البيولوجيا والتطوّر > منوعات بيولوجية

كيف يخطط العلماء لعالم خالٍ من المضادات الحيوية؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

بدأت تلك الأدوية التي تسمّى المضادّات الحيوية، التي حمتنا من البكتريا الفتّاكة مايزيد عن سبعين عاماً، تفقد قدرتها شيئاً فشيئاً، فصرنا بحاجةٍ إلى أسلحةٍ جديدةٍ بعد أنْ أصبحت البكتريا المسبّبة للأمراض منيعةً ضدّ المضادّات الحيوية، التي كانت قد قضت عليها في مرّاتٍ سابقةٍ، بما في ذلك بعض الأدوية التي تعدّ الملاذ الأخير للعلاج.

تصيب البكتريا المقاومة للمضادّات الحيوية حوالي مليوني شخص سنوياً في الولايات المتّحدة الأمريكية، وتقتل حوالي 23 ألفاً، ويتوقّع الباحثون أنْ تقتلَ هذه الجراثيم عشرةَ ملايين شخص سنوياً إذا تُرك الأمر دون مراقبة، ما سيكبّد الاقتصاد العالمي ما يزيد عن ترليون دولار بحلول عام 2050.

لقد صرّح Francos Franceschi المشرف على برنامج تطوير العلاج: "هناك أشياء كثيرة ندعها للحظّ في وقتنا الراهن، فلا تُعطى المضادّات الحيوية عند إجراء بعض العمليات كالعملية القيصرية، أو عند تبديل مفصل الورك، أو زراعة بعض الأعضاء. وهذه العمليات ستكون صعبةً جداً، خاصّةً مع ضعف جهاز المناعة، فكلّ شخص معرّض للخطر عندما يصبح العالم دون مضادّات حيوية."

ويقول César de la Fuente البيولوجي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا: "إنّ الناس قد بدؤوا الآن يتحدّثون عن عصر ما بعد المضادّات الحيوية، فالمضادّات الحيوية المتوفّرة حالياً، لن تكون قادرةً على العمل ضدّ الالتهابات البسيطة مثل قطعٍ أو جرحٍ صغير."

ولمقاوَمة البكتريا المقاوِمة سنتّجه إلى حلفاء جدد، كالفيروسات التي تهاجم البكتريا فقط، وبما انّ لكلّ أداةٍ جوانبَ إيجابيةً وأخرى سلبيةً، يعمد الباحثون حالياً إلى استكشاف خصائص هذه الطريقة، وإجراء تجارب متعدّدة للبحث عن استراتيجيات بديلةٍ نضيفها إلى ترسانتنا الحالية، وفيما يلي بعض هذه الطرق التي سنرسل فيها حلفاءنا الجدد لخوض المعارك في حربنا ضدّ هذه الجراثيم الخطيرة.

الاستراتيجية الأولى: نزع سلاح الغزاة

يجب أنْ نعرفَ أنّه ليس من الضروري قتل البكتريا لإبطال مفعولها، فبعض العلاجات تهاجم البكتريا بشكلٍ غير مباشر، باستهداف أسلحتها التي تجعل منها خبيثةً أو سامّةً، ويشرح Franceschi عن هذه الطريقة بقوله: "في هذه الحالة تبقى البكتريا موجودةً، لكنّ نتائجَ الإصابة بها لن تكون شديدةً، وهذا من شأنه أنْ يعطي الجهاز المناعي فرصةَ مكافحة هذه العدوى، فإذا كانت المضادّات الحيوية المستعملة لا تقتل الجراثيم، سيكون حافز هذه الجراثيم لتطوير مقاومةٍ ضدّ هذه الأوية أقلَّ، وتستغرق المقاومة عادةً وقتاً طويلاً، لأنّ البكتريا في هذه الحالة لا تحارب بنشاط."

تنتج معظم أنواع البكتريا سموماً تسبّب ضرراً لخلايا المضيف، وأشهرها هي السموم المشكّلة للثقوب -إذ تشكّل حفراً وثقوباً في خلايا المضيف- وهي سموم تنتجها MRSA (Methicillin-resistant Staphylococcus aureus)، نوع من البكتريا العنقودية التي أصبحت مقاومة لأنواع متعدّدة من المضادّات الحيوية.

ومن أمثلتهاEscherichia coli، Listeria، والبكتريا التي تسبّب مرض الجمرة الخبيثة. أمّا تركيب السمّ فهو مشابه لتركيب سمّ الأفاعي، والعقارب، وشقائق النعمان البحرية.

