البيولوجيا والتطوّر > منوعات بيولوجية

الدماغ وحاسة التذوق علاقة غامضة ومشاعر

استمع على ساوندكلاود 🎧

تبدأ القصة عند البراعم الذوقية التي تلتقط الطعوم الأساسية، كالحلو والمالح والمر والحامض والـ Umami*، وبعض الطعوم الأخرى الجدلية، ولا تنتهي هنا! إذ تُعد الطريقة التي يعالج فيها الدماغ هذه الطعوم على نفس القدر من الأهمية؛ فقد وضع الباحثون مؤخراً خريطةً ذوقية مبنيةً على مبدأ يقول بوجودِ مناطق في الدماغِ، مُتخصّصةً بإدراك كلّ نمط ذوقيّ، كما هو الحال تماماً بالنسبة لتخصص كل من البراعم الذوقية.

الاكتشاف الحديث الآخر في أبحاث التذوق هو أن المستقبلات التي تكشف الطعم المر والحلو والـUmami ليست محصورةً في اللسان، و إنما تتوزع حول المعدة والأمعاء والبنكرياس، حيث تساعد في عملية الهضم من خلال التأثير على الشهية، وتنظيم إنتاج الأنسولين. كما وُجدت هذه المستقبلات في الطرق التنفسية حيث وُجد أن لها تأثير على التنفس، كما تبين أن لها تأثير على إنضاج النطاف في السائل المنوي. علاوةً على ذلك، يمكن أن يؤدي الفهم الأفضل لماهية وآلية فعل هذه المستقبلات، لنتائج في معالجة الحالات المرضية التي تتراوح ما بين داء السكري إلى العقم.

خريطة الدماغ التي طوّرتها هذه الدراسة

كانت نتيجةُ الدراساتِ السابقة، التي هدفت إلى توضيح كيف يُعالَج التذوق في الدماغ، مربكةً وغير واضحة، فقد اعتقدت إحدى النظريات الأساسية، أن القشرة الذوقية - المنطقة الدماغية المسؤولة بشكلٍ خاصٍ عن إدراك التذوق - مرتبة بشكل كبير. فيستجيب حسب هذه النظرية، كل عصبون لكل نمطٍ ذوقي، مع بقاء إمكانية الاستجابة للأنماط الأخرى. كما كان من المعتقد بأن العصبونات مقسمة وفق ذلك بالتساوي. وقد كان هذا النموذج متوافقاً مع الشمِ، الحاسة الأخرى ذات الطابع الكيميائي، والتي لا تؤدي لأي نماذج مميزة في الدماغ؛ فتمييز الرائحة يعدُّ نمطاً للمعالجة العصبونية التشاركية، حيث تؤدي تبدلاتٌ طفيفةٌ في معدلات التنبيه لمجموعاتٍ كبيرةٍ من العصبونات، للإحساس برائحة مميزة.

تبين باستخدام التقنيات الحديثة أن وضع بضعة نقاط من سوائل متنوعةٍ مُرّة الطعم على لسان حيوانٍ أدّى إلى تخديره. ولكن وتماشياً مع الدراسات السابقة ولكون ذلك أكثر ملاءمة يفعِّل الطعم المرّ في كل مرةٍ، مجموعةً صغيرةً معينةً من العصبونات في القشرة الذوقية، وتبين أن هذه العصبونات لم تتفعَّل من أجل أنماطِ الذوق الأخرى. وعند إجراء التجربة نفسها من أجل أنماط التذوق الأخرى تبين أن لكلٍ منها مجموعةٌ مميزةٌ، أو بؤرةٌ خاصةٌ من العصبونات، التي يتم تفعيلها، إلا أن البحث عجز عن تحديد موقع الباحة المسؤولة عن كشف الطعم الحامض.

