العمارة والتشييد > التشييد

هل نحن بحاجة إلى الإسمنت المسلح في أبنية الريف السوري؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

تحتضن دير بخت -بلدة في محافظة درعا- منزلًا أنموذجيًّا؛ يُظهِر القدرة على تصميم منشآت وبنائها باستخدام أساليب معمارية تقليدية للأسقف مثل القبب والقناطر دون الحاجة إلى استخدام الإسمنت المسلَّح العالي التكلفة، ويعطي أنموذجًا لتطوير البيوت الريفية في سورية بالاعتماد على الموارد المحلية مثل اليد العاملة، والمواد، والتقنيات، ويهدف المشروع إلى تخفيض تكاليف البناء العالية، وتحسين مستوى المعيشة والمساهمة في معالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية إضافةً إلى المشكلات البيئية في المنطقة.

المشكلة:

وفقًا لبيانات البنك الدولي عام 2011 فإنَّ 35% من السوريين يقطنون في المدن الرئيسية الأربع؛ دمشق وحلب وحمص وحماه، ويتوزَّع باقي السكان في مدنٍ حول نهر الفرات وقراها وعلى الساحل السوري، وفي الآونة الأخيرة؛ أدى ارتفاع أسعار الإسمنت المسلَّح ومصادر الطاقة المعتمدة على النفط إلى جعل تكاليف بناء المنازل في المناطق الريفية غير محتملٍ من قبل السكان ذوي الدخل القليل.

ميزات سورية:

تُعدُّ سورية بلدًا غنيًّا ومتنوعًا جيولوجيًّا، وتملك عدة مكونات طبيعية يمكن تحويلها بطرائق بسيطة إلى مواد بناء متينة، مثل الحجر الكلسي في المناطق الشمالية، والحجر المرجاني بالقرب من المناطق الساحلية، والحجر الرملي في المحافظات المركزية، والحجر البركاني في المناطق الجنوبية، والغضار على ضفاف الأنهار الذي يمكن أن يُنتج الطوب في القسم الشرقي من البلاد، إضافةً إلى ذلك، فإنَّ التاريخ الحافل الذي تمتاز به سورية يُظهر إبداع المهن التقليدية السورية على مر العصور عن طريق المباني التاريخية، والبناء الحجري، والنفخ في الزجاج والأعمال النحاسية والخشبية المعقدة، وقد بدأت هذه المهارات تتلاشى بعد غزو السلع والتقنيات الحديثة المستوردة، إلى أن أصبحت أغلب المنازل الريفية اليوم تعتمد على الإسمنت المسلح والطوب الإسمنتي، ويلجأ السكان في تأمين نفقات بنائها إلى قروض تُدفع بفوائد تصل إلى 15-20% وتستهلك 50-60% من دخل الإنسان الريفي، وتجدر الإشارة إلى أنَّ 45% من كلفة بناء البيوت البيتونية المسلحة هي كلفة الفولاذ المستخدم فيها كونه العنصر المستورد غير المصنع محليًّا.

طبيعة المشروع وخصائصه:

منطقة دير البخت؛ منطقةٌ جافة وحارة في أثناء الصيف ولديها قرابة 300 يومٍ مشمسٍ في السنة، في حين يكون الطقس باردًا في الشتاء نظرًا لارتفاعها عن سطح البحر قرابة 670 متر، ولهذا يجب أخذ المناخ بعين النظر عند تصميم المنازل لتوفير درجات حرارة مريحة داخلها، فيُبنى التصميم على الحاجات الاجتماعية والعملية للعائلة مع عدم تجاهل التحديات البيئية والمناخية، ومن ناحية أخرى؛ يهدف التصميم إلى احترام الهوية الثقافية بواسطة الحلول التقليدية والمحلية لمعالجة المتطلبات العصرية وإحياء استخدام العناصر التقليدية التي تُحسن طبيعيًّا الحيز المعماري؛ أي ساحة الدار، والقبب والقناطر للأسقف، والأبواب والنوافذ خشبية، والزجاج الملون لنشر وتصفية الضوء، والجدران الداعمة السميكة للعزل الحراري والأرضيات الخارجية من حجر البازلت لتعطي سطحًا خارجيًّا باردًا، وتتميز العمارة العربية التقليدية بساحة الدار المفتوحة التي تُشكِّل محور كل النشاطات، إذ تُطلُّ جميع الفراغات المعيشية عليها، في حين تُشكِّل النباتات والنوافير المائية المستخدمة فيها وحركة الهواء الناتجة نظامًا بيئيًّا مضبوطًا مصغرًا في المنزل.

تركيب مادة بناءٍ جديدة:

إنَّ الهدف هو إيجاد مادة بناء تُنافس مواد البناء المسيطرة وبالأخص الإسمنت المسلح؛ الذي يسبب تكلفة عالية، ويعطي شروط معيشية سيئة داخل المنازل في تلك المنطقة، ويجب أن تكون المادة الجديدة سريعة التحضير وسهلة في الموقع من قبل اليد العاملة غير المختصة، ولديها القوة الميكانيكية الكافية، وأن تكون أقل تكلفة من المواد المتاحة الأخرى، ومع مرور الوقت تفقد اليد العاملة الخبيرة في بناء هذه الأبنية التقليدية ويصبح من الصعب إيجادها للعمل والبناء باستخدام الحجر البركاني، لذا اضُطر الأمر إلى تكثيف البحث والتجارب لتطوير مركَّبٍ جديد مصنوع من الحجر البركاني المحلي ليُستخدم في البناء، ويضمُّ هذا المركَّب قرابة 80% من حبيباتٍ مختلفة الأحجام من البازلت المطحون، و2% من مسحوق حجر الكلس، و8% من الإسمنت والماء، وهو سهل التصنيع محليًّا، وأقل تكلفةٍ من تقطيع الحجر أو البناء بالطوب الإسمنتي المألوف، وقوي ومتين أيضًا.

ويشابه هذا المركَّب بعزله للحرارة والرطوبة الحجر الخام بسبب طبيعة خليطه المميز، إذ تُتيح هذه المادة للناس بناء بيوتهم بأنفسهم إلى حد ثلاثة طوابق دون استخدام الإسمنت المسلح، ويمكن استخدامها في الجدران الحاملة والقبب أو القناطر، وتوفر فرص عمل للبنَّائين العاديين أو الأشخاص غير المختصين أيضًا.

إعادة تقديم طرائق البناء التقليدية:

في أوائل الخمسينيات، عمِلَ المعماري المصري البارز حسن فتحي على إنعاش حلول الإسكان الأصيلة لسكان الريف في مصر بأقل تكلفة ممكنة، وذلك بهدف تحسين مستوى المعيشة في المناطق الريفية باستخدام طرائق تصميم ومواد تقليدية، وتبعه جيل من المعماريين التقليديين مثل عبد الواحد الوكيل وغيره، الذين تابعوا بناء منازل ومبانٍ عامة وجوامع.

وعلى نطاقٍ أكبر في العالم العربي وباستخدام مبادئ التحكم بالبيئة الداخلية وتقنيات الإنشاء الاقتصادية ذاتها؛ افتتحت في العام 1987 مجموعة من المدارس والمنازل المبنية بطرائق تقليدية من الحجر من قبل المعماري السوري رئيف مهنا في منطقة حوران في سورية، إذ اعتمد في إنشائه للمباني على السرعة، والفعالية والتكلفة القليلة، باستخدام حجر البازلت المحلي والقناطر الحجرية بوصفه نظامًا إنشائيًّا، فجعل هذا الأنموذج كلفة البناء أقل بمعدل 35-40% من كلفة المباني المألوفة في المنطقة، والتي تتصف بقلة الجودة.

نظرة مستقبلية:

يمكن أن يطبق نظام الإنشاء التقليدي بتوسعٍ اليوم، إذ تتوفر أساسيات المهن اليدوية التقليدية، ومواد البناء واليد العاملة، ولكن يبقى التحدي في تنظيم هذه الطرائق وإضفاء الطابع المؤسساتي لتصبح بديلًا عن طرائق البناء المألوفة حاليًّا، والذي يمكن أن يُعالج بالتعاون بين المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص، وتأسيس تدريبات على التقنيات التقليدية، وإيجاد قوانين وتسهيلات لاستخدام المواد المحلية والطبيعية، وتقديم خطة عمل واضحة، ويجب ألا ننسى أنَّ اعتماد هذا الأنموذج في البناء هو فرصة لإعادة إحياء اعتزاز السكان المحليين بثقافتهم وعلومهم الموروثة والتي تشكل ثروة لا تفنى.

فهل تؤيد توافق الطرائق التقليدية مع متطلبات المنزل المعاصر؟ شاركنا قصة من عندك عن استخدام الطرائق التقليدية في حل مشكلات من الواقع الحالي.

صورة المقال: حارم شمال غربي سوريا على الحدود السورية التركية.

المصدر:

هنا