الرياضيات > الرياضيات

رياضيات انتشار الإشاعات

استمع على ساوندكلاود 🎧

تنتشرُ الإشاعاتُ في كلِّ مكانٍ، فهي تجولُ المدارسَ، وتتوضّع في قلبِ الحملاتِ الانتخابيّة السياسيّة، وفي أسوءِ حالاتها قد تغادرُ النّاس على معلوماتٍ خاطئةٍ خطيٍرة. و في عصرِ وسائلِ التّواصلِ الاجتماعيِّ، أصبحَ القيلُ والقالُ ينتشرُ بسهولةٍ أكثرَ، وغالباً ما يكونُ على صيغةِ ما هو رائجٌ. ولقد أدّى هذا من بين أمورٍ أخرى إلى أكاذيبِ الموتِ الّتي لا حصرَ لها و الّتي طالت معظمَ المشاهيرِ على الأقلِّ مرةً واحدةً في حياتهم.

و لربّما كانتِ الشّائعاتُ الأكثرَ شرّاً تلك الّتي طالت التّقاريرَ الخاطئةَ للدّراسةِ المعيبةِ لأندرو وِكفيلد للقاحِ الحصبة، و لقاحِ النّكاف، ولقاحِ الحصبةِ الألمانيّةِ (MMR vaccine ) و الّتي سبّبت زيادةً هائلةً في الأطفالِ غير المُلقَّحِين.

وعلى الرّغمِ من هذا، فمنَ الممكنِ تسخيرُ التّأثيرِ المعروفِ لانتشارِ الإشاعاتِ الواسعِ من أجلِ ما أمكنَ من خيرٍ. تتيح لنا دراسةَ انتشارِ الإشاعاتِ فهمِ كيفيّةِ انتشار المعلوماتِ الخاطئة، وبالتّالي تساعدنا على مواجهة آثارها. كما وبإمكاننا من خلال المعرفةِ العميقةِ لكيفيّةِ عملِ الإشاعاتِ نشرَ المعلوماتِ بسرعةٍ في حالاتِ الطّوارئ، أو ابتكارَ تسويقٍ فعّالٍ في الحملاتِ السّياسيّةِ والفيروسيّة.

هل بإمكاننا أن نلغي حدوث ما حدث؟

إن وقَعْتَ يوماً ما ضحيةَ انتشارِ إشاعةٍ، فستعرفُ كم تنتشرُ بسرعةٍ. عندما تنتقلُ الأخبارُ في مدرسةٍ بأكملها أو مكانِ عملٍ ما، فهي تصل إلى الجميعِ في وقتٍ قصيرٍ جدّاُ، و يصعبُ تصديقُ أنّ الإشاعةَ لم تصل إلى أحدٍ أبداً، ولكن فيما بعد يتّضحُ لنا العكسَ من خلالِ الدّلائلِ الحِكائيّة.

أحدُ الأدواتِ الجيّدةِ على وجهِ الخصوصِ والّتي تفسّرُ لنا الحكائيّاتِ وفيما إذا كان هذا ما يجري حقاُ، هي النّموذج الرّياضيّ، وهناك مجموعةٌ من النّماذج الرّياضيّةِ الموجودةِ سابقاً لهذا الغرض. تستخدم نماذج SIR (القابل للتأثّر، والمُصاب، والمُعافى) (Susceptible, Infected, Recovered) لدراسةِ انتشارِ الأوبئة ِ study the spread of epidemics و قد تمَّ تبنيها كما أنّها مناسِبةً لوصفِ انتشارِ الإشاعاتِ. لذا عندما يخبركم أحدهم أنَّ خبراً ما قد انتشرَ "كالوباء"، فهم قريبون من الحقيقة أكثرَ مما يعتقدون.

