منوعات علمية > ما بين العلم والخيال

التّنانين

استمع على ساوندكلاود 🎧

مِنْ غيرِ الواضحِ متى بدأَتْ قِصصُ التّنّينِ بالانتشارِ، ولكنْ تمَّ وصفُ مخلوقاتٍ ضخمةٍ قادرةٍ على الطيرانِ في كلٍّ مِنَ التاريخِ اليونانيِّ والحضارةِ السومَريّةِ وغيرها. كغيرِهِ مِنَ الحيواناتِ الأسطوريّةِ الغريبةِ، يوصَفُ التّنّين تارةً على أنّه طيّبٌ ومفيدٌ، وتارةً أخرى على أنّه شريرٌ وخطيرٌ جدًا، حتى أنّ بعضَ الرواياتِ تقولُ بأنَّ التّنّينَ هو إحدى الصورِ التي يظهرُ بها الشيطانُ.

للاطّلاع على مقال التّنّين في الحضارة السّومريّةِ:

هنا

ما هو شكلُ التّنّينِ؟

قد يبدو سؤالًا سهلًا لأغلبِ الناسِ، إذ لا يتغيّرُ شكلُهُ الكثيرَ باختلافِ الأفلامِ أو المسلسلاتِ، فهو ذلكَ المخلوقُ الطائرُ الضخمُ ذو الأجنحةِ الكبيرةِ والعُيُونِ الشرّيرةِ، تغطّي جسدَهُ حراشفُ شديدةُ القسوةِ، يفتحُ فمه لتخرجَ مِنهُ ألسنةُ اللّهب لتُرهِبَ الأعداءَ؛ إلّا أنَّ هذهِ الصورةَ لمْ تكنْ ثابتةً عبرَ الزمنِ وباختلافِ المكانِ الجُغرافيِّ، فبعضُ التّنانينِ الأسطوريةِ غيرُ قادرةٍ على الطيرانِ، وبعضُها صغيرٌ قد يتّسع في فنجانِ القهوةِ، بلْ حتّى أنَّ هناكَ تنانينَ غيرَ قادرةٍ على نفثِ النيرانِ!

تزعُمُ بعضُ الأساطيرِ قدرةَ التّنانينِ على الكلامِ في حينَ تنفيها أساطيرُ أخرى، ونَجِدُ استمرارَ هذا الخلافِ بينَ الأفلامِ في يومِنَا هذا، ونَرى ذلك مثلًا في تنانينِ لعبةِ العروشِ مقارنةً بالتّنّين سماوغ -في سلسلةِ أفلامِ الهوبيتِ- القادرِ على الكلام.

نسبةً لعالمِ الفُلْكلُور كارول روز Carol Rose في كتابه* عن الموضوعِ:

"للتّنانينِ ملامحُ مركبّةٌ من العديدِ مِنَ الحيواناتِ الأخرى، فيملِكُ التّنّينُ رأسَ فيلٍ في الهند، في حينِ يملكُ رأسَ أسَدٍ أو أحَدِ الطّيورِ الجارِحَةِ في الشّرقِ الأوسطِ، أو قد يكونُ لهُ رؤوسٌ عديدةٌ كرؤوسِ الأفاعي أو زواحفَ أخرى. وتتراوحُ ألوانُ التّنانينِ بينَ الأسودِ والأحمرِ والأخضرِ، وتتلوّنُ بشكلٍ نادرٍ بالأزرقِ والأبيضِ والأصفرِ."

تختلفُ الرّواياتُ أيضًا في مساكنِ التّنانينِ وبيئَتِها، فعندَ البعضِ، خاصّةً في دُوَلِ الشّرقِ، تعيشُ التّنانينُ تحتَ الماءِ، وعندَ أخرينَ تلجأُ التّنانين للبقاءِ في الكهوفِ والجبالِ.

تاريخُ التّنانين:

يُشتقُّ المُرادفُ الإنجليزيُّ لكلمةِ التّنّينِ dragon مِنَ الكلمةِ اليونانيّةِ القديمةِ "draconta" والتي تعني الفعلَ "راقبَ"، والسّببُ في ذلك ارتباطُ التّنانينِ التاريخيِّ بحراسةِ الكُنُوزِ والأشياءِ الثّمينةِ ومراقبتِها بشكلٍ دائمٍ، وهو شيءٌ غريبٌ لمخلوقٍ بحجمِ التّنّينِ وقدرتِهِ، فما حاجتُهُ لكلِّ هذه الكنوزِ والأموالِ التي لنْ يستخدمِها أبدًا؟!