يقول الباحثLiangfang Zhang : "يمكننا أنْ نجرّد البكتريا من سلاحها، فتصبح بعد ذلك ضعيفةً جداً، وذلك بتغليف الجزيئات النانونية بأغلفة من أجزاء أغشية الكريات الدم الحمراء، فتصبح هدفاً لا يُقاوم، وتشكّل مصيدةً تكون كالإسفنج لامتصاص السموم التي تستهدف الخلايا السليمة."

أُجريت هذه التجارب على الفئران، وامتصّت هذه المصائد النانونية السموم دون أنْ تؤذيَ جسم الفأر، ويأمل Zhang أنْ تبدأ التجارب السريرية على البشر في غضون عامين، وغالباً ما تُصنع تلك الجزيئات الدقيقة من البلاستيك، أو بعض المعادن كالفضّة، وإلى جانب هذه الطريقة هناك طرق أخرى يمكننا من خلالها تعطيل الخلايا البكترية؛ كتمزيق أو تعطيل أغشيتها الخارجية التي تحمي مادّتها الوراثية، ويُعدّ التعامل مع هذه الجزيئات سهلاً للغاية، فهي تحتاج فقط إلى ضبط درجة الحرارة، وضبط المحاليل الكيميائية لتتجمّع بشكل تلقائي.

قد تكون هذه الجزيئات النانونية أعلى كلفةً من المضادّات الحيوية التقليدية، ويعدّ توجيه هذه الجزيئات إلى نقطةٍ محدّدةٍ من الجسم تحدّياً كبيراً، وهناك جانب مقلق آخر وهو ضرورة التأكّد من تصنيع هذه الجزيئات من موادّ لن تسبّب استجابةً مناعية مباشرةً ، ومن تحطّم هذه الموادّ وتكسّرها تلقائياً مع الزمن، وعدم تراكمها في الجسم. لا تزال هناك تساؤلات مستمرّة حول سلامة استخدام هذه الجزئيات على المدى الطويل، ورغم كلّ هذه المخاوف يُعتقد أنّ لهذه الجسيمات النانونية تأثيراً قوياً وهامّاً ضدّ الجراثيم.

الاستراتيجية الثانية: الإيصال الخاصّ.

يمكن من خلال هذه الاستراتيجية استعمال العلاجات البديلة لجعل المضادّات الحيوية الحالية أكثر فاعلية، ويبحث العلماء حالياً عن كيفية استخدام الجسيمات النانونية لإيصال المضادّات الحيوية وأدوية السرطان إلى أهدافها، فبدل انتشار المضادّات الحيوية في جميع أنحاء الجسم، وارتفاع سمّيتها نتيجة زيادة جرعاتها، يمكن استخدام الجسيمات النانوية لإيصال جرعاتٍ مركّزةٍ من الدواء توضع داخلها، إذ تستطيع هذه الجزيئات اقتحامَ غشاء الخلية بسهولة، وتحريرَ هذه الأدوية المضادّة للبكتريا، وهذا يعني شحناً أكثر فاعلية للدواء دون زيادة جرعته الإجمالية، ويمكن لهذه الطريقة أنْ تمنعَ البكتريا من زيادة مقاومتها لأنّها ببساطة لم تُطوّر آليةً لمقاومة هذه الكمّية الكبيرة والمركّزة من الدواء.

لكنّ المشكلة في هذه الطريقة والطرق الأخرى هي أنّ الجهاز المناعي يعدّ هذه الجزيئات تهديداً، ويعاملها على أنّها أجسامٌ غريبة، فحجم هذه الجزيئات النانونية بحجم الفيروسات تقريباً، وجهازنا المناعي مدرّبٌ مسبقاً على تنظيف أجسامنا من هذه الجسيمات والفيروسات. وللتغلّب على هذه المشكلة عمد Zhang إلى خداع جهازنا المناعي، بوضع هذه الجسيمات النانونية ضمن أقنعةٍ مصدرها أجزاء من أغشية الكريات الحمراء أو من الصفائح الدموية، فتظهر كخلية صغيرة، وفي الواقع إنّ بعضَ أنواع البكتريا تنجذب للصفائح الدموية لتتوارى عن الجهاز المناعي، وهنا يمكن القول إنّ الطاولة قُلبت على البكتريا، فالجسيمات النانوية المغلّفة تستدرج البكتريا، ثمّ تنفجر فيها وهي مملوءة بالدواء.

