المعلوماتية > الحوسبة الكمومية

مقدّمة عن الحوسبة الكموميّة

استمع على ساوندكلاود 🎧

ما هي الحَوسَبةُ الكموميّة؟

يعلم الكثير منّا كيف أنَّ الحاسوبَ الرقميَّ بأشكالهِ المختلفةِ يتعاملُ مع المعلوماتِ على أنَّها نبضاتٌ كهربائيّةٌ تمثّل قيمتين فقط: 0 وَ 1.

يُركّب الحاسوب هذه الأرقام بسلاسلَ طويلةٍ ليُعَبِّرَ عن كافةِ الأُمورِ والعمليّاتِ الّتي يحتاج إلى القيامِ بها كالجمعِ والطّرح والتّعبير عن النّصوصِ بمختلفِ اللّغات. كلُّ شيءٍ في الحاسوبِ الّذي تقرؤون عليه هذا النّص يتعاملُ فقط بهاتَين القيمتَين. هذا جميلٌ ولكنَّهُ محدودٌ أيضاً، فهل توجدُ طريقةٌ أخرى لجعل الحاسوب يتعامل مع المعلومات بشكلٍ مختلفٍ تمكّنه من الحساب وحلِّ المشكلاتِ بشكلٍ أكثرَ كفاءةً؟

يعتقد الكثيرون أنَّه يوجد شيءٌ كهذا.

ميكانيكُ الكمِّ هو قسمٌ من الفيزياء نشأ في النّصفِ الأوّلِ من القرن الماضي، يدرسُ الكونَ على المستوى فائقِ الصِّغر، وقد حقّق نجاحاً باهراً في شرح عددٍ هائلٍ من الظّواهر الكونيّةِ كالكهرباءِ والمغناطيسيّة والضّوء والنّموذج الذّري. في الواقعِ، لقد نجحت فيزياءُ الكمِّ بشرحِ كافةِ الظّواهرِ الطّبيعيّة لحدٍ دقيقٍ جداً ماعدا الجاذبيّة (الّتي تقوم النّسبيةُ العامّةُ بشرحها).

لشرح ارتباطِ فيزياءُ الكمِّ بالحَوسَبة، دعونا نوضِّحُ بدايةً مبدأ التَّراكُمِ الكمّيِّ وكيفيّةَ الاستفادةِ منه.

على مستوى الأجسامِ الضّخمةِ جدّاً مقارنةً بالذّرّة، لا يمكن لشيءٍ أن يكون بحالتَين معاً. لا يمكن لضوءِ الغرفةِ أن يكون منيراً و مظلماً في نفس الوقت، كما لا يمكن لكرٍ أن تكون بمكانَين معاً. لكنَّ هذا يختلف على المستوى الذّرّيِّ!

ميكانيك الكمِّ، عبر قانونٍ يدعى قانون التّراكبِ الكموميّ، يفترضُ أنَّ الجسيمات دون الذّرّيّةِ تكون في جميع الحالات الممكنة لها بنفس الوقت، وأنها تأخذ حالةً معينةً فقط عندما نقوم بقياسِ حالتها. مثلاً، يمكن للإلكترون الّذي حول ذرة الهيدروجين أن يكون في حالةٍ مستقرةٍ أو متهيّجةٍ*،إلّا أنّ منطقنا نحن كبشرٍ (تذكّروا أنّنا أجسامٌ أضخمُ بكثيرٍ من الذّرّة) يقتضي أنّه لا يمكن أن يكون إلّا في حالةٍ واحدةٍ فقط. لكنَّ تجارب الفيزياء (كتجربةِ شقَّي يونغ) وقوانين فيزياء الكمِّ تثبت بشكل قاطع أنَّ الإلكترون يكون في الحالتين معاً في نفس الوقت وفي مكانين مختلفين في نفس الوقت أيضاَ، وحصراً عندما نحاول تحديد مكان الإلكترون تختفي هذه الظّاهرة ونراه بمكانٍ وحالةٍ معيّنةٍ. تركنا في نهاية المقال بعض المراجع لفهم هذه الظّواهر بشكلٍ أعمقَ ولكنَّ السّؤال الّذي يهمُّ مقالنا هنا هو كيف يمكن استخدام هذه الظّواهرَ الغريبةَ لبناء حاسوبٍ له قدراتٌ أضخمُ من حواسيبنا الآن؟

دعونا نتخيّل معاً حاسوباً نعطيه مدخلاً ما من الأصفارِ والواحداتِ ونأخذ منه نتيجةَ عملٍ حسابيٍّ على شكل أصفارٍ وواحداتٍ أيضاَ. في حالة الحاسوب التّقليديّ، يُمَثَّلُ الواحد بوجود تيارٍ كهربائيٍ بفولتيّة معيّنةٍ و يُمَثَّلُ الصّفر بوجود تيارٍ كهربائيٍ بفولتيةٍ أقلّ.

ماذا لو قرّرنا التّخلي عن هذه الطريقة بالتّمثيل واستخدمنا ذرة الهيدروجين كما في مثالنا سابقاً ومَثّلنا الواحد عن طريق وجود إلكترونٍ مهتاجٍ والصّفرُ عن طريقِ وجودِ إلكترونٍ بحالتِه الطّبيعيّة أي دون تهيّج. يبدو هذا شبيهاً جداً بالنّظام السّابق ولكنَّ التّشابه ينتهي هنا.

كما أسلفنا فإنّ ميكانيكا الكمِّ تقول أنَّ الإلكترون حول نواة الهيدروجين لن يكون حصراً بحالةِ تهيّجٍ أو استقرارٍ وإنّما سيكون بحالةِ تهيجٍ واستقرارٍ معاً في نفس الوقت بنسبٍ معيّنةٍ مشكِّلاً ما يدعى بحالة تراكب (تراكب حالتَي الاستقرار والتّهيّج) و يُعبَّر عنها رياضيّاً بالشّكل التّالي:

حيث يمثّل المعامل a مدى إسهام حالة التّهيّج بالحالةِ الكليّة و b عن مدى إسهامِ حالةِ الاستقرار بالحالة الكليّة.

ملاحظةٌ أخيرة: الإلكترونُ هنا لن يكون في الحالتين معاً عند قياسه، فبمجرّد محاولة القياس ينتهي النّظامُ إلى حالةٍ معيّنةٍ من الحالتين **. نستطيع الاستفادة من هذه الظاهرةِ في حلِّ الكثير من المسائلِ الحسابيّة.

كيف تعملُ الحواسيبُ الكميّةُ إذاً؟

يكفينا حديثاً عن الفيزياء، دعونا نتخيّل أنّنا نستخدمُ الإلكتروناتِ كما في القسمِ السّابقِ للتّعبيرِ عن الصّفر والواحد. لكنَّ ميكانيكا الكمِّ تفرض علينا واقعاً وهو أنّ المعلوماتِ المخزّنةِ لن تكونَ في حال صفرٍ أو واحدٍ وإنّما في الحالتين معاً طالما أنّنا لم نطلبِ الجوابَ من الحاسوب هذا.

بنى العديدُ من العلماء والمهندسين داراتٍ تتعامل باستخدام ميكانيكا الكمِّ حيث تكونُ المُدخلاتُ نبضاتٍ كهربائيّةٍ تقليديّةٍ bits ويوجدُ دارةٌ تحوِّل هذهِ النّبضاِ إلى ما يدعى بالبت الكموميِّ qubit يعبّر عنه إلكترونٌ حوّل ذرةٍ ما. قيمة كلٍّ من هذه البتّات الكموميّةِ واحدٌ وصفرٌ في نفسِ الوقتِ على شكلِ تراكبٍ كموميٍّ كما ذكرنا سابقاً. هدف هذا الحاسوبِ هو بناءُ كميّةٍ من البتّات يتمُّ دفعها لتنهارَ من حالةِ التّراكبِ الكموميِّ تلك إلى حالةٍ محدّدةٍ حيث يأخذ كلٌ منها قيمةً واحدةً (صفرٌ أو واحدٌ) ويشكّلُ مجموعها الجوابَ المطلوبَ للمسألة. يكونُ هدف مصمِّمِ البرامج على هذه الحواسيب هو إيجادُ طريقةٍ يعبِّر بها عن المُدخلات عن طريق qubits لها تراكبٌ كمّيٍّ بحيث عندما ينهارُ لقيَمٍ محدّدةٍ يعطي الجواب المطلوب للمسألة أغلبَ الوقتِ.

نقول أغلبَ الوقتِ لأنَّ الإلكترون عندما ينهار إلى حالةٍ واحدةٍ فهو ينهارُ بشكلٍ احتماليٍّ، فحتّى لو كان احتمالُ الانهيار إلى الاستقرار ٩٠٪ ، فيوجد ١٠٪ من الحالات ستؤدّي إلى الانهيارِ إلى الحالةِ الأخرى.

بمعنىً آخر، الحواسيبُ الكموميّةُ تعطي النّتائجَ النّهائيّةَ بشكلٍ احتماليٍّ ويجب تكرارُ العمليّةِ أكثر من مرةٍ للوصولِ إلى إجابةٍ دقيقةٍ.

ماذا عن سرعة هذه الحواسيب؟

لو افترضنا أن حاسوباً تقليديّاً يحتاجُ إلى مئةِ دقيقةٍ لحلِّ مسألةٍ رياضيّةٍ ما فإنّ الحاسوبَ الكموميَّ يحتاجُ لعشرِ دقائقَ ولو أنَّ الحاسوبَ التّقليديَّ يحتاجُ إلى ألفِ دقيقةٍ لحلِّ مسألةٍ فإن الحاسوبَ الكموميَّ يحتاجُ إلى32 دقيقة تقريباً.

هذه السرعةُ هي نتيجةُ استخدامِ الحاسوبِ الكموميِّ الـ qubit والّذي يحملُ أربعَ قيَمٍ (صفرٌ وَواحدٌ وَ a وَ b تعبِّر عن كميّةِ الصّفرِ والواحدِ) وليس كما في الحاسوبِ التّقليديِّ، الّذي يحملُ قيمتَين فقط: صفرٌ وَواحدٌ.

تسمحُ هذه السّرعةُ الهائلةُ للحواسيبِ بحلِّ مشكلاتٍ يصعبُ حلُّها الآن كإيجاد المركبّاتِ الأوليّةِ لرقمٍ ضخمٍ، حيث أنَّ أمن الإنترنت قائمٌ على خوارزميّاتِ تشفيّرٍ تفترضُ عدم وجودِ حواسيبَ تستطيعُ تحليلَ الأعدادِ الضّخمةِ بسهولةٍ.

الحواسيبُ الكميّةُ سيكون لها تبعاتٌ ضخمةٌ في مجالاتِ أمن المعلوماتِ والرّياضياتِ والمحاكاةِ فهل هذا يعني أنّها ستحلُّ كلَّ المشاكلِ المُستعصيةِ الآن؟

الجواب هو لا، فحتّى لو كانت هذه الحواسيبُ سريعةً جداً لكنّها محدودةٌ في بعضِ الحالاتِ*** حيث سيحتاجُ المستخدمُ إلى تشغيلها عدداً كبيراً جدّاً من المرّاتِ لإيجادِ حلولٍ بسيطةٍ.

أين نحنُ الآن؟

هذه الحواسيب الّتي تحدّثنا عنها يجري تطويرها الآن في مختبراتِ الأبحاثِ لدى شركاتٍ ودولٍ كبرى ومن المتوقّعِ أن تؤدّي إلى ثورةٍ في مجالِ أمنِ المعلوماتِ، حيث بدأنا نسمعُ حديثاً عن تطوير خوارزميّات تشفيرٍ قادرةٍ على الصّمودِ ضدَّ محاولاتِ كسرٍ يقوم بها حاسوبٌ كمومي.

متى سنبدأ باستخدامِ هذه الحواسيب؟ هذا موضوعٌ يصعبُ اتوقّعه، قد نكون على بعدِ سنواتٍ أو عقودٍ أو حتّى أكثر.

* هذا الوصف هو وصفٌ لتسهيلِ الشّرح فقط، في الواقع نحن لا نتحدّثُ عن حالةِ تهيّجٍ فقط وإنّما نتحدّثُ هنا عن صفةٍ للإلكترونِ تدعى: "اللّفَ المغزليَّ (spin)"، حيث يمكن أن يكون التفاف الإلكترون نَحْوَ الأعلى أو نَحْوَ الأسفل.

** القياسُ على هذا المستوى الفائق الصِّغَر لا يتمُّ إلّا عن طريقِ تسليطِ ضوءٍ (فوتونٍ) على الإلكترون، الأمر الّذي يُكسِبُ الإلكترون طاقةً تُغيّرُ حالته نحو حالةٍ معينةٍ من الحالتين.

*** هذه المسائل هي الّتي تقع ضمن مجموعة NP-Hard والّتي لن تستطيعَ الحواسيبُ الكموميّةٌ حلِّها بشكل فعّال (طالما أنه لم يثبت أن P=NP)، مثال: مسألة البائعِ المتجوِّلِ (هنا)

------------------------------------------------------------------------------

للمطالعة:

Electron spin:

هنا

Quantum Superposition:

هنا Web Page/public_html/qm_topics/superposition/superposition.html

Quantum states:

هنا

Schrodinger's equation:

هنا

------------------------------------------------------------------------------

المصادر:

Algorithms by Dasgupta، Papadimitriou، Vazirani - Chapters 10.1 and 10.2

هنا

هنا

هنا

هنا

video by the University of New South Wales - Australia هنا