التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية

من هم شعوب البحر؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

مع نهاية القرن الثالث عشر قبل الميلاد تعرضت سواحل البحر الأبيض المتوسط إلى هجمات شنتها شعوب غامضة تسمى "شعوب البحر"، فصمتت المصادر الكتابية في المنطقة وعُثر في طبقات الاستيطان العائدة لتلك الفترة في معظم المواقع الأثرية على آثار دمار، حتى أن بعض المدن لم تقم لها قائمة حتى يومنا هذا، وهذا ما دفع العلماء لإطلاق مصطلح "العصر المظلم" على هذه الفترة التي تشكل حلقة مفقودة بالنسبة للمختصين بدراسات الشرق القديم، وعلى الرغم من تطور دراسات الشرق الأدنى القديم واكتشاف الكثير عن تاريخ وتراث هذه المنطقة إلا أن العديد من الألغاز مازالت دون حل، يضعنا هذا المقال في صلب أحد هذه الألغاز الذي مازال يحير العلماء، فتابعونا....

شعوب البحر هم مجموعة من المهاجمين البحارة الذين غزوا المدن والقرى الساحلية لحوض البحر الأبيض المتوسط خلال الفترة بين 1276-1178 ق.م، وقد ركزوا جهودهم بصورة خاصة على مصر. وتبقى أصول شعوب البحر غامضة خاصة وأن السجلات المتوفرة عن نشاطاتهم وهي بصورة أساسية مصادر مصرية تصفهم فقط ضمن مصطلحات المعارك مثل مسلة تانيس التي تذكر: "لقد قدموا من البحر بسفنهم الحربية ولا يمكن لأحد الوقوف ضدهم". ويعد هذا الوصف في المصادر المصرية نموذجياً لهؤلاء الغزاة الغامضين.

سميت القبائل التي تتألف منها شعوب البحر في المصادر المصرية بـ الشِردِان، الشِكلِش، لوكَّا، تورشا، وأقاواشا، وقد اعتدت شعوب البحر بالإضافة إلى مصر على الامبراطورية الحثية وبلاد الشام ومناطق أخرى حول شاطئ البحر الأبيض المتوسط.

تمت مناقشة أصول شعوب البحر واقترح أنهم اتروسكيون، بلستينيون، ميسينيون وحتى مينويون ولكن وبما أنه لا توجد مزيد من المعلومات المكتشفة حتى الآن تسلط مزيداً من الضوء على أصولهم أكثر مما هو معروف، تبقى هذه الآراء مجرد تخمينات.

سجل الفراعنة الثلاثة: رمسيس الثاني (1279-1213 ق.م)، وابنه وخليفته مرنبتاح (1213-1203 ق.م) ورمسيس الثالث (1186-1155 ق.م) صراعاتهم وانتصاراتهم على شعوب البحر. وادعى الفراعنة الثلاثة انتصارات عظيمة على خصومهم لذلك تزودنا نقوشهم بالدلائل الأكثر تفيصلاً عن شعوب البحر.

شعوب البحر ورمسيس الثاني:

كان رمسيس الثاني واحداً من أكثر حكام مصر تأثيراً في تاريخ مصر القديم ومن إنجازاته تأمين الحدود ضد غزو قبائل البدو وتأمين طرق التجارة الحيوية لاقتصاد البلاد. سيطر الحثيون في بداية عهده على قادش، وهي المركز التجاري المهم في سورية، فقاد رمسيس الثاني جيشه عام 1274 ق.م لطردهم منها، وقد ادعى رمسيس الثاني نصراً عظيماً ووثق القصة بالتفاصيل في أحد نقوشه التخليدية.

إلا أن ادعاء رمسيس الثاني نصره الكامل يصطدم بادعاء الحثيين لنصرهم عليه أيضاً، لكن نقش رمسيس الثاني مهم لأسباب عديدة أخرى بعيداً عما أراده رمسيس منه، وخصوصاً ما يذكره النص عن شعوب البحر. فقد ورد ذكر شعوب البحر في هذا النقش حلفاءً للحثيين ومرتزقة ضمن جيش رمسيس الثاني أيضاً!. لم يتم ذكر أي شيء عن المكان الذي أتوا منه أو من كانوا، وهو ما دفع العلماء إلى الاستنتاج بأن هذه المعلومات كانت معروفة لدى الجمهور الذي وُثق النص لهم؛ فشعوب البحر لم يحتاجوا إلى أي تقديم في النص.

شرح رمسيس الثاني في السنة الثانية من عهده أيضاً كيف هزم شعوب البحر في معركة بحرية على شواطئ مصر. حيث سمح لسفن شعوب البحر الحربية وإمداداتهم وحمولتهم من الاقتراب إلى مصب نهر النيل، حيث كان لديه أسطول مصري صغير في وضعية الدفاع. انتظر بعد ذلك شعوب البحر ليهاجموا ما بدا لهم قوات ضئيلة قبل أن يبدأ هجوماً كاملاً عليهم من الأطراف ويغرق سفنهم. يبدو أن المعركة كانت فقط ضد الشِردِن أو على الأقل هم الوحيدون الذين ورد ذكرهم لأنه وبعد المعركة تم أسر العديد منهم من قبل جيش رمسيس الثاني وخدم بعضهم ضمن حرسه الشخصي. وبثقة كبيرة وكما فعل في جميع نقوشه، أعطى رمسيس الثاني انطباعاً بأنه عالج تهديد شعوب البحر، لكن نقوش خلفائه تروي قصة أخرى.

