الرياضيات > الرياضيات

شبكةُ العروشِ: بطل لعبة العروش تحدّده الرّياضيّات

استمع على ساوندكلاود 🎧

يستعرض كلٌّ من العمل التّلفزيونيّ، "لعبةِ العروشِ"، وسلسلةِ الكتب الّتي يستند إليها، "أغنيةٍ من جليدٍ ونارٍ"، طيفًا واسعًا ومتشعّبًا من الشّخصيّات المتصارعة على السُّلطة إلى حدّ يجعل مهمّة تحديد بطل القصّة، أو بطلتها،أمرًا صعبًا، خاصّةً أنّ العديد من هذه الشخصيّات ما إنْ تبدأَ بالنّموّ والتّطوّر إلى حدّ يرفعها إلى سدّة أبطال القصّة حتّى تُقتَل شرّ قِتلة.

ولكن أليسَ بطلُ القصّة الشّخصيّةَ ذاتَ الدّور الأهمّ والأشدّ حساسيّةً فيها؟ أليس عمودَها الفقريَّ وعصبَ حياتِها؟ هنا يأتي دور الرّياضيّات، حيث إنّ هذا بالضّبط ما تمكِّنُنا من تحديده. قرّر أستاذ الرّياضيّات المساعد، Andrew Beveridge،في CollegeMecalester برفقة خرّيج علوم الحاسوب والاقتصاد والرّياضيّات التّطبيقيّة بأعلى مرتبة شرفٍ من الجامعة نفسها،Jie Shan، أن يحوّلا عالمَ "أغنيةٍ من جليدٍ ونارٍ" إلى شبكةٍ اجتماعيّةٍ باستخدام فرع مستحدثٍ من العلم يدعى علمَ الشّبكات، جاعلَينِ من الكتاب الثّالث من السّلسلة، "عاصفةٍ من سيوفٍ"، مجالَ بحثهما.

يُعرَّفُ علمُ الشّبكات بأنّه دراسةُ التّمثيلات الشّبكيّة لظواهرَ فيزيائيّةٍ، وبيولوجيّةٍ، واجتماعيّةٍ، والّتي تفيد في الوصول إلى نماذجَ تنبّؤيّةٍ لهذه الظّواهر. أي إنّه يهدف إلى فهم بنية الشّبكات الضّخمة وآليّاتها، بما في ذلك كيفيّةُ نموّها وكيفيّةُ تطوّر العمليّات فيها، سواءٌ كانت هذه الشّبكاتُ تعبّر عن مجتمعاتٍ بشريّةٍ، أو مجتمعاتٍ حيويّةٍ أخرى، أو حتّى مجموعاتٍ من الأسهم في سوق الأوراق الماليّة على سبيل المثال. ويُعتبَر هذا العلم فرعًا حديثًا قيدَ النّموّ من نظريّة البيان التّطبيقيّة مشتَقًّا من عدّة مجالاتٍ، منها علمُ الاجتماع، والاقتصادُ، والفيزياءُ، وعلمُ الحاسوب، والرّياضيّاتُ. (للاطلاع على مقالنا الخاص بنظريّة البيان هنا)

ما علاقة ذلك بعالم "أغنيةٍ من جليدٍ ونارٍ"، وكيف نستفيد من ذلك في تحديد بطل القصّة؟

في بحثهما المُعَنوَنِ بـ"شبكةِ العروشِ"،والمنشورِ كمقالٍ في إصدارِ نيسانَ (أبريلَ) من العامِ المنصرمِ من مجلّةِMath Horizonsالمنشورةِ من قِبَلِ اتّحاد أمِريكا الرّياضيّMAA،قام الباحثان ِبتمثيل مئةٍ وسبعِ (107) شخصيّاتٍ بمجموعةٍ من العُقَد، كلُّ شخصيّةٍ عقدةٌ، ثمّ قاما بتوصيل بعضِها ببعضٍ بثلاثِمئةٍ وثلاثٍ وخمسينَ (353) ضلعًا، كلُّ ضلعٍ تمثّل رابطًا، أو علاقةً، بين شخصيّتين، ثمّ أجريا تحليلًا على الشّبكة النّاتجة مستندَينِ فقط إلى كتاب "عاصفةٍ من سيوفٍ".

