساس فقد اخترق التّعليماتِ البرمجيّةِ لحفّارةٍ معماريّةٍ، يستخدِمُها الآن لصناعةِ التّماثيل الرّياضيّة من الخشب. وتنطوي عمليّةُ التّحكم بهذه الآلة على أفكارٍ عميقةٍ من الهندسةِ التّفاضليّةِ. وبما أنّ أفكاره تدور حولَ السّيطرةِ على ذراعِ روبوتٍ بشكلٍ أساسيٍّ، فإنّ لها تطبيقاً واسعاً على ما وراءِ الفنِّ. ووفقًا لموقعه الالكترونيِّ، فإنّ هاريس «مدفوعٌ بالشّغفِ لإيجادِ صلةٍ بين جمالِ وفائدةِ التّفكيرِ الرّياضيّ».

في هذا النّحت من قبل إدموند هاريس، تمّت برمجةُ خطوطِ الحفّارة للذّهاب بشكلٍ عموديٍّ على حلقاتِ النّموِّ للشّجرة. وهذا ما يجعل النّحت النّهائيّ تصوّرًا لمفهومٍ يعرفه علماء الرّياضيات باسم "مسارات منحدر النّسب".

إنّ الخوارزميّات الرّياضيّة تُغذّي المنتجاتِ المصنوعةِ من قِبَلِ استديو الجهاز العصبيّNervous System، وهو استديو في ماساتشوستس أسّسته عام 2007 جيسيكا روزنكرانتزJessica Rosenkrantz، وهي أحيائيّة ومعماريّة، وجيس لويس روزنبرغJess Louis-Rosenberg، رياضيّ. و يبدو العديدُ من تصاميمهم، لأشياءَ مثل المجوهراتِ ذات تصميمٍ خاصٍّ وأغطيةِ المصابيحِ كأنّه بُنىً موجودةً بشكلٍ طبيعيٍّ في علمِ الأحياءِ أو الجيولوجيا.

كان أوّل فستانٍ تمّت طباعته بشكلٍ ثُلاثيِّ الأبعادِ مُكوَّناً من آلافِ القطع المتشابكةِ والمصمّمة لتناسب نموذجًا معيّنًا. ومن أجل طباعته ، أدرج المُصمّمون نسختهم الافتراضيّةَ، مستخدمين خوارزميّاتِ طيِّ البروتين Protein-folding algorithms. وبواسطة عمليّة تلبيدٍ (تلصيقٍ) انتقائيٍّ باللّيزر تمَّ صهر أجزاءَ من كتلةِ مسحوقٍ مع بعضِها لصنعه، ومن ثمَّ تمَّ التّخلُّصُ من المسحوقِ غيرِ المرغوبِ به بنفضه بعيدًا للحصول على الشّكلِ النّهائيِّ.

وفي الوقت نفسه، يمكن لمجموعةٍ رائعةٍ تُطلِقُ على نفسها اسمَ ألعابٍ هندسيّةٍ Geometry Games أن تساعد الجميع، من طلّاب المدرسةِ الابتدائيّةِ إلى الرّياضيّين المُحترفينَ، وذلك في اكتشافِ مفهومِ الفضاءِ. وقد تمّ تأسيسُ المشروعِ من قِبَلِ الرّياضيّ جيف ويكس Jeff Weeks، وهو واحدٌ من نجومِ الرُّوك في عالَمِ الرّياضيات. ونسخةُ الاندرويد من تطبيقه «ألعاب الطّارة Torus Games» يعلِّم الأطفال الفضاءاتِ مُتعددةِ الارتباطِ وذلك من خلالِ رسومٍ مُتحرّكةٍ تفاعليّةٍ. ووفقًا لويكس ، فقد حصل التّطبيقُ على مليون عمليّة تنزيلٍ.

خلفيّة شاشةٍ رياضيّة Mathematical wallpaper

أمّا بالنّسبة لفرانك فارس مؤلف المقال فإنّ عمله الخاص، والموصوف في كتابه «إنشاء التّناظر: الرّياضيات الإبداعيّة لأنماطِ الخلفيّات Creating Symmetry: The Artful Mathematics of Wallpaper Patterns» يبدأ بتقنيّة تصوّرٍ تُدعى خوارزميّة تلوين المجال the domain coloring algorithm.