الاستراتيجية الثالثة: الهجوم المباشر.

لا داعٍ للحيلة أو الخداع في بعض الأحيان، فهناك العديد من البدائل للمضادّات الحيوية التقليدية التي يمكنها قتل البكتريا مباشرةً، تعتمد هذه الاستراتيجية على تصميم ببتيدات يصنعها جسم الإنسان للتصدّي للبكتريا، وهي تعدّ آليةً من آلياتِ الاستجابة المناعية في جسم الكائن الحي، إذ تهاجم هذه المركّبات غشاء خلية الكائن الممرض، وتستطيع أيضاً الوصول إلى داخل الخلية وتخريبها، ويمكن لهذه الببتيدات تدمير مجموعةٍ واسعةٍ من البكتريا الممرضة، التي تجد بدورها صعوبةً في تطوير مقاومةٍ لها. وبالمقارنة مع المضادّات التقليدية تُعدّ هذه الببتيدات أكثرَ فاعليةً في حالات عديدة، وهي تتألّف من سلاسل قصيرة نسبياً من الأحماض الأمينية، التي تشكّل الوحدات الأساسية لبناء البروتين، ولكن بالمقابل يحتاج بناء هذه السلاسل إلى وقت وكلفة عالية، ولا يزال البحث جارياً لإيجاد طرق أقلّ كلفة من خلال برمجة أنواع من الكائنات الدقيقة بدلَ الاعتماد على الأجهزة، ولكن ثمّةَ مخاوف عديدة من تحوّل هذه الببتيدات داخل الخلايا المضيفة -كحال كلّ البدائل- فما زال إرسال هذه الببتيدات إلى المكان الصحيح مع تركيزٍ عالٍ تحدّياً كبيراً.

إلّا أنّه يمكن على المدى المنظور استخدام هذه الببتيدات موضعياً، أي نستطيع وضع هذه الببتيدات ضمن كريم خاصّ يطبّق على الجلد في حال حدوث جرح، أو على بعض الأدوات ذات الاستخدام اليومي والاستخدام الجراحي لمنع نموّ الجراثيم عليها.

الاستراتيجية الرابعة: إعادة التوعية.

هناك طريقة أخرى لإضعاف البكتريا وضرب مقاومتها للمضادّات الحيوية، من خلال استغلال الفيروسات المتخصّصة في افتراس البكتريا وقتلها، وتسمّى لاقمات البكتريا (البكتيروفاج). ويمكن للباحثين استخدام الهندسة الوراثية لإعطاء هذه الفيروسات مهاراتٍ جديدةً، وتحضيرها للمعركة، وتستطيع هذه الفيروسات المبرمجة إيقافَ عمل المورّثات المسؤولة عن تشكيل المقاومة للمضادّات الحيوية، ومحوها، وحتّى قتل البكتريا.

من الطرق التي تسلكها البكتريا لمقاومة المضادّات الحيوية إفراز مركّباتٍ تشكّل حاجزاً يسمّى biofilm لا يمكن للأدوية اختراقه، ولحلّ هذه المشكلة نستطيع إعادةَ هندسة اللاقمات لتكون قادرةً على هضم وتدمير هذه الحواجز، وفي حالات أخرى يمكن لهذه الفيروسات القضاء على البكتريا مباشرةً، إذ تُعاد هندسة هذه اللاقمات التي تستطيع الاتّجاه مباشرةً نحو البكتريا وقتلها بشكلٍ مستهدف، لكنّ اللاقمات لم تستخدم في الإنسان بعدُ، وما يميّز هذه اللاقمات قدرتُها على إعادة تصنيع نفسها مرّاتٍ عديدة، فيمكن لعددٍ قليلٍ منها قتل عدد كبير من البكتريا، لكنْ يجب أنْ ننتبه أيضاً إلى أنّ الفيروسات تحتاج البكتريا لكي تتكاثر، لهذا لا نتوقّع منها القضاء على مضيفها بشكلٍ كاملٍ.