جعل الباحثانِ الأضلاعَ في هذه الشّبكة موزونةً بحيثُ يعبّر وزنُ الضّلع عن شدّة العلاقة بين الشّخصيّتين اللّتين تصل الضّلع بين العقدتين الممثّلتين لهما، كما عبّرا بصريًّا عن اختلاف وزن الأضلاع باختلاف ثخاناتها، كلّما ازدادت ثخانة الضّلع اِزداد وزنها وازدادت بالتّالي شدّة العلاقة بين الشّخصيّتين اللّتين تصل الضّلع بين عقدتيهما.

وهكذا بدأ الباحثان بتناول الشّخصيّات واحدةً تلو الأخرى بحسب ورودِها في الكتاب، وما إنْ ترِدَ شخصيّتان بفاصلٍ لا يتجاوز خمسَ عشْرةَ (15) كلمةٍ إلّا وأنشآ ضلعًا واصلةً بين عقدتي هاتَينِ الشّخصيّتين، وإنْ كانا قد أنشآ ضلعًا واصلةً بينهما مسبقًا زادا وزنها، منتهيَينِ بذلك إلى شبكةٍ اجتماعيّةٍ تتصنّف فيها الشّخصيّاتُ ضمن مجتمعاتٍ متناهيةٍ في الدّقّة تعرض لنا الرّوابط الجغرافيّة، والعائليّة، وحتّى الخصوماتِ بين الشّخصيّات.

كلّ ذلك رَغم أنّه لا يُشترَط، كما نلاحظ،لكي تربط ضلعٌ بين عقدتَي شخصيّتينِ، أن تربط بينهما علاقةٌ من نوعٍ محدّدٍ كصداقةٍ، أو قرابةٍ، أو حتّى خصومةٍ على سبيل المثال، كلّ ما تحتاجه الشّخصيّتان لترتبطا أن تَرِدا في مواضعَ متقاربةٍ نسبيًّا في الكتاب، سواءٌ كانتا تتحادثان، أم تتعاركان، أم تَذكُر إحداهما الأخرى، أم حتّى تُذكَران معًا ضمن حوارٍ يدور بين شخصيّاتٍ أخرى. يقول Beveridge: لم نخبرِ الشّبكة بماهيّة المجتمعات، بل في الواقعِ الشّبكةُ هي ما يُخبرك بها.

ثمّ استخدم الباحثان ستّةَ معاييرَ تختبر المركزيّةَ لقياسِ أهمّية كلّ من الشّخصيّات، لأنّ أهمّيّة شخصيّةٍ ما ليست مسألة عدد الشّخصيّات الّتي ترتبط بها فحسب. كتب الباحثان: يمكن أن تلعب شخصيّةٌ ما دورًا مركزيًّا بطرقٍ شتّى، فمثلًا، يمكن أن تكون روابطُها بالشخصيّات الأخرى قويّةً (بمعنى أن تكون الأضلاعُ المرتبطة بعقدتها ثخينةً نسبيًّا)، أو أن تكون متوضّعةً مركزيًّا (بمعنى أن تكون العديد من الشّخصيّات الّتي ترتبط بها تعتمد على علاقتها بهذه الشّخصيّة لترتبط بشخصيّاتٍ أخرى)، أو أن تتوضّع في موضعٍ مميّزٍ يمكّنها من المساعدة في نشر المعلومات (إلى أنحاءِ الشّبكة) أوِ التّأثيرِ في الآخرين.