وقد قام بتطوير هذه الخوارزميّةِ في التّسعينيّاتِ لتصوّر أفكاراً رياضيّةً تزيد بعداً واحداً على ما يمكن رؤيته في فضاء ثلاثيِّ الأبعادِ. حيث تُقدِّمُ الخوارزميّةُ طريقةً لاستخدامِ اللّون بغايةِ تصوّرِ شيءٍ ما يبدو مستحيلَ التّصوّرِ في رسمٍ تخطيطيٍّ واحدٍ: تابع ذو قيم عقديّة في المستوي.

وهي صيغةٌ تأخذ عددًا عقديّاً واحدًا (العددُ العُقَديّ هو تعبيرٌ على الشّكل : a+bi، له إحداثيَّين اثنَين) وتعطي عدداً عقديّاً آخراً كناتجٍ. حيث تزيد رؤية المُدخلات ثنائيّة البعد والمخرجاتِ ثنائيّة البعدِ بُعداً واحداً أكثرَ ممّا يمكن أن تراه العينُ المُجرّدةُ، وهنا تكمن الحاجةُ إلى خوارزميّته. والآن، يقوم باستخدامِها لإنشاءِ أنماطٍ وفنٍّ رياضيٍّ.

وتعتمد استراتيجيّة فارس الرّئيسيّة في صناعة الأنماطِ على فرعٍ من الرّياضيات يُسمى نظريّة فورييه، والّتي تنطوي على تراكب الأمواج. ومُعظمُ النّاسِ على درايةٍ بفكرةِ أنّ صوتَ وترِ الكمانِ يُمكن تقسيمه إلى تردُّداته الأساسيّة. و«توابع للخلفيّات wallpaper functions» تُقسِّمُ أنماطَ المستوي بطريقةٍ مماثلةٍ تماماً.

ويبدأ فارس كتابه بدرسٍ عن إنشاءِ المنحنياتِ المُتناظرة. مُطبِّقاً نفسَ الفكرةِ على بعدٍ جديدٍ، ولقد اكتُشفت طريقةُ نسجِ مجسّماتٍ مُتعدّدةِ السّطوحِ (كالمكعّبِ، والاِثنَي عشريّ السّطوح، ... إلخ) من أشرطةٍ متناظرةٍ مُنشَأةٍ من هذه الأمواج. نُظِّمَت ثلاثةٌ من هذه الأشكالِ الجديدةِ، باستخدامِ قدرة الفوتوشوب على رسمِ الأشعةِ ثلاثيّةِ الأبعادِ 3-D ray-tracing capacity ، في «ريجاتا الأفلاطونيّة» Platonic Regatta المبيّنة أدناه. تُبيّن الأشكالُ الثّلاثةُ تناظرَ المُجسّماتِ الأفلاطونيّة: عشرونيّ السّطوح/اثنا عشريّ السّطوح، مكعّب/ ثمانيّ السّطوح ورُباعيّ السّطوح. (انظر مقالنا عن المجسمات الأفلاطونيّة هنا)

ريجاتا الأفلاطونيةA Platonic Regatta. فن رياضي بواسطة فرانك فارس يظهر ثلاثة أنواع من التناظر متعدد السطوح: عشروني السطوح/اثنا عشري السطوح، مكعب/ ثماني السطوح ورباعي السطوح.

وبعد ساعةٍ من كلام فارس في ورشةِ العملِ، قام الرّياضيّ ميكايل جوهانسون Mikael Johansson بنشر بوتٍ على تويتر لتفعيلِ مجموعةٍ جديدةٍ من المُنحنيات كلَّ يومٍ!

وقد دخلت الرّياضيات في القرن الحادي والعشرين مرحلةً جديدةً. فإذا كنت تريدُ حلّ مشكلةٍ لم تُحَلّ، أو تدريسَ الطّلّابِ نتائجَ معروفةً، أو تصميمَ ملابسَ فريدةٍ أو مُجرَّدَ صناعةِ فنٍّ جميلٍ، فيمكن لأدواتٍ جديدةٍ من التّصوّرأن تُساعدك على القيامِ بذلك على نحوٍ أفضَل.

المصدر:

هنا