العمارة والتشييد > التصميم المعماري

الداروينية المعمارية

نشر العالم تشارلز داروين كتابًا ثوريًا عام 1859م تناولت شرح نظريته المتعلقة بتطور الأنواع الحية، والتي بُنيَ جزءٌ مهم منها استناداً إلى الملاحظة الدقيقة، والتوثيق، والتفكير العميق بالأشياء المحيطة به والتي قد نراها مسلَّمات أو أموراً اعتيادية، كملاحظته الاختلاف البسيط في شكل مناقير العصافير أو في شكل أصداف السلاحف وسماكتها، وتكمن أهمية النظرية بتمكنها من كشف الكثير من الخبايا المتعلقة بأسس تطور الكائنات مع تعاقب الأجيال؛ ممَّا جعل منها حجر الأساس للعديد من الأبحاث والمجالات الدراسية الحديثة، كعلم الوراثة الذي لم يتصوره داروين مطلقاً.

ولتسهيل فهم النظرية، شرح داروين عن طريق خوارزمية بسيطة نصت على أنه:

ا) إذا خضع فرد ضمن مجموعة ما للتغيير.

ب) إذا أدت النتائج البيئية إلى صراع من أجل البقاء.

ج) إذا انتقلت الخصائص الفردية من جيل للجيل التالي:

فإنه :د) مع تعاقب مرور عدة أجيال، ستتطور الأنواع بعملية اصطفاء طبيعي، وهذا ما يُعرف بالبقاء للأنسب.

ومع القليل من الملاحظة نجد أن المباني والمنشآت المعمارية تطورت بطريقة مشابهة بهدف الانسجام مع الظروف البيئية المتغيرة، سواء أَشمِلَ التطور الشكل المعماري العام، أو مواد البناء، أو حتى بعض التفاصيل منها، ويجب على هذه الصيغ المعمارية التكيُّف مع الظروف المحيطة بها كالمناخ والموقع وشروط الاستخدام، وإلا فمصيرها الزوال.

وعليه سندرسُ أسباب تطور أشكال المباني وأسسها وعناصرها، وصولاً إلى الشكل الذي تبدو عليه اليوم بطريقة مشابهة للآلية المتبعة بنظرية التطور؛ لنستفيد من هذه المعرفة بتعزيز التصاميم المعمارية وجعلها أكثر كفاءة وفعالية.

سنطلق على هذه الفكرة اسم "الداروينية المعمارية Architectural Darwinism"، وهي أكثر وضوحاً بالمباني الشعبية، خاصَّةً تلك التي تقع بمناطق المناخات القاسية؛ إذ تزداد أهمية الاعتبارات المرتبطة بتصميم مبنى منسجم مع البيئة المحيطة به. وفي العمارة الشعبية، لم تخضع هذه المخاوف والاعتبارات لاستعدادات أو أفكار مبلورة مسبقاً، كما هو الحال بالعمارة المدروسة والمخططة مسبقا.

ووفق نظرية داروين، فإن الآلية الرئيسية لتطور الكائنات لا إرادية كلياً (اصطفاء طبيعي)، في حين أنه تنقسم لآلية بالداروينية المعمارية إلى قسمين، إرادية ولا إرادية معا.

تحدث آلية تطور المباني اللاإرادية عندما تنجو المباني ذات السمات والميزات المختلفة مع مرور الزمن، على الرغم من عدم مراعاة عملية تشييدها الأصلية لمتطلبات الصمود بوجه عوامل البيئية المختلفة. أمَّا الآلية الإرادية فتنتج عند اهتمام الإنسان بمتطلبات صمود المباني وديمومتها وتقييمه نتائج التصاميم السابقة وأخذها بعين النظر للتصاميم اللاحقة. وقد تتطور بعض التصاميم أو العناصر المعمارية وفقاً للآليتين السابقتين معا.

1. ومن الأمثلة على تطور التصاميم المعمارية عن طريق التجربة، تغير موضع المدخنة ضمن المنازل الاستعمارية بإنكلترا الجديدة (منطقة تقع على الساحل الشمالي الشرقي للولايات المتحدة- 1725-1775م)، إذ صمِّمَت مداخن المنازل التي وُجدت في جنوب الإقليم لتكون بجوار الجدران الخارجية نظراً لعدم الحاجة لكمية كبيرة من الحرارة، في حين أنه امتلكت منازل القسم الشمالي مدخنة مركزية كبيرة بهدف الاحتفاظ بالحرارة ضمن المنزل قدر الإمكان.

2. أما البيوت الزراعية التي شُيِّدت بالفترة التي سبقت الحرب الأهلية الأمريكية بولاية لويزيانا Louisiana الأمريكية -التي تشتهر بارتفاع درجة حرارتها ورطوبتها وتعرضها للفيضانات- فكانت تستند على أساس مبني من الطوب بمسقط أرضي مفتوح ممَّا يسمح للفيضانات بالمرور عبر البيوت الزراعية دون أن تدمرها، وقد أحاطت بالمبنى بروزات علت النوافذ بهدف تظليل النوافذ من أشعة الشمس دون منع نسائم الرياح من العبور، ثم سمح استخدام النوافذ الطولية وفتحات التهوية العلوية بتجدد الهواء تلقائياً عن طريق حركة طبيعية للرياح ضمن الفراغ، إذ يرتفع الهواء الساخن إلى الأعلى ليدخل عوضاً عنه هواء بارد من الأسفل (التهوية السلبية). وقد تطورت هذه الخصائص والمفاهيم التصميمية المميزة منذ زمن بعيد سبق عصرنا الحديث الذي نتشدَّق فيه باكتشافنا مفاهيم ومسميات حديثة وطنانة، كالتصميم السلبي أو المرن أو المستدام.