نقوش مرنبتاح:

استمر مرنبتاح بمواجهة المتاعب من قبل شعوب البحر الذين تحالفوا مع الليبيين لاجتياح دلتا النيل، كتب مرنبتاح في السنة الخامسة من عهده (1209 ق.م) كيف أن قائد الليبيين مِرِيِ تحالف مع شعوب البحر لغزو مصر. يشير مرنبتاح إلى أن التحالف الليبي قادم من البحار الشمالية ويسمي المناطق وهي أقاواشا، تورشا، لوكَا، شَردان وشَكِلِش. وقد حاول العلماء تحديد هذه الأماكن ومعرفة أصول الأسماء دون التوصل إلى أي نتيجة.

يوجد العديد من النظريات حول هوية شعوب البحر كما ينفي بعض العلماء وجودهم. بغض النظر عمن كانوا فإن مرنبتاح يصفهم بالخصوم الأقوياء، ويفتخر بهزيمتهم بنقشه على جدران معبد الكرنك وعلى مسلة معبده الجنائزي.

يبدو أن شعوب البحر في هذه المرحلة من تاريخهم كانوا يطمحون لتأسيس مستوطنات دائمة في مصر لأن قواتهم الغازية جلبت معها مقدار لا حصر له من السلع المنزلية وأدوات البناء.

بعد الدعاء والصيام واستشارة الآلهة بخصوص الاستراتيجية اللازمة لهزيمتهم قابل مرنبتاح شعوب البحر في سهل بي-ير حيث ذبحت القوات المصرية من الفرسان والمشاة والرماة أكثر من 6000 من الخصوم وأسرت أفراداً من الأسرة الملكية الليبية، ادعى مرنبتاح نصراً تاماً وأصبحت الحدود المصرية آمنة مرة أخرى، وقد قام بتخليد القصة في نقش الكرنك وعلى المسلة في معبده الجنائزي احتفالاً بإنجازه هذا.

رمسيس الثالث ومعركة سخا (معركة الدلتا):

خلال عهد الفرعون رمسيس الثالث هاجمت شعوب البحر قادش -المركز التجاري للمصريين- وحاولوا مجدداً غزو مصر، وقد بدأوا بغارات سريعة على طول الساحل (مثلما فعلوا في عهد رمسيس الثاني). وقبل أن يتوجهوا باتجاه الدلتا، صدهم رمسيس الثالث عام 1180 ق.م إلا أنهم عادوا بقوة، وقد وصف رمسيس الثالث غزوهم في نقشه بالتالي:

"تآمرت البلاد الأجنبية في جزرها. كل الأراضي سقطت وتبعثرت في النزاع. لم تستطع أي منطقة مقاومة أسلحتهم، ابتداءً من خاتي، كودي ، كركميش ، أرزاوا وألاشيا كلها أزيلت مرة واحدة، أقيم مخيم في أمورو. أبادوا سكانها وبدت أراضيها وكأنها لم تكن موجودة أبداً. كانوا يتقدمون إلى الأمام باتجاه مصر، بينما كان يُحضَّر اللهب لهم. تألف تحالفهم من البلست، التجكر، الشكلش، الدنن والوشش. وضعوا أيديهم على البلدان على امتداد الأرض، قلوبهم كانت واثقة حتى قالوا "ستنجح خططنا"!."

ربما تكون البلدان التي ذكرت ضمن التحالف هي مناطق فلسطين (البلست) أو ساحل كنعان بالقرب من حيفا حالياً (التجكر) إلا أن هذا غير مؤكد، لكن من الواضح أن هؤلاء هم نفس المجموعات من الناس –مع بعض المجموعات الأخرى- التي هاجمت مصر مع الليبين في عهد مرنبتاح.

تحالفت شعوب البحر خلال هذا الهجوم كما كان الحال في الهجوم السابق مع الليبيين وكما أشار رمسيس الثالث فإنهم كانوا واثقين من النصر. فقد دمروا سابقا الدولة الحثية ( التي ترد في النقش باسم خاتي) حوالي 1200 ق.م وعندما يكتب رمسيس الثالث "كانوا يتقدمون إلى الأمام باتجاه مصر" فإنه غالباً يشير إلى أنهم كانوا يتقدمون بتسارع وبدون مقاومة.