وكحال البدائل الأخرى، هناك مخاوف كثيرة حول استخدام هذه الطريقة، إذ يمكن لهذه الفيروسات استثارة جهازنا المناعي كأيّة مادّة غريبة تدخل الجسم، وهناك خوفٌ من نقل هذه الفيروسات المورّثات المسؤولةَ عن تشكيل مقاومة المضادّات الحيوية إلى أنواع أخرى من البكتريا، إلّا أنّه يُستبعد أنْ تؤذيَ هذه الفيروسات الأنسجة البشرية، لأنّ هذا النوع لا يمكنه التكاثر ضمن هذه الخلايا، ولم يسجّلْ أيّ تقرير مخالف لذلك رغم وجود العديد من هذه الفيروسات داخل أجسامنا.

الاستراتيجية الخامسة: لمسةٌ شخصية.

قد تكون بعض العلاجات البديلة مصمّمةً لمهاجمة بكتريا محدّدة، وهنا تبرز أيضاً اللاقمات كمرشّح أمثل، لكونها العدوّ الطبيعي للبكتريا، أمّا المضادّات الحيوية فغالباً ما تقتل البكتريا دون تمييز، بما في ذلك تلك الموجودة في أمعائنا، وتعدّ مفيدة لدورها الإيجابي الهامّ في حالتنا الصحّية، وهذا ما يُتيح الفرصة أمام بعض الأنواع الانتهازية لاستعمار الجسم، أمّا الفيروسات فهي توفّر نهجاً أكثر تخصّصاً، إذ يمكن من خلالها تجنّب البكتريا الجيّدة وقتل السيّئة فقط، لكنّ الخاصّية هي سيفٌ ذو حدّين، فللقضاء على أنواع متعدّدة من البكتريا التي يمكن أن تصيب الإنسان، تُمزج العديد من الفيروسات (ونموّ فيروسات هذا المزيج غير مكلف)، إلّا أنّ الحصول على أنواع متعدّدة من الفيروسات أصبح أكثر تعقيداً، فاقترح أحد الباحثين أنّ الخروجَ إلى الطبيعة والحصول على لاقمات مختلفة ومزجها معاً هي الطريقة الأكثر جدوى، التي تطرح أيضاً تحدّياً في مجال التطوير العلمي.

ورغم ذلك فإنّه من الصعب تصميم دواء دون معرفة سبب المرض، فالطبيب مثلاً لن يشعرَ بالثقة عندما يصف الدواء دون أن يكون متأكّداً من نوع البكتريا التي أدّت إلى حدوث العدوى.

وعادةً ما يحتاج الأطباء تشخيصاً سريعاً لمعرفة نوع البكتريا ومدى مقاومتها للأدوية التقليدية، ولهذا رافق أحد الباحثين فريقاً بحثياً لهندسة لاقمات فيروسيةٍ، لتشخيص سريع وأقلّ كلفة، وميزة هذه الفيروسات أنّها تضيء عندما تصيب البكتريا المستهدفة من خلال إنتاج نوع البروتين نفسه الذي تطلقه اليراعات، وبهذه الطريقة يمكننا الكشف السريع عن نوع البكتريا عند إصابة شخصٍ ما من خلال فحص عيّنة دم بعد حقنها بالفيروسات السابقة، فإذا كانت متوهّجة يمكننا معرفة نوع البكتريا.

الاستراتيجية السادسة: ترسانة متنوّعة

ليست هذه الأسلحةَ الوحيدة التي نضيفها إلى ما نخبّئه لهذه البكتريا، فقد اكتشف الباحثون وجود خياراتٍ أخرى، كإرسال بكتريا أخرى تحارب العوامل الممرضة.

وما زال البحث مستمرّاً عن مضادّات حيوية جديدة، تستوحى غالباً من المركّبات التي تستخدمها البكتريا نفسها لمحاربة بعضها البعض، أمّا من حيث التطبيق فنحتاج عدّة سنواتٍ لاعتماد هذه الأدوات على نطاق واسع، وسوف تستخدم هذه البدائل في الحالات التي لا تستجيب فيها البكتريا للعلاج بالمضادّات التقليدية.

وفي النهاية، إنّ توجيه سهامٍ محدّدةٍ إلى البكتريا، سيبطئ تطوّر مقاومتها، لأنّ الاستخدام الواسع للمضادّات الحيوية الفردية قد سهّل للبكتريا المستهدفة تطوير خطوط دفاعٍ، لكنّ المشكلةَ لن تنتهي عند هذا الحدّ، خاصّةً أنّه يسهل على البكتريا التطوّر، لهذا سنحتاج دائماً إلى أسلحةٍ جديدةٍ ومتطوّرة.

المصدر:

هنا