تخيّل أنَّك في وسطِ انتخاباتِ الصّفِّ. لكي يمتنعَ النّاخبينَ من التّصويتِ للمرشّحِ B، يقومُ المرشَّحُ A بإخبار النّاسِ أنَّ خصمَه سيستفيدُ من وضعه إن فازَ ليتملّقَ المدرسينَ أكثرَ من التّرويجِ للقضايا الّتي تخصُّ المصلحةَ العامةَ. تُمَثِّلُ هذه حملةً تكتيكيّةً خاصّةً بالنّسبةِ لطالبِ مدرسةٍ، ولن يسخرَ أحدٌ ممّا يُقال. سينقسم حينها الطّلابُ إلى ثلاثةِ أصنافٍ: أولئك الّذين سمعوا الإشاعةَ وسوف يتناقلونها (الناشرون)، وأولئك الّذين سمعوا الإشاعةَ ولن يتناقلوها (الكاظمون)، وأولئك الّذين لم تصل إليهم الإشاعةُ بعد (الجاهلون). في هذه المرحلةِ، يمكننا أن نقولَ إنّ هناكَ العديدُ من التّصرفاتِ المختلفةِ الّتي ستظهر في كل صنفٍ، ولكن من أجل السّهولة سنحُدّدها ببعض القواعدِ الرّئيسيّة:

- في البداية هناك فقط "جاهلين" وَ "ناشرين".

- كلُّ "الجاهلين" سيصبحون "ناشرين" عندما يسمعون الإشاعةَ لأوّلِ مرّةٍ.

- كلُّ "النّاشرين" سيخبرون كلَّ من يصادفونَه في طريقهم بالإشاعة إلى أن يلتقوا بأحدِ "النّاشرين" أو أحد " الكاظمين" وفي هذه المرحلة سيقرّرون أنّ الإشاعة قد انتشرت وسيتحولون إلى "كاظمين".

- تنتهي الإشاعة عندما يبقى " الكاظمون " و "الجاهلون" فقط.

باستخدام التّعريفات والقواعدِ البسيطة السّابقةِ، وبترجمتها إلى أرقامٍ ورموزٍ ومعادلاتٍ، وباستخدامِ المعادلاتِ أيضاً لوصف معدّل انتقالِ النّاس من صنفٍ إلى آخرَ، يمكن تقدير نسبةِ الطّلاب الّذين سمعوا الإشاعةَ في النّهاية. وربّما للمفاجأةِ، ستكون نسبتهم 80% فقط (وترتفع إلى 85% إن كان نصف الصّفِ يعلم الإشاعةَ في بدايةِ الأمرِ).

نموذج SIR أثناء تسجيله. يُعَبِّر المحور العمودي عن عدد الناس في كل صنف مع مرور الزمن.

هل هذهِ أخبارٌ سارّةٌ بالنّسبةِ لمن يقعُ ضحيّةً لهذه الحملةِ التّشويهيّةِ الاستثنائيّةِ؟ إن كانت كذبةً قابلةً للتّصديقِ، وعلى الغالبِ لا، حتّى مع وجود مايقارب خُمْسَ النّاخبين البقيّة غير المنحازين. ولكنَّ الأمر ليس بهذه الدّرجةِ من المنطقِ إذ أنّ ما تُظهرُهُ النّتائجُ بوضوحٍ أنّه لكي يحقِّقَ المرشّح A أكبرَ ضررٍ ممكنٍ، يجب أن يخبر أكبرَ عددٍ ممكنٍ من الزّملاء. إذاً هل يمكنك أن تُلغي حدوث ما حدث؟ أحياناً ربّما عليك فقط أن تنتظرَ إلى أن تصبحَ الإشاعةُ قديمةً، ولكن بينما تنتظر، عليك أن تشعرَ بالارتياحِ حيث أنَ الإشاعةَ قد تتوقّف قبل أن يتسنّى للجميعِ أن يسمع بها.