3. وفي الكثير من الأحيان، تطورت التفاصيل المعمارية على نحوٍ لا إرادي تبعاً للرغبة في مواكبة التقاليد المعمارية الزخرفية أو تطوير الأسلوب، ومن الأمثلة على ذلك الاستخدام الواسع النطاق للأسقف المائلة باتجاهين، والمكسية بقطع من حجر الاردواز على شكل معينات، والتي انتشرت بالعمارة الشعبية لمنطقة الألب (على نحوٍ مخالف لطريقة التصميم التقليدية المتمثلة بإكساء الأسقف بقطع مستطيلة وصغيرة من حجارة الاردواز التي كانت شائعة في الولايات المتحدة الأمريكية وإنكلترا) وقد كان هذا التطوير رغبة في تجديد التصاميم المعمارية وزيادة جماليتها، ولكن الفحوص والدراسات الحديثة أظهرت أن إكساء الأسقف بقطع معينة الشكل تزيد من كفاءة استخدام المواد وتجعلها أكثر قدرة على مقاومة الرياح من نظيرتها المستطيلة.

4. وقد تطورت تفاصيل الجوائز التقليدية الممتدة بعيداً عن جدران مباني مدينة روما، والتي وظفت بحمل الأسقف المائلة بآلية إرادية، ممَّا مكنها من الصمود بوجه عوامل الزمن والمناخ فترة طويلة تعاقبت خلالها العديد من الفترات والطرز المعمارية المختلفة، بدءاً بالعصور القديمة مروراً بالعصور الوسطى وعصري النهضة والباروك، وصولاً إلى الكلاسيكية الحديثة ببداية القرن العشرين، فعلى الرغم من تشييدها من أخشاب الصنوبر ذات الديمومة القصيرة وعدم معالجة سطوحها، وكون المنطقة ذات مناخ ممطر، امتازت هذه الجوائز بسجل حافل من المتانة نظراً لخضوعها لسلسلة من التطويرات المخططة والمدروسة، والتي لم تهدف بدايةً لزيادة القيم الجمالية للمبنى. إذ أزيل نصف مقطع الجائز على نحو مثلث تقريباً بهدف حماية نهاية الجائز من الضعف والتعفن، وذلك لتفادي تعرض الخشب لمياه الأمطار والرطوبة قدر الإمكان، وقد أظهرت الدراسات الحديثة أن مقطع الجائز المثلث الناتج عن عملية القطع مطابق تماماً للمتطلبات الإنشائية لتصميم جوائز مماثلة. ونظراً لصعوبة تفادي مياه الأمطار التي تحركها الرياح ومنعاً لانتشارها وامتصاصها على كامل سطح الجائز، خضع السطح المائل السفلي للجائز لمعالجة تضمنت تشكيل سلسلة من التراجعات والقطوع الجميلة والوظيفية بالوقت نفسه، والتي تعمل بوصفها حوافاً لمنع استمرار حركة المياه وسقوطها باتجاه الأرض بعيداً عن الجائز وجدران المبنى الخارجية. ويفسر لنا هذا التصميم المستدام السر وراء نجاة هذه الجوائز لقرون عدة، على الرغم من ضعف الصنوبر وتعفنه بظروف مناخ مدينة روما الماطر والرطب.

5. تُعدُّ مباني إنكلترا وأوروبا الوسطى من النماذج الملفتة النظر نظراً لتصميمها الذي يراعي حماية مواد البناء الضعيفة (الخشب والجص) التي يسهل تحللها إذا ما تعرضت للرطوبة، وذلك عن طريق شكل المبنى المعماري الذي يحاكي هرماً مقلوبا يمتد بعيداً عن الجدران الخارجية، ووجود بروزات (أطناف) jetties عند كل طابق وظيفتها اعتراض مياه الأمطار ومنع وصولها إلى الجدران الخارجية الضعيفة نسبياً.

وممَّا سبق نجد أن التصميم الجيد هو السبب الرئيسي وراء ديمومة العناصر المعمارية المصنوعة من مواد ذات ديمومة قصيرة نسبياً ضمن شروط المناخ المحلي.

إن طريقة داروين بالبحث والتفكير المبنية على الملاحظة الدقيقة للتفاصيل والمنطق التحليلي البسيط متاحة لنا جميعاً، لذلك فمن واجبنا اليوم تحليل مختلف التفاصيل والأشكال المعمارية الشعبية التي تطورت خلال العصور السابقة بهدف استخلاص الدروس والمعلومات التي تفسر سبب استدامة تصميمها ومرونتها وديمومتها، وإذا ما استطعنا دمج هذه الدروس بتصوراتنا وأفكارنا للتصاميم والتفاصيل المعمارية الجديدة، سنصبح أكثر قدرة على الاستجابة والتصدي للتغيرات والمشاكل البيئية التي تواجهنا اليوم.

وأنتم أصدقائي هل توجد في مدنكم وقراكم تصاميم أو تفاصيل معمارية تعتقدون أنها تعرضت للتطوير البنَّاء لمواكبة المتطلبات البيئية بموقعها مع مرور الأعوام؟ وما هي أهم مراحل هذا التطور؟؟

المصدر:

هنا