الرياضيات > الرياضيات

ماذا لو أنّ غالوا جانب الجبر فقط و تجنّب السِّياسة؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

« رجاءً اذكُرني، لأنّ القَدَر لم يمنحني حياةً تجعل اسمي جديراً بأن يُخَلَّدَ في وَطَني».

وُجِدَت هذه الكلمات مكتوبة من قِبَلِ مؤسِّس رياضيّات الجبر المُجرَّد ودراسة نظريّة الزُّمر، الرياضيّ الفرنسيّ إِڨاريست غالوا Évariste Galois ليلة وفاته وهو في العشرينَ من العمر.

وُلِدَ إِڨاريست غالوا في 25 تشرين الأوّل عامَ 1811 في مدينة بوغ لا رِن Bourg-la-Reine وكانَ والِدُه عُمدَتَها حين كان نابليون في أَوجِ عهدِهِ. حالما نُحِّيَ نابليون عن حكمه، توالَتِ الحكوماتُ على حُكمِ فرنسا وكانت التغيّراتُ في الحكمِ السَّببَ في هلاكِ غالوا.

حياتُه الدّراسيّة

منذ الصِّغَر أظهر غالوا في مدرستِهِ تفوّقاً ملحوظاً في الريّاضيّات، حيث كان مستواه أعلى بكثيرٍ من زملائه بل وأفضلُ من مُدرِّسيهِ أيضاً. كان طالباً لامِعاً إلّا أنّه ضَيّقُ الصَّدرِ. كان ساخِراً في صفِّهِ ولم يكن منتَحِلاً دورَ الخانِعِ، الدّورَ الذي سيطرَ على طَلَبةِ عصرِه.

وفي المرحلةِ الأكاديميّةِ حاول غالوا التّسجيلَ في المدرسة مُتعدّدةِ التّقنيّاتِ ولكن لم يحالفه الحظّ، حيث أنّ رياضياته الجديدة عن الجبر المجرّد لم تحظى بتقدير الأستاذ الّذي أجرى له اختبارَ القبول، فمهما كانت الطّريقة الّتي شرح بها غالوا ما كان بمقدورِ الأستاذ أن يَتَتَبّعَ برهانَه. وفي النّهاية، انتهت مقابلةُ غالوا وفرصته بدخول المدرسةِ بأن رمى الطّباشيرَ والممحاةَ عليه.

ما الّذي حال ما بين غالوا و نشرِ أبحاثه حيّاً؟

عَمِلَ غالوا على تحديدِ درجةِ المعادلة اللّازمة لكي يكون لها حلولاً جبريّةً وهو في السّابعةَ عشرَ من العمر، وقدَّم نسخةً من مقاله إلى الرّياضيّ أوغستَن لوي كوشي Augustin Louis Cauchy (1789-1857) في أكاديميّة العلوم ليطّلعَ عليها. إلّا أنّ كوشي لم يُضِيعها فقط بل أضاع أيضاً نسخةً ثانية أرسلها إليه غالوا بعد أسبوعٍ. بعد عشرةِ أشهرٍ أرسل غالوا نسخةً ثانيةً ومحسَّنَةً منها إلى السّكرتير جوزيف فورييه (1768-1830) Joseph Fourier إلا أنَّ فورييه تُوفّيَ بعد استلامها بفترةٍ وجيزةٍ. وبعد عامٍ أرسلَ غالوا نسخةً مُجدَّدَةً من بحثه إلى الأكاديميّة، تلقّى إجابةً عليها بعد ستةِ أشهرٍ، فحواها أنّ البراهين في بحثه ليست واضحةً وليست مُطوَّرَةً بما فيه الكفاية، وبناءً على ذلك تمّ رفض نَشرِها.

احتارَ غالوا في أمرِه، حين تضافرت الأحداث لتمنعه من إيجاد شخصٍ من الممكن أن يقدِّر إنجازَه، و تُوفي خلال العامِ ذاته. أُعطِيَت فيما بعد كتاباتُهُ الشّخصيّة لـ جوزيف ليوڨيل Josephe Liouville (1809-1882) الّذي نشرها باسم أكاديميّة العلومِ عام 1846 وذلك بعد أن وضعهم غالوا للنّشرِ بحوالي سبعةَ عشرَ عاماً.

متى دَوّن غالوا اكتشافاته الّتي أدخلته تاريخ الرّياضيات؟

في ليلةِ وفاتِهِ، التّاسعِ والعشرين من أيار عامَ ألفٍ و ثمانمئةٍ واثنينِ وثلاثين كتب غالوا رسائلَ شخصيّةً ووضع على الورق جميعَ اكتشافاتِهِ الرّياضيّة، و كأنّهُ كان على علمٍ مُسبَقٍ بحتفه الّذي سيقابله في فجر اليوم التّالي وهذا ليس بعيداًعن عالِمٍ شابٍّ مثله فلا بُدَّ لحدسه أن يقوده حيث الصّواب. كان ما حرّره جديداً في الرّياضيات وتضمّنَ مواضيعَ لم يتمّ اكتشافها إلّا في القرن الثّامن عشرَ بعد وفاته، حيث أسّس رياضيّاتِ الجبرِ المجرّدِ وبَحْثَ في نظرّيةَِ الزُّمَر.

كانت الفكرةُ الرّئيسيّة لنظريّة غالوا مقابَلةََ كلّ معادلةٍ جبريّةٍ بزمرتها التّناظريّة، حيث تسمح هذه البنية بنقل دراسة خواص المعادلة - كقابليّة حلّها بواسطة الجذور- إلى دراسة خواص الزّمرة المقابلة لها.

وفاة غالوا

في عام 1831، سُجِنَ غالوا حين اعترضَ علناً على الملكِ آنذاك. وعلى الرّغمِ من إطلاقِ سراحه إلّا أنّه كان رجلاً ملحوظاً ويُعتَبَرُ خصمٌ مُحتمَلٌ لنظامِ لويس الثّامن عشر Louis XVIII. إضافةً إلى ذلك كان غالوا شخصاً غيرَ لبقٍ في التّعامل مع كلِّ من يقابله، ولذلك قرّر الجيش المحلِّيُّ التّخلُّص منه. ولقد كان الكمين بسيطاً. ستستميل غالوا امرأةٌ من البلدة وعندما يستجيبُ لها سيدَّعي قائدُ الحَرَس أنّ غالوا قام بالإساءة إلى شرفِ السّيّدة وعلى أثر ذلك سيتبارزان ويكونُ قدرغالوا محتوماً. وبالفعل جرت الأحداثُ تماماً كما خُطِّطَ لها. وفي الفجْرِ خرج غالوا ليلاقي قَدَرَه، أُطلِقَتْ النار عليه وسقطَ، ثمّ نقله أحد القرويّين المارّة إلى منزلِ فيزيائيٍّ وتوفيَّ في اليوم التّالي متأثّراً بجراحه.

لم يكن غالوا موفّقاً لا في حياته المهنية ولا في حياته العاطفيّة، حاله كحالِ مَن ظنَّ أنّ الحياة بتعقيداتها «اللّامنطقيّة» تسير كالجبر سيراً منطقيّاً.

كان رياضيّاً مبدِعاً بكل ما تحمله كلمة الإبداع وسابقاً لعصره فلم يتمّ استيعاب مكتشفاته إلّا بعد حوالي عقدين من منيَّته. بقيَ اسمه حيَّاً بفضل أعماله المُستحدَثَة والّتي كتبها عشيّة مبارزته المصيريّة. كانت تلك السّاعاتُ القليلةُ السّببَ في حصوله على مكانٍ في تاريخ الرّياضيّات. ومن يعلم إلى أين كان قد وصل فيما لو تعافى وعاشَ مدّةَ حياةٍ طبيعيّةٍ؟

لا يسَع المرءُ إلّا أن يتساءَل فقط كم كانت قد اختلفت حياةُ غالوا واختلفَ تاريخُ الرّياضياتِ فيما لو قرأ كوشي البحثَ الأوّل الّذي قدّمَه غالوا؟ و ماذا لو أنّ غالوا جانب الجبرَ فقط و تجنّبَ السِّياسة؟

المصادر

Art Johnson, Classic Math: History Topics for the Classroom Paperback– 31 Dec 1994.