المعلوماتية > عام

تتبّع الذات - كل لحظة يمكن قياسها

استمع على ساوندكلاود 🎧

بحسب متحمّسي التتبع الذاتي، قياسُ النشاطات اليومية يساعد على تحسين جودة الحياة.

فكرةُ تقييم الأداء وقياس الأنشطة ورسمِها على مخططاتٍ بيانية، شائعةٌ في المنظمات والشركات والمؤسسات، وذلك بهدف فهم آليات التقدم نحو (أو التباعد عن) الهدف. على سبيل المثال، تنشر الحكومات مخططاتٍ توضيحيةً للتجارة الداخلية والخارجية، وقد تنشر المستشفيات مخططاتٍ لزمن الانتظار الافتراضي قبل الدخول إلى غرفة العمليات، وتقوم الشركات بقياس أرباحها وحالة البضائع في مستودعاتها… إلخ. الأكثر حداثة والأقل انتشاراً الآن هو استخدام المقاييس والبيانات من قبل الأفراد أنفسهم بهدف فهم وإدارة حياتهم. إذا استثنينا الأشخاصَ الذين يحاولون إنقاص وزنهم أو تحسين لياقتهم البدنية، معظمُنا لا يسجّلُ بشكلٍ روتيني حالاتِه المزاجية، مستوياتِ نشاطه ومتوسط مدة نومه اليومي، يتتبع القليلُ جداً مقدار الكحول أو الكافيين الذي يستهلكه، هل سبق لأحدٍ أن رَسَم خطوطاً بيانيةً توضّح تواترَ وأماكن ومدّة تجواله مع كلبه؟

بعض الأشخاص بالفعل يقومون بهذه الأمور، والعدد بازديادٍ مضطرد. يتشارك هؤلاء باعتقادهم بأنّ جمع المعلومات حول نشاطاتهم الشخصية وتحليلها يساعد على تحسين جودة حياتهم، ومع ازدياد عدد الممارسين حول العالم بدأت منهجيةٌ جديدة تسمى بالـ "التتبّع الذاتي" أو "تكميم الذات" بالانتشار الواسع.

( كلمة تكميم هنا تعني تحويل المعلومات والأنشطة إلى كميات يمكن قياسها، فيتم تحويل نشاط المشي مثلاً إلى عدد الخطوات، وتحويل وجبة الطعام إلى عدد السعرات الحرارية المستَهلكة وكمية الشحوم المشبَعة المتناوَلة… إلخ.)

هذه المنهجية ليست بجديدةٍ تماماً، فمحترفو الرياضة ومدربوهم مثلاً يقومون بتسجيل أدق تفاصيل التدريبات والوجبات الغذائية وعدد ساعات النوم اليومي. بالمثل، في مجال الصحة يتم تتبع حياة المرضى وقياس النشاطات في الكثير من الحالات مثل الحساسية وداء الشقيقة. لكن الجديد الآن هو أن التقدم التقني جعل من السهل تجميع المعطيات الشخصية وتحليلها. الحساسات أصبحت أصغر حجماً وأرخص كلفة، حساس التسارع المستخدم في قياس الحركة والسرعة، كانت تكلفته مئات الدولارات قبل عقدٍ من الزمن، لكنه الآن أصبح من صغرَ الحجم وانخفاضِ كلفة التصنيع ما يمكّن من زرعه في جميع الهواتف النقالة كما هو الحال الآن. وهذا ما سهّل عملية التتبّع الذاتي ونقلها من مجال البحث العلمي والمؤسساتي إلى مجال الاهتمام الشخصي.

بدأت فكرة الجمع بين التكنولوجيا الحديثة وتطوير الذات من سان فرانسيسكو، وتحديداً من الصحفي غراي وولف (Gray Wolf) الذي أسس أوّل مدوّنة الكترونية تحت اسم "Quantified Self" أو "الذات المكممّة" عام ٢٠٠٧. وحازت المدونة على اهتمامٍ عالمي، وبدأ الكثير من المهتمين بعقد لقاءاتٍ دورية في حوالي ٥٠ مدينةٍ حول العالم. وأثمرت هذه الجهود تنظيمَ المؤتمر العالمي الأول للذات المكمّمة في عام ٢٠١١ في الولايات المتحدة الأمريكية.

يقول غراي: "تقريباً أي شيء نقوم به يولّد معطيات. في الوقت الحالي، معطياتُ تفاعلنا مع الهواتف المحمولة، أجهزة الكمبيوتر والبطاقات البنكية مستخدمةٌ بشكلٍ أساسي من قبل الشركات لأهدافٍ إعلانية أو أمنية أو لمكافحة الاحتيال. لكنّ إتاحة هذه المعطيات لأصحابها من الممكن أن يقود إلى طرقٍ جديدة في فهم المشاكل الصحية وتحسين جودة الحياة."

التتبّع الذاتي لاكتشاف العلاقات والمسبّبات.

يحصل التتبّع الذاتي على اهتمام الشركات الناشئة حول العالم، تقوم هذه الشركات بإطلاق أجهزةٍ وتطبيقاتٍ هدفُها التتبّع وتكميم نشاطات الشخص المرتدي لهذه الأجهزة أو المستخدم لهذه التطبيقات. المساهمة في تطوير الرعاية والتوعية الصحية هي من أهم النتائج المتوقعة لهذه التقنيات، وذلك عبر تزويد المستخدمين بإمكانياتٍ متقدمة لتتبّع نشاطاتهم وحالتهم الصحية بما يفيد في التنبيه والكشفِ المبكر عن الأمراض وإطالة الحياة وتخفيض تكاليف العلاج. لفهم كيف يمكن للتتبّع الذاتي أن يأتي بثماره، دعونا نرى الأمثلة الحقيقية التالية:

العلاقة بين جودة النوم والفعالية أثناء العمل

يعمل ديفيد في مجال الاستثمار البنكي بمدينة لندن. يستيقظ باكراً ويمتد روتين عمله اليومي على مدى ١١ ساعة (متضمنةً زمن المواصلات من وإلى مقر العمل). انتبه ديفيد أنه يجد صعوبةً في الخلود إلى النوم، وبدأ يشكّ أن الاضطراب في مواعيد نومه يؤثر على تركيزه خلال العمل. لفهم هذه المشكلة أكثر، قرّر تتبّع نوعية وكمية قسط نومه اليومي، وبدأ بارتداء جهاز Jawbone UP3 (هنا)، وهو عبارةٌ عن سوارٍ إحدى مميزاته هي قياسُ مدة مختلف أطوار النوم (الخفيف، العميق ونوم حركة العين السريعة).

بالإضافة إلى معلومات نومه؛ قام ديفيد بتتبعِ وتسجيل نظامه الغذائي، ونشاطِه الرياضي واستهلاكه للمشروبات الكحولية والقهوة. وقام بتحميل كل هذه المعلومات على موقع My Fitness Pal (هنا)، وهو موقعٌ يسمح بمزامنة أجهزة تتبعٍ عديدة منها Jawbone كما يسمحُ بالإدخال اليدوي لأي معلومةٍ إضافية يرغب الشخص بتتبعها. قام ديفيد ببعض التجارب لدراسة تأثير بعض العوامل على جودة نومه. فقام بإيقاف تناوله للقهوة، ثم قام بتغيير مستوى الإضاءة في غرفة نومه، وفي تجربةٍ ثالثة قام بتناول مكمّلٍ غذائي يحتوي على المغنيزيوم. وباستخدام معطياتِ تتبع النوم المولَّدة من Jawbone استطاع تقييمَ تأثير كلٍّ من هذه العوامل.

لاحظ ديفيد أنَّ زيادة تناول المشروبات الكحولية يقوّض جودةَ نومه، كما أن تناول مكمّل المغنيزيوم ساعده على النوم بشكلٍ أفضل وعلى بلوغ مرحلة النوم العميق بسرعةٍ أكبر. أصبح ديفيد بعد هذه التجارب ينام حوالي سبع ساعاتٍ ونصف في الليلة الواحدة، مقابلَ ستِّ ساعاتٍ فقط قبل بدئه بالتتبّع. يقول ديفيد: "أشعر بارتياحٍ أكبر، وتركيزٍ أكثر… معاينة الحقائق ورؤيتها على شاشة الكمبيوتر يجعل من الصعب تجاهلها".

(يعد المغنيزيوم من أفضل المعادن لإزالة تشنّجات الأعصاب، ويساعد على النوم العميق ومحاربة الأرق كونه يخفف من ألم الصداع، ويُرخي الأعصاب، ويخفف ضغط الدم.)

تحسين التنفس

يعاني أحد الطلاب الجامعيين في مدينة برلين من تشوهٍ في العمود الفقري يؤدي إلى الحدِّ من مقدرةِ الرئتين على التنفس المنتَظم والمريح. قام هذا الطالب باستخدام جهازٍ لقياس جودة التنفس لتحديد أفضل وضعيةٍ وأفضلِ تمارينِ استرخاءٍ تساعده على التنفس. ساعدته عملية التتبع هذه على تحسين أداء رئتيه بنسبة ٣٠٪. من الصعب جداً على الأطباء تحديد هذه المعامِلات بسبب عدم معرفتهم الدقيقة للمريض واستحالة تتبعه بشكل دائم. في الحالات المشابهة لهذا المثال، المريض هو الأقدر على معرفة حالته وتجاوب جسمه للعلاجات المختلفة.

في مثالٍ آخر عن أجهزة التتبع المخصّصة لتحسين التنفس، يتوافر في الأسواق جهاز Spiroscout (هنا) الذي نستطيع توصيله بأجهزة الاستنشاق المخصصة للربو. يقوم هذا الجهاز بتسجيل الموقع الجغرافي (خط الطول والعرض والارتفاع) لكل عمليةِ استنشاق، ويتيح هذه المعلومات للمرضى ومراكز الأبحاث ليتم دراسة العلاقة بين الأمكنة والأعراض (مثال: دراسة علاقة القرب الجغرافي من أماكن تخزين بعض المحاصيل وازدياد أعراض الربو).

التتبّع الذاتي بين الهواية والمنهج العلمي الرصين

يفتقر التتبع الذاتي إلى المنهجية العلمية الرصينة، فهو قائمٌ على شبكةٍ واسعة من الهواة والمهتمين الذين يقومون بتتبع حياتهم ونشاطاتهم اليومية. تقول نانسي دوهيرتي إحدى المتحمسين للتتبع الذاتي: "من الصعب تقييم ما إذا كانت النتائج مرتبطةً بالتتبع بحدِّ ذاته أو أنها مرتبطةٌ بتوقعات الشخص لنتائج التجارب". قامت نانسي باستخدام لصاقاتٍ خاصة يتم وضعها على مناطقَ مختلفة في الجسم لتتبّع معدل ضربات القلب، تموضع الجسم، والحركة ودرجة الحرارة، ثم قامت بدراسة الترابط بين هذه المعطيات وحالتها المزاجية. ما لاحظته هو أن تناولها لحبوبٍ دوائية وهمية مكتوبٌ عليها "فرح"، "هدوء"، "تركيز" أو "قوة الإرادة" يؤدّي إلى تأثيرٍ ملحوظ على مزاجها على الرغم من علمها بزيف الأدوية المتناولة. مما قد يعني أن التوقع المسبق لنتائج تجربةٍ معينة قد يؤثر على هذه النتائج.

لكنْ مع التصميم الحَذِر والدقيق، يُمكن لتجارب التتبع الذاتي أن تأتيَ بنتائجَ مفيدةٍ للغاية، بالأخص عند النظر إلى الملايين من المعطيات المجمّعة من عشرات الآلاف من البشر حول العالم، فيما بات يعرف بالـ "التتبّع التشاركي".

التتبّع التشاركي والمعطيات الكبيرة

قامت أجهزة تتبّع النوم مثل Beddit (هنا) بتوليد أكبرِ قاعدة معطياتٍ في التاريخ البشري عن النوم وأطواره المختلفة، ساهمت هذه المعطيات المجمّعة من عشرات آلاف الأشخاص حول العالم بشكلٍ حاسم في الكشف عن الاختلاف بين النساء والرجال فيما يتعلق بطور "حركة العين السريعة".

متتبّع Beddit هو عبارة عن حزامٍ رقيق يتم وضعه على السرير ويقوم بقياس مدة مختلف أطوار النوم والتنفس والحركة ومعدل نبضات القلب.

يقوم الآلاف من المرضى حول العالم بمشاركة معلوماتٍ حول الأعراض والعلاجات المختلفة لمئاتٍ من الحالات الصحية، يتم ذلك على مواقع مثل PatientsLikeMe.com (هنا) وCureTogether.com (هنا). ساهمت هذه المعلومات على سبيل المثال في اكتشاف أنّ المرضى الذين يعانون من الدوار أثناء الصداع النصفي أربعَ مرات أكثرُ عرضةً لآثارٍ جانبيةٍ مؤلمةٍ عند استخدام دواءٍ معيّن دون غيره.

سوف تساهم الأعداد المتزايدة من أجهزة التتبّع الذاتي التي يتم طرحها في الأسواق؛ في مشاركة كمياتٍ هائلة من المعطيات الإضافية، مما سيساعد الأشخاص والمؤسسات على تحليل هذه المعطيات ومشاركة النتائج مع أطراف أخرى.

جهاز Fitbit (هنا) على سبيل المثال، يمكن ارتداؤه كسوار أو تعليقه على الخصر ليقوم بعدة مهام منها عد الخطوات، تقدير السعرات الحرارية المستهلَكة وتتبع أنماط النوم. يتم رفع هذه المعطيات بشكلٍ أوتوماتيكيٍّ إلى قاعدة معطياتٍ سحابية، لتقوم برامجٌ عديدةٌ بتحليلها وعرضِها على المستخدمين بشكلٍ يساعدهم على فهم نشاطهم اليومي ومقارنته مع أصدقائهم. وبنفس الوقت، يُمكن لمراكز الأبحاث الولوج إلى المعطيات لإجراء أبحاثٍ متعلّقةٍ بالأنشطة الرياضية والحركية لآلاف الأشخاص حول العالم، الأمرَ الذي كان في غاية الصعوبة والكلفة المادية في السابق.

جهاز Fitbit يأتي بأشكال وأحجام مختلفة، ويتيح تتبّع والحركة والتمرينات الرياضية ومعدّل ضربات القلب.

ومن الغني عن الذكر أنَّ ساعة Apple Watch (هنا) من شركة أبل تحتوي على ميّزاتٍ متعدّدة للتتبّع الذاتي، فبالإضافة إلى تتبّع النوم والخطوات والسعرات الحرارية، تقوم الساعة بتتبع معدل نبضات القلب وتنبيه المستخدم للمعدلات غير الطبيعية، كما تقوم بتنبيهه إلى ضرورة التحرك في حال الجلوس أو الوقوف لمدة طويلة. يتم تخزين جميع هذه المعطيات وعرضها بشكل مفيد وممتع للمستخدم. هذا بالإضافة إلى مئات تطبيقات هواتف iPhone التي تتتبّع النشاطات اليومية. وتقوم شركة أبل بالمقابل عن طريق مشروع Apple HealthKit (هنا) بإتاحة المعطيات المختلفة لمطوري التطبيقات لكي يتسنى لهم الاستفادة من معطيات بعضهم البعض لإجراء دراساتٍ أكثرَ شموليةٍ كان من المستحيل إجراؤها في الماضي.

ختاماً، مع تقدم العمر الوسطي للبشر وزيادة تكاليف الرعاية الصحية، يتمّ التركيز بشكلٍ مضطردٍ على المراقبة والوقاية والحفاظ على العافية، وذلك عن طريق تحفيز المرضى على لعب دورٍ أكبرَ في تتبّع صحتهم والمشاركة في الوقاية والعلاج. يُطلق أحيانا على هذه المنهجيّة اسم "الصحة 2.0" (Health 2.0).

ومع ازدياد شعبية أجهزة التتبّع الذاتي، ينتقل الأشخاص المستخدمين لها من خانة "غريبي الأطوار" إلى خانة الأشخاص العاديين. هل تذكر عزيزي القارئ (في حال كنت ممن ولدوا في الثمانينيات من القرن الماضي أو قبل) عندما لم يكن لأحدنا عنوانُ بريد إلكتروني، والآن جميعنا تقريباً يمتلك عنواناً أو أكثر؟ من المرجّح جداً أنك ستمتلك جهازَ تتبّعٍ ذاتي قريباً، هذا عدا أنّ الهواتف الذكية الآن تحتوي على تطبيقاتٍ كثيرة للتتبّع… يمكنك ببساطة أن تجرب الآن تنزيل أحد تطبيقات التتبع الذاتي عن طريق البحث عن Fitness Tracking app على أجهزة الأندرويد أو الـ iPhone.

--------------------------------------------------------------

المصادر:

هنا

هنا

هنا