عرف رمسيس الثالث من مواجهة أسلافه لهذه القبائل أنه يجب أن يأخذهم بجدية كبيرة، فقرر الابتعاد عن الاشتباك معهم في منطقة مفتوحة واعتمد على استراتيجية بديلة تقوم على تكتيك حرب العصابات، فجهز هجوم مفاجئ على امتداد الساحل نزولاً باتجاه دلتا النيل واستخدم بشكل خاص ومؤثر رماة الأسهم حيث خبأهم على طول الشاطئ ليمطروا السفن بسهامهم عند إشارته. وبمجرد موت أطقم السفن أُشعلت المراكب بالسهام النارية. تم صد الهجوم البحري ليلتفت رمسيس الثالث بعد ذلك إلى ما تبقى من القوة المهاجمة على الأرض. فوظف نفس التكتيك السابق ليتم في النهاية صد هجوم شعوب البحر على مدينة سخا عام 1178 ق.م. وسجل المصريون مرة أخرى تفاصيل النصر العظيم الذي أدى إلى قتل قسم كبير من شعوب البحر وأسر آخرين وتجنيدهم في الجيش المصري والقوات البحرية أو بيعهم عبيداً.

الشكل (1،2): نقوش لرمسيس الثالث وهو يهزم شعوب البحر

على الرغم من أن رمسيس الثالث أنقذ مصر من الهجوم فإن هذه الحرب كانت مكلفة جداً حيث استنزفت الخزينة الملكية حتى أن أجور بنائي القبور في دير المدينة التي تقع شمالي وادي الملوك لم يكن دفعها ممكناً وهو ما أدى إلى أول إضراب معروف في التاريخ حيث ترك العمال أعمالهم ورفضوا العودة حتى استلام أجورهم بالكامل.

اختفى ذكر شعوب البحر من المصادر التاريخية بعد هزيمتهم من قبل رمسيس الثالث، وربما تم استيعاب من نجى منهم من المعركة في الثقافة المصرية. لم تشر المصادر إلى المكان الذي قدموا منه ولا توجد معلومات عنهم بعد عام 1178 ق.م، لكنهم كانوا لقرابة مئة عام أكثر الغزاة البحارة رعباً في منطقة البحر الأبيض المتوسط، كما شكلوا تحدياً دائماً لقوة وازدهار مصر.

اللغز الدائم:

كما ورد سابقاً لايوجد اتفاق بين العلماء يحدد من هم شعرب البحر، وعلى الرغم من هذا سيجد المرء عدداً من العلماء الذين يدافعون بقوة عن وجهات نظرهم.

تورد النقوش المصرية التي تمت مناقشتها في هذا المقال كل ما يمكن معرفته حول هذه الشعوب تقريباً خارج المراجع التي ترد في الرسائل الحثية والآشورية والتي لاتسلط مزيداً من الضوء بدورها على الموضوع.

يعد واضحاً انهم كانوا معروفين جيداً من قبل المصريين من خلال عدم الإشارة لهم على أنهم شعوب غريبة، ويمكن أن يدفع وجودهم في جيش رمسيس الثاني وعامل المفاجئة في غزواتهم إلى احتمال كونهم أصدقاء أو حلفاء للمصريين حتى. يكتب المؤرخ مارك فان ميروب:

"قدّم كل من رمسيس الثالث ومرنبتاح الهجمات على أنها مفاجئة وغير متوقعة ومع أعداد كبيرة من المشاركين. حتى أن نقوش رمسيس الثالث تذكر عربات محملة بالنساء، الأطفال، والأثاث المنزلي، كما وأن الأمر كان أيضاً حركة سكانية. وتشير روايته لظهور شعوب البحر في شمال الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط إلى أن هذا الأمر كان غير متوقع ومفاجئاً جداً ومدمراً بشكل كبير، لكن مرنبتاح كان قد أشار إلى أحداث مماثلة في فترة أقدم بـ 30 عاماً. إضافة إلى أن أسماء قبائل شعوب البحر لم تكن جديدة في السجلات المصرية، العديد منهم وردوا قبل عشرات السنين(251-252)".

ورد ذكر شعوب البحر أيضاً في الأدب المصري، وفي قصة وينامون بشكل خاص، حيث وردوا كعناصر مألوفة في منطقة البحر المتوسط. وما يزال نهوض هذه الشعوب بصورة منتظمة ضد مصر –إن كانوا حقيقة فعلوا هذا- يحير المؤرخين والعلماء. المؤرخون من أمثال مارك فان ميروب يرون أن التساؤل حول هوية شعوب البحر سبيقى دون جواب وأنه لم يعد يوجد نقاط بحث يمكن الرجوع لها لمحاولة اكتشاف هذه الجواب. في هذه الخصوص يكتب: "يمكن أن يتساءل المرء لماذا أظهر شعوب البحر شغفاً كبيراً" ويقول: "إن استمرار ظهورهم في كل كتاب عن تاريخ العالم يمكن شرحه"، الشرح بسيط جداً: تبقى هوية شعوب البحر الحقيقية لغزاً، والبشر دائماً ينجذبون إلى الأمور الغامضة وسيبقون دوماً كذلك.

المصدر:

هنا