الرياضيات > الرياضيات

هل تُعتَبر الرّياضيات جميلةً ؟ (لا، حقاً)

استمع على ساوندكلاود 🎧

بالنّسبة للكثير من النّاس، فإنّه يمكن وصف الذّكرياتِ المتعلّقةِ بدروس الرّياضيات في المدرسة بأيِّ شيءٍ عدا عن كونها رائعةً. ومع ذلك كلِّه، فإنّ "جميلة" هي الكلمةُ الّتي يستخدمها علماءُ الرّياضيات الآخرون لوصف مادتنا. فحبًا بالله كيف يمكن أن تكون الرياضيات جميلة - وهل هو أمرٌ مهمٌ أساسًا؟

بالنّسبة لعالِمٍ في الرّياضيات، فإنّه أمرٌ في غايةِ الأهميّة. حيث أنّ استمتاعَه بجماليّة الرّياضيات هو جزء من الأشياء الّتي تحفّزه على دراسة المادة. كما أنّه أيضًا عبارةٌ عن دليلٍ له عندما يعمل على حلِّ مسألةٍ ما: فإذا فكّر ببعض الاستراتيجيات ، فإنّه سيختارُ منها ما كان بدايةً الأكثرَ ألقًا ومناسبَةً. وإذا كان يبدو حلّه للمسألة أخرقًا فإنّه سيعود للرّياضيات لجعله يبدو أكثر جاذبيةً.

خلال مقالها تقول العالمة فيكي نايل Vicky Neale لقد انتهيتُ للتّوِّ من تصحيح مجموعةٍ من الواجباتِ المنزليّةِ التّابعةِ لطلّابي في السّنة الجامعيّة الثّانية في الرّياضيات. ولقد كنت مذهولةً بحلَّين متناقضين لذات المسألةِ لاثنين من الطّلّاب . فقد كان كلا الحلَّين صحيحًا و كلاهما يجيبان على السّؤال. و مع ذلك فأنا أفضِّل أحد الجوابين على الآخر، ليس بسبب أنّ أحد الحلَّين أطول من الآخر، أو أنّ أحد الحلَّين مشروحٌ بشكلٍ أفضل من الآخر (ففي الحقيقة كلا الحلَّين تمَّ وصفهما بشكلٍ جيّد ٍ).

إنّ الحلّ الأطول لا ينسابُ تمامًا جوهرَ المسألةِ، إنَّه -نوعاً ما- غير مُنَظّمٍ مع انحرافاتٍ غيرِ ضروريّةٍ. أمّا الحلُّ الآخر فإنّه يستخدم طريقةً مختلفةً تصوِّرُ جوهر الأفكار – حيث أنّها تساعد القارئ على فهم سبب ( لماذا) عملِ هذه الجزء من الرّياضيات بهذه الطّريقةِ، وليس فقط أنّه يعمل بشكلٍ جيّدٍ. وبالنّسبة لعالمٍ في الرّياضيات فإنَّ كلمة "لماذا" هي في غايةِ الأهميّةِ، ونحن نبحث دائمًا عن البراهين الّتي تُبيِّنُ ذلك.

إنّ بعضَ حالاتِ جماليّةِ الرّياضياتِ واضحةً. فالكسورُ على سبيلِ المثالِ، هي مجموعاتٌ رياضيّةٌ من الأعداد - والّتي تتوافق مع مجموعةٍ من الأشكالِ الّتي تتشابه تشابهًا ذاتيّاً بارزاً والّذي ألهم بدوره العديد من الفنانين.

الأقلُّ هو الأكثرُ:

ولكن ماذا عن الحالاتِ الأقلِّ وضوحًا؟ دعوني أحاول أن أقدّم لكم مثالًا عن ذلك. ربما تعرفون سلسلة الأرقام 1, 3, 6, 10, 15, 21, 28, … . وهذه السّلسلة غالباً ما يصادفها الطّلاب في المدرسة : الأعداد الثّلاثية. حيث أنّ كلّ رقم في السّلسلة يتطابق مع عدد النّقاط في سلسلةٍ من المثلّثات.

أوّل ستة أعداد ثلاثيّة 1, 3, 6, 10, 15, 21

هل يمكننا تنبّؤ ماذا سيكون الرقم الـ 1000 في هذه السّلسلة؟ هناك العديد من الطّرق للتّعامل مع هذا المسألة، وفي الحقيقة فإنّ البحث في التّشابهِ والاختلاف بين هذه المقاربات هو بحدِّ ذاته أمرٌّ رياضيٌّ وتثقيفيٌّ. ولكن إليك واحدةً من هذه البراهين الجميلة .

تخيّل العددَ العاشر َ في هذه السّلسلة (لأنّه من السّهل رسم الصّورة في هذه الحالةِ أكثرَ من حالةِ العددِ الـ1000!). ودعونا نحصي النّقاط بدون أن نعدّها. حيث أنّه لدينا مثلثٌ من النّقاط، ذو 10 نقاط في الصّفِّ السُّفليِّ وذو عشرةِ صفوفٍ من النّقاط.

إذا قمنا بصنع نسخة أخرى من تلك السّلسلة، فيمكننا تدويره ووضعه بجانب مثلثنا الأصليّ ذو النّقاط - وبالتّالي فإنّ كلا المثلَّثين يشكّلان مستطيلًا. و سيكون لهذا الشّكِل من النّقاط 10 نقاط في الصّفِّ السُّفليِّ و11 صفّاً، وبالتّالي فإنّه يوجد في المحصّلة 10 × 11 = 110 نقاط (انظر الشكل أدناه). والآن نحن نعلم أنّ نصف النّقاط كانت في مثلثنا الأصليِّ، ومنه فإنّ عدد المثلَّثِ الـ10 هو 110/2 = 55. ولم نكن بحاجة لعدّ النّقاط.

عدد المثلث العاشر ×2.

إنّ قوة هذا البرهان الرّياضيّ تكمن في أنّه بإمكاننا تعميمه بدون أيِّ جهد ٍيذكر بالنّسبة لأيِّ عددٍ - حتّى بدون رسمِ النّقاط. ويمكننا القيام بتجربةٍ ذهنيّةٍ. فالمثلّثُ الـ1000 في السّلسلة سيكون له 1000 نقطة في الصّفِّ السُّفليِّ، و 1000 صَفٍّ من النّقاط. ومن خلالِ صنعِ نسخةٍ أخرى منه وتدويرِها، نحصل على مستطيلٍ ذو 1000 نقطة في الصّفِّ السُّفليِّ و1001 من الصُّفوفِ. ونصف هذه النّقاط كانت في المثلَّث الأصليِّ، وبالتّالي فإنّ عدد المثلَّث الـ1000 هو (1000 × 1001)/2 = 500500.

بالنّسبة لي، فإنّ هذه الفكرة المعتمدة على رسمِ النّقاط، ومضاعفتِها وتدويرِها وبالتّالي تكوين مستطيلٍ هي فكرةٌ جميلةٌ. والبرهان قويٌّ، من حيث أنّه يقوم بالتّعميمِ بدقّةٍ (بالنّسبة لحجمِ أيِّ مثلَّثٍ كان)، كما يُبَيِّنُ لماذا تكون الإجابة على ما هي عليه.

وهناك طرقٌ أخرى للتَّنبُّؤِ بهذا العدد. إحداها أن تنظر إلى الحدودِ القليلةِ الأولى من السّلسلة، وأن تُخمِّنَ صيغتها، ومن ثمَّ تبرهن على أنّ هذه الصّيغة صالحةٌ للعمل (على سبيل المثال من خلال استخدام تقنيّةٍ تُدعى التّجربةُ بواسطة الاستقراء ). ولكن هذا لا يوصل نفس التّوضيح البارزِ والكامنِ خلفَ الصّيغة. كما أنّ هناكَ اختصارٌ للبرهان عن طريق استخدام الصّورِ ذات النّقاط. فمخطّطٌ واحد يمكنه أن يحتوي على كلِّ ما نحن بحاجةٍ لمعرفته.

و هنا برهان آخرُ والّذي وجدته محبَّباً. دعونا نفكر في المجموع أدناه:

السّلسلة التّوافقية

هذه هي السّلسلةُ التّوافقيّةُ الشّهيرةُ. واتّضح أنّها لا تساوي عددًا محدودًا - حيث يقول علماءُ الرّياضياتِ أنّ المجموع "يتباعد". كيف يمكننا إثباتُ ذلك؟ هذا يبدو صعبًا، ولكنَّ فكرةً واحدةً ورائعةً تحلُّ الموضوعَ.

السّلسلة التّوافقية مع حدود مجمعة.

وهنا فإنّ مجموع كلِّ مجموعةٍ من الكسورِ يزيد عن ½. فنحن نعلم بأنّ ⅓ أكبر من ¼. وهو ما يعني بأنّ (⅓) + (¼) أكبر من (¼) + (¼)، والّذي يساوي ½. وبالتّالي ومن خلالِ إضافةِ مقاديرَ كافيةً، فإنّ كلّاً منها أكبر من ½. يصبح المجموع أكبر وأكبر - كما يمكننا الحصول على أيِّ هدفٍ نرغب به. وبإضافة عددٍ لانهائيٍّ منها سنحصل بالتّالي على مجموعٍ لانهائٍّي. وهكذا نكون قد برهنّا على اللّانهائيّة، ببرهانٍ جميلٍ.

لعبة الانتظار؟

إنّ هذه العمليّاتِ ليست الأصعبَ في الرّياضيات. فإنّ إحدى تحديّاتِ الرّياضياتِ هي أنَّ حلَّ مسائلَ أكثرَ تعقيدًا غالبًا ما يعني أوّلاً معالجةَ مصطلحاتٍ وملاحظاتٍ أكثرَ تعقيدًا . حيث أنّه لا يمكننا إيجادُ شيءٍ جميلٍ في الرّياضيات إلّا إذا فهمناهُ بشكلٍ مناسبٍ في البدايةٍ - وهذا يعني أنّه من الممكنِ أن نستغرق وقتًا لتقدير الصّفاتِ الجماليّةِ.

تتابع فيكي: وأنا لا أعتقدُ أنّ هذا الأمرَ منوطٌ بالرّياضيات لوحدِها، فهناك مقطوعاتٌ من الموسيقى، والمباني، وقطعٌ من الفنونِ البصريّةِ والّتي لم أستطع بدايةً أن أقدِّرَ جماليّتها وتميُّزها- ويحدث ذلك فقط من خلال المثابرة ومن خلالِ صراعِ الأفكار والّتي من خلالها يتمُّ إدراك الجمال.

وبالنّسبةِ لي، فإنَّ إحدى الأمورِ المُفرحةِ في تدريس الطّلّاِب الجامعيّين هي في مشاهدتِهم كيف يُطوّرون تقديراتِهم الخاصّةِ لجماليّةِ الرّياضيات. سأقوم بعد الظُّهر برؤية طّلّابي للسّنة الثّانية لأطَّلِع على واجباتِهم المنزليّة، و أنا أعرف مُسبقًا بأنّنا سنقوم بمحادثةٍ ممتعةٍ حول حلولهم المختلفةِ - و أنّ أخذ الخاصيّات الجماليّةِ بعين الاعتبارِ سيلعب دورًا في تعميق فهمهم للرّياضيات.

ويمكن لطلّابِ المدرسةِ الحصولُ على ذاتِ التّجربةِ: وذلك عندما يُعطَون الفرصةَ للتّعاملِ مع الأسئلةِ الدَّسِمَةِ وعندما يمكنهم التّلاعبُ بالأفكارِ الرّياضيّةِ وعندما تكون لديهم الفرصةُ لتجربةٍِ استراتيجيّاتٍ متعدّدةٍ لنفس السّؤالِ بدلًا من مجرّدِ الحصولِ على الجواب في الجزء الخلفيِّ من الكتبِ المدرسيّةِ والمُضيُّ قدمًا.

لا ينبغي للأفكار الرّياضيّةِ أن تكون جامعيّةَ المستوى، فهناك مسائلُ جميلةً والّتي تكونُ مثاليّةً لطلّاِب المدارس. ولحسنِ الحظِّ، فهناك العديدُ من أساتذةِ الرّياضيات ومشاريعِ تعليمِ الرّياضياتِ الّتي تقوم بمساعدةِ الطّلّاب على امتلاكِ هذه الخِبراتِ عن جماليّةِ الرّياضيات.

المصدر:

هنا