ما هذه المعايير؟ وما آليّة عملها؟ ومن بطل القصّة بحسبها؟

المركزيّةُ بحسب الدّرجة، أو بتعبيرٍ آخرَ عددُ الأضلاع المرتبطةِ بالشّخصيّة. كلّما ارتبطت الشّخصيّة بعددٍ أكبرَ من الأضلاع، بغضّ النّظر عن وزنها وعن أهمّيّة الشّخصيّات المرتبطة بها، كانتِ الشّخصيّة أشدَّ أهمّيّةً بحسب هذا المعيار.

المركزيّةُ بحسب الدّرجة الموزونة، وهو مشابهٌ للمعيار الأوّل ولكن يختلف عنه بأخذ أوزان الأضلاع بعين الاعتبار.

المركزيّةُ بحسب الشّعاع الذّاتيّ، وهو كالمعيار الثّاني ولكن تتمّ من خلاله زيادة أهمّيّة الشّخصيّة عند ارتباطها بشخصيّاتٍ مهمّةٍ.

معيارُPageRank، وهو معيارٌ يستند إليه محرّك بحث Google، والّذي من خلاله أيضًا تُقاس أهمّيّة الشّخصيّات بحسب روابطها مع شّخصيّاتٍ مهمّةٍ ولكنْ بشكلٍ مختلفٍ قليلًا عن المعيار السّابق.

المركزيّةُ بحسب القُرب، في هذا المعيار يُؤخَذ متوسّطُ المسافة بين الشّخصيّة والشّخصيّات الأخرى جميعِها بعين الاعتبار. يسمّى هذا المتوسّطُ قيمةَ القربِ، وتزداد أهمّية الشّخصيّة بانخفاض قيمِ القرب المتعلّقة بها.

المركزيّةُ بحسب البَينيّة، نهتمّ في هذا المعيار بعدد الطّرق الّتي تتوضّع عليها الشّخصيّة، والّتي تصل بين أزواجٍ من الشّخصيّات الأخرى، أي عددِ العلاقات الّتي تتوضّع الشّخصيّة بين طرفيها. ما نريد اختبارَه باستخدام هذا المعيار، في الحقيقية، كم من المعلوماتِ تمرّر الشّخصيّةُ إلى الشّخصيّات الأخرى، أو كم من التّفاعلات والاتّصالات الفعّالة تَجري من خلال هذه الشّخصيّة الّتي تمثّل هنا وسيطًا ضمن سيل المعلومات.

بعد إجراء التّحليل باستخدام هذه المعايير، مثّل الباحثانِ أهمّيّة الشّخصيّات بحسب المعيار الرّابع بصريًّا بحجم العقد الّتي تمثّل الشّخصيّات، أي كلّما كبُرتِ العقدة كانتِ الشّخصيّة المُمثَّلةَ بها أهمَّ بحسب هذا المعيار.ووجدا أنّ ثلاثةَ شخصيّاتٍ كانت الأبرز دومًا، وهي بالتّرتيب: Tyrion Lanister، ثمّ Jon Snow، ثمّ Sansa Stark. حيث كانTyrion، ذلك القزمُ الّذي لا تتورّع عائلته النّبيلة عن تهميشه على الدّوام، الشّخصيّةَ الأهمَّ بحسب المعايير جميعِها عدا السّادس، حيث جاء في المركز الثّالث بحسب هذا المعيار، مع احتلال Jon المركزَ الأوّل، وRobert Baratheon المركزَ الثّاني. ورغم أنّ Sansa تعتبر شخصيّةً ضعيفةً في الكتاب المدروس، لا تزال من أشدّ الشّخصيّات أهمّيّةً لأنّ اللّاعبين الآخرين يعرفون قيمتها كوَريثةٍ لعائلة Stark، ويستخدمونها على الدّوام كبيدقٍ في صراعاتهم على السُّلطة، ويُعتقد أنّها قد تستطيع تضخيم دورها في الشّبكة، إنْ لعبت بدهاءٍ أكبرَ من ذلك المعهود منها.