حول العالم في 45.5 يوم

يعطينا نموذج SIR فكرةً عن كيفيّة انتشارِ إشاعةٍ ما، ولكن السّؤال الأكثرُ صلةً بالموضوع بالنّسبة لأيِّ شخصٍ يريدُ أن تنتشرَ المعلومةُ بسرعةٍ هو كم منَ الوقتِ ستستغرقُ الإشاعةُ لتنتشرَ؟ إن كنّا نعلمُ جوابَ هذا السّؤال فبإمكاننا أن نقومَ بتحسيناتٍ على النّموذج السّابق والحياةِ الواقعيّةِ لكي نجعلَ الأخبارَ تنتشر بسرعةٍ أكبرَ.

للقيام بذلكَ، من الأسهلِ نسيانُ الكاظمين (مؤقّتاً) وتخيُّل أنّه في النهايّة سيسمع الجميع بالإشاعة. فمجتمع مثاليٌّ سيكون شبيهاً بقريةٍ صغيرةٍ، حيث يعرف جميعُ السّكانِ بعضَهم البعضُ وتنتشر الإشاعاتُ كالنّار في الهشيم.

يمكن نمذجة هذا رياضيّاً باستخدامِ ما يُسمّى بـ "البيان الكامل" complete graph. والبيانُ هو مجموعةُ نقاطٍ (عقدٍ) مُتَّصِلةٍ ببعضها البعض بمجموعة صِلاتٍ (حوافٍ)، وفي البيانِ الكاملِ كلُّ عقدةٍ تتّصلُ بجميعِ عقدِ البيانِ الأخرى كما هو موضحٌ في الشّكلِ:

بيان كامل بسبع عقد

تمثّل كلُّ عقدةٍ في البيانِ أحد سكانِ القريةِ، وتُعبِّر الصِّلاتُ عنِ الصِّلة بين كلِّ فردَين في القريةِ. ومنَ المناسبِ أن ندعو مجموعةَ العقدِ الموجودة في أيّةِ شبكةٍ والّتي تكون جميعها مُتصِلةً مع بعضها البعضِ حيث تكون جميعُ عقدها مترابطةً (كما في بيانٍ كاملٍ) بـ "ثُلَّة" a clique.

في البداية لنفترض أنَّ شخصاً واحداً فقط يعلم بالإشاعةِ. ومع العلم بهذا يمكنك أن تتساءل ما الّذي يمكن أن يحدثَ عندما يصادِفُ أيُّ شخصينِ من سكانِ القريةِ بعضهما في الشّارعِ، بحيث يكونُ لأحدهما فرصةَ نقلِ الإشاعةِ للآخر؟ إن كانا يعلمان الإشاعةَ فسيتناقلانها، أمّا إن كانا لا يعلمانِها فلا.

ولكي نقومَ بحسابِ الزمنِ الّذي تحتاجُه الإشاعةُ لكي تنتشرَ، نحتاجُ إلى حساب احتمالِ تبادلِ معلوماتٍ مُحتَمَلِ الحدوثِ بين شخصَين في القرية. وكما لاحظتم، يميلُ الرّياضيّون إلى إبقاء الأمورِ بسيطةً (نسبيّاً)، و هذا يعني في هذه الحالةِ أنّنا سنأخذ بعين الاعتبارِ الصِّلات بين سكانِ القرية، وعلى الوجه النقيض لاعتبار السكان كل منهم على حدا. بعبارة أخرى، هذا سيسمح لك بأن تنظر إلى فرصة أن يصادف أحد سكان القرية شخصاً آخر وينقل إليه الإشاعة على أنها إمكانيّة مُركِّبة تشمل كلا الشّخصَين.

باستخدام الاحتمالات المختارة من أجل كل صِلة (والَتي نعتبرها جميعها واحدة)، يُنبِّئ النّموذج الرّياضيّ الّذي صمّمه A.J. Ganesh أنّه وسطيّاً ، و من أجل n شخص، فإنّ كلَّ شخصٍ سيسمع بالخبر بعد

2 log(n) وحدة زمنيّة. ماهي الوحدات الزمنيّة الّتي نستعملها يعتمد على كيفيّةِ وسرعةِ انتشارِ الإشاعة من شخصٍ لآخر، فعلى سبيل المثال تنتقل الإشاعاتُ بين الغرفِ في أروقةِ الفنادقِ بشكلٍ أسرعَ من انتقالِها بين البيوتِ في الشّارع. (وتكون القيمة 2 log(n) هي القيمة المتوقَّعَة).

قد تكون الشبكات الاجتماعية معقدة، ولكن توجد فيها عادةً زمر حيث يعرف الجميع بعضهم البعض.

لذا إن أردت معرفة الوقت المُستَغرَق لكي يعلمَ جميع من على الكرةِ الأرضيّةِ بشأنِ آخرِ أمرٍ يخصّكَ، علماً بأنّك احتفظتَ بسرِّكَ ليومٍ واحدٍ فقط، فهو يعادل وسطيّاً 2 log(7,260,711,000) أي 45.4 يوماً لكي تخطِّطَ لحركتك التّالية (العدد 7,260,711,000 هو عددُ سكانِ العالم الّذي قدَّرته إحصائيّات البنكِ العالميِّ لعام 2014). وهذا بافتراضِ أنَّكَ على قدرٍ متساوٍ من القربِ بين كلٍّ من هؤلاءِ النّاس وأنَّهم متقاربون كذلك أيضاً من بعضهم. وبشكلٍ منطقيٍّ أكثرَ، إن كنت تريدُ أن تعلمَ ماهو زمنُ سرعةِ انتشارِ الأخبار بينَ أقرانك (أو ثُلَّتك) فيمكنك أن تجد الجواب في تلك الصّيغة عندما تكون أقرب قليلاً إلى مصدرِ الإشاعة.

النّقد الشّائع الذي يوجَّه لنماذِجَ رياضيّةٍ عِدَّةٍ (والّذي غالباً ما يكون صالِحاً)هو أنّها مُبسَّطةٌ جداً لوصف الحياةِ الواقعيّةِ بشكلٍ جيّدٍ. ومع أنَّه يمكننا مناقشة ذلك من خلالِ بعض الأمثلة الّتي أوردناها هنا إلّا أنَّ الحالة أو المسألة ليست على هذا النَّحو دائماً. فعلى الرّغمِ من اختيارِ هذه النّماذج الخاصّة من أجل بساطتها إلّا أنّها لا تزال تزودنا بفكرةٍ عن كيفيّة انتشارِ الإشاعات. كما أنَّه صحيحٌ أيضاً أنّه يتمُّ استخدامُ العديدَ من النّماذِجِ الأكثرَ تعقيداً كلَّ يومٍ لتبلِّغنا عن كلِّ شيءٍ من الحملات الإعلانيّةِ إلى ما يُسمّى بخوارزميّاتِ انتشارِ الإشاعات gossip algorithms والّتي تجعلُ العديدَ من الحواسيب تشاركُ المعلوماتِ بشكلٍ سريعٍ.

بالنّسبةِ لمن لم يهتم بهذا الأمر مسبقاً، لا جَرَمَ أنّني دُهِشتُ حين وجدتُ أنَّكَ فيما لو بحثتَ عن انتشارِ الإشاعاتِ في مواقعِ النّصائحِ على الويب فستَصعقُك موجةٌ من الدّراسات الرّياضيّة. مؤخَّراً بدأت دراساتٌ كهذه تهتمُّ بالكشفِ عن مصدرِ الشّائعةِ (detecting the source of a rumour). لم تسمعها منّي، ولكِّن بعد إدراكٍ كهذا، سيتوجّبُ ربّما على مستخدمي الإنترنت حتّى الفوضويّين منهم أن يبدؤوا بالتّفكير بانتباهٍ لما يقولوه على الشّبكة.

المصدر:

هنا