تعاكس هذه النتائج الجديدة، الأفكار السابقة حول معالجة الدماغ للأنماط الذوقيِّة. هذا وتبين أنه من المحتمل أن تفصل مسافة كبيرة تقدر بـ 2.5 مم بين الباحات الدماغية المسؤولة عن أنماط التذوق، التي تتداخل خلايا استقبالها بشدةٍ على مستوى اللسان. إلا أن النتائج تبدو منطقيةً لبعض الباحثين، فالطعم المرُّ مثلاً يمكن أن يسلك طريقا مختلفاً ويُربَط مع مناطق دماغية تسبب النفور في حين يرتبط الطعم الحلو مع الانجذاب.

ما تمَّ الحصول عليه حتى الآن، هو خريطةٌ متناثرةٌ لأربع مناطق ساخنةٍ في القشرة الدماغية المسؤولة عن التذوق، ولكن بالقرب منها، توجد مناطق أخرى يمكن أيضاً أن تٌستخدم لترميز التذوق في الدماغ. كما يمكنها أن تحتوي على عصبونات تستجيب لأحاسيس متنوعة، وقد تمثل هذه المناطق، امتزاج أنواعٍ مختلفة للأحاسيس بالطعوم المختلفة التي ربما تكون مسؤولة عن تصور النكهة.

يعتقد بعض الباحثين، أنه على الرغم من كون اكتشاف هذه البؤر إنجازاً هاما، ويقدم أساساً عن تنظيم القشرة الدماغية، إلا أنه يقدم خريطة القشرة الذوقية بشكل مبسطٍ للغاية. فقد أظهرت الأبحاث السابقة أن العصبون لا يستجيب لمحرضٍ واحدٍ، لذا من المتوقع أن يكون للبؤرة المسؤولة عن الطعم الحلوِّ، استجابات صغيرة للمحرضات الأخرى مثل الملح أو الumami، لكن وعلى الرغم من كون ذلك صحيحاً، ونظراً لوجود تقاطع بين أنماط الذوق المختلفة، فهناك تقسيم مكاني بشكل عام، وأغلبية العصبونات من كل منطقة تستجيب لنمط معين من الطعوم. كما وجد باحثون آخرون أنه من الغريب عدم اكتشاف منطقةٍ خاصةٍ بالطعم الحامض ومعرفة فيما إذا كان منتشراً أو محصوراً بمكان ما، في منطقة مختلفة من الدماغ. وفُسّر ذلك بخصوصية الطعم الحامض لكونه بخلاف الطعوم الأخرى مرتبطٌ مع الألم، مما يجعل معالجته القشريّة أكثر تعقيداً. كما انتُقد منهج الدراسة المعتمد على إجراء التجارب على حيواناتٍ مخدرةٍ؛ نظراً لكونها تستجيب بشكل مختلف عن تلك الواعية فيما يخص الشم على الأقل.

كما تُجرى التجارب حالياً لمعرفة طريقة استجابة الدماغ للطعوم المختلطة، وبحث الآلية التي تسمح لهذه الباحات الحسية بأن تقابل كلاً من الطعم الحلو والمر، وأن تثير سلوكيات مدهشة وغريبة تتراوح من النفور إلى البهجة والسرور.

الفكرة الغريبة التالية التي نتجت عن الأبحاث السابقة هي أن المستقبلات الذوقية توجد خارج الفم أيضاً: فالبراعم الذوقية ببساطة، هي عبارةٌ عن مستقبلٍ للمواد الكيميائية، لذلك يمكن أن يكون لها وظائف غير مرتبطة مع كشف نكهة الطعام، وتوجد هذه المستقبلات في أماكن عديدة مدهشة في الجسم منها:

1- الجهاز الهضمي

ليس مفاجئاً أن يكون توضُع البراعم الذوقية في الجهاز الهضمي، وهو المثالُ الأكثر فهماً لتوزع البراعم الذوقية خارج اللسان. توجد مستقبلات الطعم الحلو T1R2\T1R3 على الخلايا المعوية الغدية من النمط K وL في الأمعاء، وتفرز هذه الخلايا هرموناتٍ تدعى الإنكريتينات Incretins، والتي تحث بدورها إنتاج الانسولين. وتفسِّر مستقبلات الطعم الحلو هذه بدقةٍ، ظاهرةً كانت قد حيَّرت علماء وظائفِ الأعضاء، لأكثر من 50 سنة وهي أن الغلوكوز المتناول فموياً، يحرض وبشكلٍ واضح، إنتاجاً أكبر للإنسولين أكثر منه عند حقنه مباشرة في الدم، وتم إثبات صحة فرضية أثر الإنكرتين عام 2007، حين تم اكتشاف مستقبل الطعم الحلو على خلايا L في الاثني عشر عند الإنسان. وتبين أن هذه الخلايا تنتج هرمون الإنكرتين المعدي المعوي GLP-1، الذي يحرض إنتاج الإنسولين ويرسل إشارة الشبع إلى الدماغ؛ وبالنتيجة يؤدي حجب أو حذف مستقبلاتِ الطعم الحلو هذه إلى خفض تحرر الإنسولين. كما تبيَّن أن استخدام المحليات الصنعية يؤدي إلى تحريض انتاج ناقل الغلوكوز الذي يؤدي إلى ارتفاع الإنسولين بشكل كبير، الأمر الذي يثير المخاوف، ولكن من غير المحتمل أن يسبب ذلك انخفاضاً سريرياً في سكر الدم، كل ذلك يعد اكتشافاً شديد الأهمية في ضبط سكر الدم.

تلعب مستقبلات أخرى من نمط T1R في الجهاز الهضمي، دوراً في الشهية و ضبط سكر الدم، وهي متوضعةٌ في المعدة، وتفرز الخلايا التي تحمل مُستقبل T1R3، والتي تساعد بدورها في كشف كل من السكرِ والأحماض الأمينية، هرمون الجوع الذي يسمى (الغريلين) حين تتعرض للكربوهيدرات والبروتينات، الأمر الذي يشجع على تناول الطعام حين تتوفر المغذيات الهامة.

بالنسبة للطعوم المرَّة، يبدو أن لمُستقبلات T2R في الجهاز الهضمي وظائفَ معاكسة، فقد تبين في تجارب أُجريت على الفئران أن المركبات مرَّةُ الطعم التي تصل إلى المعدة، تحرض إطلاق هرمون الغريلين مبدئياً؛ مما يحرض عادةً على تناول الطعام، إلا أن مدخول الطعام إلى المعدة يقل بعد 30 دقيقة، ويقل معه الإفراغ المعدي مما يُبقي الطعام في المعدة، الأمر الذي يؤدي إلى كبح الشهية من خلال تمديد الإحساس بالامتلاء والشبع. ربما يعمل ذلك على منع إدخال الأطعمة السامة ايضاً.

ومن المبكرِ معرفةُ فيما إذا كانت الاستجابة السابقة، هي استجابةٌ طبيعيةٌ للشبع، أو أنها تقلد الاستجابة للسُّم. إذ يبدو أنه من المعاكس للتوقعات أن يثير تناول مركب مرِّ الطعم، والذي يُعتقد أنه إشارة لمادة سامة، الشهية. فهذا الأثر المعاكس معروفٌ منذ قرون عدة، حيث كان الرومان يشربون النبيذ المشبع بمركباتٍ عشبية مرةٍ كي تُضبط الشهية وتمنع فرط تناول الطعام. ومن المعتقد أن تحريض مستقبلات الطعم المر في المعي يمكن أن يستخدم في علاج اضطرابات معينة للطعام.

توجد مستقبلات الطعم المر أيضاً في الأمعاء الغليظة، ويؤدي تفعيلها في الأمعاء الغليظة عند البشر والفئران لإفراز الشوراد مما يحرض على إدخال الماء إلى اللمعة وحدوث الإسهال، ويعتقد بأن هذا الحدث هو آليةٌ دفاعيةٌ في مواجهة العضيات والمواد المؤذية الخطيرة.