لم تكن هذه النّتيجة مفاجئةً، حيث إنّ Tyrionأكثرُ شخصيّةٍ سُرِدت أحداث الكتاب المدروس، "عاصفةٍ من سيوفٍ"، من وجهة نظرها، بمعدّلِ تسعةٍ وأربعين (49) فصلًا، ومع ذلك فإنّ هذه التّجربةَ الرّياضيّةَ لا تعكس عدد الفصول بحسب أهمّيّة الشّخصيّة الّتي رُويَت من وجهة نظرها، فعلى سبيل المثال، تأتي Arya Stark في المرتبة الثّالثة بحسب عدد الفصول المسرودة من وجهة نظرها، بمعدّلِ أربعةٍ وثلاثينَ (34) فصلًا، ما يفوق عدد الفصول المسرودة من وجهة نظر أختها الكبرى Sansa، ورغم ذلك فإنّ أهمّيّة Sansa في الشّبكة تفوق أهمّيّة Arya فيها بدرجاتٍ.

أمّا Daenerys Targaryen، أمُّ التّنانينِ ووريثةُ العرش الحديديّ الشّرعيّةُ، لم تجعلها هذه الألقاب إحدى الشّخصيّاتِ الثّلاثِ الأهمِّ في الكتاب، وقد يُعزَى ذلك إلى انعزالها في قارّة Essos بعيدًا عن معظم أحداث الكتاب الرّئيسيّة الّتي تدور في Westeros، ورغم ذلك كلّه فلا تزال شخصيّةً مهمّةً نظرًا لكون شخصيّاتِ Westerosجميعِها الّتي ترتبط بها شخصيّاتٍ مهمّةً، ونظرًا لموقعها الحيويّ في الشّبكة، حيث لا بدّ للشّخصيّات جميعِها من العبور من خلالها لكي تتفاعل مع عناصر القصّة في Essos.

ويقترح Beveridge أنّ علمَ الشّبكات بإمكانه في الواقع أن يتنبّأ بالمسار الذي ستسلكه القصّة مؤشّرًا إلى اتّصالات Daenerys وتفاعلاتها كمثالٍ لذلك، وفعلًا في الكتب اللّاحقة تتطوّر الأحداث المتعلّقة بها، وتتطوّر معها أهمّيّة هذه الشّخصيّة بشكلٍ ملحوظٍ. يقول: Daenerys هي المستقبل! اُنظر إلى الشّخصيّات الّتي ارتبطت بها وستعرف ما سيحدث.

يمكن أن نرى تطبيقاتٍ عمليّةً على أرض الواقع لهذا العلم في مجالاتٍ مختلفةٍ، منها مجالُ الأمنِ القوميّ ومكافحةِ الإرهاب على سبيل المثال. تحاول وكالات الأمن تعقّبَ الاتّصالاتِ والرّوابطَ بين الإرهابيّين المُشتَبَهِ بهم، ثمّ بإجراء تحليلٍ مثلِ هذا على شبكة الإرهابيّين قد تتمكّن من الوصول إلى الأفراد الأهمّ بالنّسبة للشّبكة، وباستئصالهم تُلحق بالشّبكة ضررًا يصعُب التّعافي منه.

يقول الباحث Keith Devlin في جامعة Stanford: السّبب وراء سعْيِ كلٍّ من وكالة الأمن القوميّ الأمريكيّة NSA، ومكتب التّحقيقات الفدراليّ FBIلجمع معلوماتٍ عن الجميع أنّه كلّما كبُرت الشّبكة الّتي تُجري التّحليلَ عليها، اِرتفعت دقّة النّتائج الّتي ستحصل عليها، حيث إنّ الأشياء الّتي كانت لِتضيعَ في بحرٍ من الاتّصالات (لو لم تكن المعلومات المجموعة بهذا الحجم) ستراها تطفو إلى السّطح.

صرّح Beveridge لمجلّة Quartz: هذا تطبيقٌ غيرُ واقعيّ لعلم الشّبكات، ولكنّه تطبيقٌ سهل الإجراءِ يبيّن ما تدور الرّياضيّاتُ حولَه، ألا وهو العثورُ على الأنماطِ وتفسيرُها.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا