الرياضيات > الرياضيات

التّناظر - صلةٌ بين الرّياضيّات والحياة

استمع على ساوندكلاود 🎧

في الرّياضيّات، قد تكون بعض المفاهيم الأساسيّة كالتّناظر واللّانهاية وغيرِهما عسيرةَ الفهمِ على الطّالب بسبب شيوعها ومرونتها الكبيرين. غالبًا ما يتمثّل استيعابُ تلك المفاهيم وفهمُ الأدوات الّلازمة لدراستها بعمليّةٍ طويلةٍ تمتدّ على مدى سنواتٍ عديدةٍ من حياة الطّالب المهنيّة. يبدأ الطّلّاب باستخدام التّناظر عند التّعامل مع خاصّتَيِ التّبادليّة والتّجميعيّة في الحساب، ثمّ يستفيدون منه أكثرَ في كلٍّ من الهندستين الإقليديّة والمستوية، ويمرّون عليه أيضًا حالَ دراستِهم لاحقًا زمرَ التّحويل. ومع ذلك فمن الطّبيعيّ أن نرغب بتعليم تلك المفاهيمِ بقيمتها الكاملة منذ البداية. توضِّح الأستاذةُ Cathy Gorini في هذه المقالة كيفيّة طرحِها مفهومَ التّناظر على طلّاب أحدِ فصول الهندسة في برنامج التّعليم العامّ بطريقةٍ تَشعر شخصيًّا أنّها تعطيهم فهمًا شاملًا للجانب الرّياضيّ للتّناظر.

ما أهمّيّة تعليم التّناظر؟

التّناظر موجودٌ في كل مكان في الطّبيعة، وهو أيضًا إحدى السّمات الأكثر انتشارًا في الفنّ، والعمارة، والتّصميم في مختلفِ ثقافات العالم عبر تاريخ البشريّة؛ كما إنّه أحد أشدّ المفاهيم تأثيرًا وشيوعًا في الرّياضيّات. ففي كتابه العناصرِ -أو ما يُعرف بالأصولِ الهندسيّةِ- استغلّ إقليدسُ التّناظرَ بدءًا من القضيّة الأولى في الكتابِ لجعْلِ براهينه واضحةً ومباشِرةً. كما تمكّن Galois من حلِّ مسألةٍ مستعصيةٍ لقرونٍ بملاحظة التّناظر الموجود بين جذورِ معادلةٍ. سمّيت الأداة الّتي طوّرها لفهم التّناظر نظريّةَ الزُّمَرِ، وقد استخدمها علماء الرّياضيّات منذ ذلك الحين لتحديد، ودراسةِ، وحتّى صُنعِ التّناظر.

يمكن أن تكون دراسة التّناظر بدائيّةً أو متقدّمةً حسب الرّغبة، فعلى سبيل المثال، يمكن للمرء أن يرصُد ببساطةٍ التّناظرات في التّصاميم والأنماط، أو أن يستخدمَ زُمرَ التّناظر كوسيلةٍ قابلةٍ للفهمِ لتعريف الطّلاب بمنهج الرّياضيّات الحديثة المجرّدِ. بالإضافة إلى ذلك، إنّ الأفكار الّتي يستند إليها علماء الرّياضيّات في دراسة التّناظر لا تقتصر على الرّياضيّات، بل توجد أيضًا في مجالاتٍ أخرى من الفكر الإنسانيّ. فمن خلال النّظر إلى التّناظر في سياقٍ أوسعَ، يمكن للطّلّاب معرفةُ العلاقة بين الرّياضيّات وغيرِها من فروع المعرفة.

و لهذه الأسباب، يشعر العديد من المتخصّصين في الرّياضيّات اليومَ أنّ دراسة التّناظر جديرةٌ بأن يستكشفها طلّاب برامج التّعليم العامّ.

العلاقة بين التّناظر والحياة

الفكرة الجوهريّة وراء دراسة التّناظر الرّياضيّة هي التّحويل التّناظريّ، والّذي يمكن معاينته على هيئة تشاكلٍ تقابليٍّ يحتوي على بعض الّلامتغيّرات. فمثلًا، ليس التّحويلُ التّناظريّ لتصميمٍ ما في مستوٍ إلّا مُساويَ قياسٍ يُبقي على مجموعةٍ معيّنةٍ من النِّقاط ثابتةً كمجموعةٍ، أي يحافظ على العلاقات بين هذه النِّقاط. تتمنّى الأستاذة أن يدرك الطّلّاب أنّ مفهوم التّحويل التّناظريّ مهما بدا مجرّدًا يمكن أن يكون على صلةٍ بالأفكار الّتي قد تبدو أشدَّ جوهريّةً بالنّسبة للحياة ككلٍّ؛ لهذا، تعرِض آيةً من بْهاغفاد غيتا، أحدِ الكتبِ المقدّسةِ في الدّيانةِ الهندوسيّةِ.

لقد حاز هذا الكتابُ تقديرًا كبيرًا منذ أمدٍ بعيدٍ، بفضل الحكمة العظيمة المشروحةِ فيه في بضعةِ فصولٍ قصيرةٍ. تعتقد الأستاذة أنّ إحدى آياته -الّتي هي جزءٌ من تفسير كريشنا حقلَ الفعلِ أو التّأثيرِ- تحيط بجوهر دراسة التّناظر الرّياضيّة (الفصل 4، الآية 18):

ذلك الّذي في الفعل يرى الّلافعلَ

وفي الّلافعلِ يرى الفعلَ

حكيمٌ هو بين البشرِ، هو متّحدٌ

هو قد حقّق كلَّ فعلٍ

لكن ما علاقة ذلك بالتّناظر؟

عادةً ما يُعطى الشّكلُ الهندسيّ المُرادُ دراستُه على شكل مجموعةٍ من النِّقاط المتواجدة في فضاءٍ محيطٍ. فمثلًا، قد يُعطى نمطُ تبليطٍ أو فسيفِساءُ ما على شكل مجموعةٍ من قطعٍ مستقيمةٍ في المستوي؛ ويمكن اعتبارُ تحويلٍ تناظريٍّ هنا الفعلَ، واعتبارُ الّلامتغيّراتِ الّلافعلَ. ننطلق من وضعٍ غيرِ متحرّكٍ، أي مجموعةِ نِقاط النّمط الفسيفِسائيِّ المتواجدةِ في المستوي، ثمّ نبحث عن حركةٍ يمكن تنفيذُها، أيِ التّحويلِ التّناظريّ. وبهذا، في الّلافعلِ نرى الفعلَ. ولكن ليس التّحويلُ التّناظريُّ أيَّ فعلٍ عشوائيٍّ، بل فعلٌ يكون النّمطُ كمجموعةٍ من النِّقاط لامتغيّرًا تحت تأثيره. وبالتّالي، ما يهمُّنا أن نرَ الّلافعلَ في هذا الفعلِ، أي أن نرَ في التَّحويلِ لاتغيُّرَ مجموعةِ النِّقاط الّتي تشكّل النّمط.

هنا تكمن بذرةُ كلِّ ما ترغب الأستاذةُ أن يعرفه الطّلّاب عن التّناظر: الفعلُ والّلافعلُ، التّحويلُ ولامتغيّراتُه، ما يتغيّرُ وما يبقى على حاله.

يكتسب الطّلّاب بهذه الطّريقة منظورًا شاملًا لمفهوم التّناظر يمكن أن يساعدَهم بدايةً على استيعاب المفهوم نفسِه، ولاحقًا على تبسيطِ وتوحيدِ حالاته جميعًا عند المرور عليها، وأخيرًا على فهمِ زمر التّناظر والّلامتغيّراتِ وغيرِها؛ كما يمكن لهذه الفكرة أن تساعد الطّلّاب على ربط حالات التّناظر جميعِها الّتي سبق أنْ شاهدوها بهذا المنظور الشّامل. فمثلًا، تتغيّرُ في خاصّتيِ التّبادليّة والتجميعيّة في الحساب مواضعُ الأرقام أو الأقواس، لكنّ الجواب لا يتغيّر. أمّا في الأنماط الفسيفسائيّة، فيمكن أن يُدوَّر، أو ينعكسَ، أو ينسحبَ السّطحُ الإقليديُّ بطرقٍ معيَّنةٍ دون تغيُّرِ النّمط، وهكذا.

لا تُظهر هذه الآيةُ من بْهاغفاد غيتا جوهرَ التّناظر فحسب، بل وتساعد الطّلّاب على فهم أهمّيّة الّلامتغيّرات أينما وجدوها. في تعليقه على هذه الآية، وضّح Maharishi Mahesh Yogi أنّ "في الفعل يرى الّلافعل" تعني أنّ المرء يرى مستوى الحياةِ السّاكنَ كمصدرِ مستوياتها النّشطة؛ ومع أنّه أدقّ وأشدّ تجريدًا من المستويات النّشطة، يبقى أهمَّ منها وأشدَّ تأثيرًا. ومثَّلَ Maharishi لذلك بالمحيط: فالمحيط ساكنٌ في أعماقه، وحركة أمواجه ليست سوى تعبيرٍ طبيعيٍّ عن مستوياته السّاكنة، فالمستوى السّاكنُ الّلامتغيرُ أشدّ جوهريّةً. وبالتّالي، فإنّ لامتغيّراتِ تحويلٍ ما هي ما نستفيد منه، حتّى وإن بدت صعبة الفهم في البداية لشدّة تجريدها. ومن هذا المنطلق، عندما نريد دراسةَ تحويلٍ، سيكون سؤالُنا الأوّل: ما الّلامتغيّراتُ هنا؟ ما الّذي لا يتغيّر؟

تعليم التّناظر

يفِدُ الطّلّاب إلى دروس الرّياضيّات وأفكارُهم عن التّناظر محدودةٌ، إذ يفسّرون مفردة التّناظر في كثير من الأحيان بالتّناظر ثنائيِّ الجانبِ فحسْب، مع أنّهم سبق أنْ قد شاهدوا التّناظر بأشكالٍ عدّةٍ في الطّبيعة والرّياضيّات وغيرِهِما. ولتوسيع فهمِهِمُ التّناظرَ ليشملَ أمثلتَه جميعَها، تعرض الأستاذة عليهمُ التّحويلاتِ التّناظريّةَ، حتّى وإن لم يكن لديهم أدنى فكرةٍ عن ماهيّة الدّوالّ أوِ التّوابعِ الرّياضيّة، وذلك ليشعروا بأهمّيّة التّحويلاتِ، وليصبحوا قادرينَ على توظيفِها. ينبغي على الطّلاب أن يدركوا أنّ التّناظر يعرِّف خواصَّ أساسيّةً قد تكون أشدَّ تجريدًا وأقلَّ وضوحًا، ولكنّها توحّد الكثير من المفاهيم والتّفاصيل تحت صيغٍ عامّةٍ. كما تريد الأستاذة أن تصبح لديهم فكرةٌ عن سبب جمال التّناظر وكونِه يروق لنا.

تبدأ الأستاذة بمناقشة ماهيّة التّناظر مع الطّلّاب مثبّتةً بعض النِّقاط الّتي يطرحونها على السّبّورة. ثم يتفحّصون بعض التّصاميم المحدودة في أعمالٍ فنّيّةٍ من مختلف الثّقافات ويراجعون أفكارهم عن التّناظر مركّزين على أنّ تلك التّصاميمَ يجب أن تخضع لهذه الأفكار. ثمّ لتحفيز النّقاش، تطرح الأستاذة فكرةَ أنّ الرّياضيّات تتطلّب تعريفًا دقيقًا يمكّننا من الجزم بكون شيءٍ ما متناظرًا أم لا، ولنعتبرَ هذا التّعريفَ جيدًا يجب أن يساعدنا على دراسة الأشكال من ناحية خواصّها.

وهنا يحين وقتُ تقديمِ الأستاذةِ مفهومَ التّحويلاتِ التّناظريّة، ثمّ يعودون إلى بعض التّصاميم، ويستخرجون دوراناتٍ وانعكاساتٍ، ويلاحظون أنّ دورانًا يليه دورانٌ يُعادل دورانًا آخرَ، وأنّ انعكاسًا يتبعه انعكاسٌ يُعادل دورانًا، وأنّ تركيبًا مكوّنًا من انعكاسٍ ودورانٍ -بغضّ النّظر عن التّرتيب- ما هو إلّا انعكاسٌ. يكشف مزيدٌ من الاستقصاء خاصّتيِ التّصاميم المحدودة الأساسيّتين، وهُما:

1- يمكن أن يُطبّقَ على النّمط دوراناتٌ فقط، ولكن لا يمكن أن يُطبّق عليه انعكاساتٌ فقط.

2- إذا اعتُبر التّحويل المطابق دورانًا ووُجِدتِ انعكاساتٌ، فإنّ عدد الدّورانات يساوي عددَ الانعكاسات.

عند هذه النّقطة، تطرح الأستاذة آيةَ بْهاغفاد غيتا، ويُمضون بعض الوقت في فهم الآيةِ وكيفيّة ربطها بالتّحويلات التّناظريّة، حتّى يبدأ سؤالا "ما الّذي يتغيّر؟" و"ما الّذي يبقى على حاله؟" بالتّأصّل في طريقة تفكير الطّلّاب.

ثمّ يقومون في أوّل تطبيقٍ لطريقة التّفكير هذه باستنباط جدول الزّمرة الخاصّ بزمرة تناظر مثلّثٍ متساوي الأضلاع. وبعد تطبيق تحويلين، على أحدهم أن يحدّد التّحويل الّذي يعادل تركيبهما، ويتمّ ذلك بالبحث عمّا بقي على حاله، فإن كانت إحدى رؤوس المثلّث لا تزال ثابتةً، قيْلَ إنّ التّركيب يعادله انعكاسٌ، وإن لم تبقَ أيٌّ منها ثابتةً ما يجعل المركزَ وحدَه ما بقي ثابتًا، فإنّ التّركيب يعادله دورانٌ. وبالإمكان تحديدُ نوع التّحويل بشكلٍ عامٍّ من خلال معاينة ما بقي ثابتًا، فإن كان نقطةً فالتّحويلُ دورانٌ حولها، وإن كان خطًّا مستقيمًا فالتّحويل انعكاسٌ بالنّسبة له، أمّا إذا بقي كلُّ شيءٍ ثابتًا فالتّحويل المطبَّق هو التّحويل المطابق.

بالانتقال إلى زخارف الأفاريزِ وأنماط ورق الجدران، يصبح تحديد التّحويلات الممكنة جميعِها أشدَّ صعوبةً. يمكن هنا أن نفكر بالّلافعل على أنّه التشابهُ أو غيابُ التّغيّر. نحدّد عنصرًا أو تصميمًا صغيرًا متكرّرًا على مدار النّمط، ثمّ نبحث هل من طريقةٍ لتحويل هذا العنصرِ أو التّصميم الصّغير إلى أكبرِ عددٍ ممكنٍ من تكراراته، فإن كان أيٌّ من هذه التّحويلات تناظرًا للنّمط ككلٍّ، نكون قد حدّدنا تحويلًا تناظريًّا. وأفضل طريقةٍ لوصف هذا التّحويل تحديدُ ما يبقى على حاله، سواءٌ كان مركزَ الدّوران، أو محورَ الانعكاس، أو الشّعاعَ الموجِّهَ للانسحابِ، أو الشّعاعَ الموجّه للانعكاسِ الانزلاقيّ، علمًا أنّ ما يبقى ثابتًا في حالة الأشعّة هو الخطوط الّتي تحدّدها هذه الأشعّة.

جمال التّناظر

التّناظر شيءٌ جميلٌ وساحرٌ، إذ يتبدّى دور التّناظرالجوهريّ في الطّبيعة والفنّ من جمال بلّورات الثّلج إلى الرّوحانيّة العميقة في لوحة Leonardo Da Vinci العشاءِ الأخيرِ. تعبّر الأنماط الفنّيّة أو بُنى الطّبيعة بشكلٍ عامٍّ عن تنوّع الوجود النّسبيّ، ولكن عندما تحوي هذه الأنماط أو البنى تناظراتٍ، فإنّ تكرار جوانبَ من هذه الأنماط أو البنى النّابعَ من هذه التّناظرات يشير إلى تماثلٍ جوهريٍّ أو قيمةٍ موحّدةٍ. عند رؤية تناظرٍ، ينجذب العقل عفويًّا لأن يعيشَ الحالتين النّشطةِ والسّاكنة في آنٍ معًا. هذه طبيعة تجربة العقل مع التّناظر، تمامًا كما وصّفتها آية بْهاغفاد غيتا الّتي ناقشناها. وهكذا، يمكن أن يساعد تحليلُنا على تسليط الضّوء على طبيعة التّناظر الساحرة.

يخضع علماء الرّياضيّات لقوانين الطّبيعة الّتي تحكم الحياة بأسرها، ذلك بأنّ الرّياضيّاتِ جزءٌ من الحياة. وينبغي أن يعطيَنا الفهمُ العميق للحياة ككلٍّ البصيرةَ الّتي نحتاج إليها لفهم نواحيها المختلفة، بما في ذلك بعضُ جوانبِها الرّياضيّة الدّقيقة جدًّا. توضّح هذه المقالة كيف يمكن أن يُستفاد من تعبيرٍ معرفيٍّ واحدٍ عن طبيعة الحياة للتّعمّق في دراسة التّناظر الرّياضيّة، وتأمل الأستاذة أن تمثّل هذه الدّراسة مثالًا يحتذى في الجمع بين الرّياضيّات والحياة ككلٍّ.

المصادر:

هنا

هنا