2- خارج الجهاز الهضمي

اكتُشفت خلايا حسية تستقبل المنبهات الكيميائية، وسميت بالمستقبلات الكيميائية المنعزلة (SCCs) في الأجواف الأنفية للجرذان والفئران؛ كما تم لاحقاً كشف وجود مستقبلات كيميائية منعزلة تعمل كمستقبلات ذوقية في الأنف البشري. تحتوي الـSCC عند القوارض T2R (مستقبلات الطعم المر) وكل ملحقات آليات العمل الخلوية الموجودة في خلايا استقبال الطعم المر على اللسان. وأظهر العلماء أن المركبات المرّة التي تنبه هذه المستقبلات، تحرض على حدوث انقطاع التنفس، والبدء بالسعال والعطس، حيث تنتقل الإشارة من المستقبلات التي تتعرض لمخرّشات مؤذية في الهواء بالإضافة إلى المركبات التي يتم إنتاجها من قبل الجراثيم النامية في الجوف الأنفي، إلى العصب مثلث التوائم الذي يثبط التنفس بشكل مؤقت، ويفترض العلماء أن ذلك يحدث لوقف استنشاق المادة المهيجة بعمق في الرئتين.

كما تم العثور على مجموعات من مستقبلات الطعم المر، على الأهداب الموجودة في الخلايا الظهارية للطرق التنفسية عند الإنسان. وتبين أن هذه الأهداب تتموج للأمام والخلف بشكل شديد عند تحريض هذه المستقبلات باستخدام مركبات مرة الطعم مثل النيكوتين أو الكينين مما يساعد على تصفية السبل التنفسية من المركبات المخرّشة.

واكتُشفت مستقبلات T2R على الخلايا العضلية الملساء أيضاً، في الطرق التنفسية عند الإنسان، وأدى التعرض للمركبات المرّة إلى ارتخاء هذه الخلايا، فقد أجريت التجربة على الفئران المصابة بالربو، وارتخت العضلات الملساء المتقبضة عندما تم تنبيه هذه المستقبلات الذوقية بمركبات مرّة الطعم وتحسنت بالتالي حالة التنفس.

توجد مستقبلات T1R أيضاً في أماكن يصعب تفسيرها، وهي المستقبلات المسؤولة أصلاً عن كشف الطعوم الحلوة وUmami. فقد عُثر على هذه المستقبلات في الطرق التنفسية أيضاً ولكن وظيفتها ما زالت مجهولة.

وهناك عدة مواقع أخرى ما يزال تواجد مستقبلات التذوق فيها لغزا محيراً، حيث تم الكشف عن وجود مستقبلات T1R1 وT1R3 وهي مستقبلات خاصة بالطعم الخاص بنكهة الـ Umami.على الحيوانات المنوية عند كلٍ من الانسان والفئران و تبين أنه عند نقص المستقبل T1R1 يحدث ارتفاعٌ في معدل تفاعل الجسيم الطرفي العفوي في نطاف الفئران أي إخراج المادة الوراثية في النطفة قبل الوصول إلى الخلية البيضية، كما وُجد مستقبل الطعم المر T2R5 في الخصيتين أيضاً، و يؤدي التخلص من هذه الخلايا إلى خصى أصغر، وانخفاض كبير في عدد النطاف الناضجة.

يمكن أن يساعد استقصاء وظيفة المستقبلات الذوقية في الجسم، الأطباء السريريين، في مكافحة الأمراض من اضطرابات تناول الطعام وصولاً إلى الداء السكري. قد تحتاج معالجة المعلومات لزمن طويل إلا أنه من الواضح أن وظيفة المستقبلات الذوقية تتجاوز متعة تناول كعكة الشوكولا.

هامش:

* (وهي الكواشف التي تستقبل المنكهات والتوابل وغلوتامات أحادية الصوديوم التي تجعلنا نشعر أن الطعام شهي أكثر وهي تلفظ "oo-mommy )

المصادر:

هنا

هنا