نستخرجُ من هذا السّؤالِ جُزءًا من قِصّةِ التّنّينِ، إذ أنَّ وجودَهُ مرتبطٌ بوجودِ الأبطالِ والمحاربينَ الذين يأتونَ لمُقارَعَتِهِ طمعًا في تلك الكنوزِ المخبّأةِ، خلافًا لباقي الحيواناتِ، وحتّى النّباتاتِ، التي تُحقّقُ وظيفةً بيولوجيةً محدّدةً وتسعى لاستمرارِ وجودِ أنواعِها.

أي كأنّهُ موجودٌ ليُقتلَ فقط، ونلاحظُ في مختلفِ الرّواياتِ والأساطير، بلْ حتّى بعضَ القصصِ الدّينيّةِ، قيامَ التّنّين بدورِ القوّةِ الشّرّيرةِ التي يجبُ على البطلِ القضاءُ عليها وذبحِها في النهاية، وقلّما يخرجُ تنّينٌ عن هذا الدورِ ذي المصيرِ الحتميِّ.

لطالما اعتقدَ البشرُ بوجودِ التّنانينِ في شرقِ الأرضِ وغربِها، إذ وصفَ بيولوجيّو أوروبا القدماءُ سلوكَ التّنانينِ ومساكِنِها، وعدّها الصّينيونَ القدماءُ أحدَ أنواعِ الحيواناتِ الحُرشُفيّة.

فالصّورةُ السّابقةُ للتنّينِ الخطيرِ القويِّ المخادعِ هي تعبيرٌ عن الرؤيةِ الأوروبيّةِ للتّنّينِ، غالبًا ما يعيشُ في الكهوفِ مع الكنوزِ أو على أطرافِ البِرَكِ والمستنقعاتِ حيثُ توجدُ الحيواناتُ التي يمكنُهُ تناولُها، إذ يمكنُه قتلُ أكبرِ الحيواناتِ كالفِيَلَةِ بذيلِهِ، كما يمكنُهُ تناولُ البشرِ.

وفي الطّرفِ الآخرِ نجدُ التّنّينَ الآسيويَّ ذا القُدُراتِ الخارقةِ، إذ يتنفّسُ الغيومَ ويتحكّمُ بالفصولِ، كما يسيطرُ على مياهِ الأنهارِ والبحيراتِ والبحارِ، ولهُ القدرةُ على إسقاطِ الأمطارِ. ليس ذا شكلٍ ثابتٍ بل هو قادرٌ على التّحوّلِ فيتّخذُ شكلَ سمكةٍ حينًا وحيّةٍ حينًا آخرَ، يستطيعُ تقليصَ حجمِهِ أو تكبيرَهُ أو حتّى الاختفاءَ، يُمضي شتاءَهُ غالبًا في البحارِ ليصعدَ إلى السّماءِ في الرّبيعِ ويجلبَ الأمطارَ. ولشدّةِ تأثرّ أهلِ الصّينِ بالتّنانينِ كانَ إمبراطورُ الصّينِ يلقّبُ ب"التّنّينِ"، ومازلنا نرى التّنّينَ في الثّقافةِ الصّينيّةِ في احتفالاتِ رأسِ السّنةِ الصّينيّةِ كلَّ عامٍ.

وللتّنّينِ استعمالاتٌ عديدةٌ أيضًا، فتُستخدمُ عظامُ التّنّينِ في علاجِ العديدِ من الأمراضِ تِبعًا للطّبِّ الصّينيِّ التّقليديِّ، وهيَ غالبًا عظامُ مستحاثّاتِ الحيواناتِ المُنقَرضةِ التي تُكتَشفُ في الصّينِ؛ كما اعتُبِرَ دمُ التّنّينِ دواءًا في أوروبا والشّرقِ الأوسطِ، إذ أبحرَ العديدُ من العربِ القدماءِ لجُزُرِ بحرِ العربِ مثل سُقُطرَى للحصولِ على راتِنجِ (صمغِ) شجرةِ دمِ التّنّينِ Dracaena cinnabari الموجودةِ هناك، واعتُقِدَ تشكُّلُ هذا الصمغِ عندَ مهاجمةِ التّنّينِ للفِيَلَةِ واختلاطِ دمِهِما.

وعلى الصّعيدِ الحربيِ، تُحكى روايةٌ عن استخدامِ أسنانِ التّنّينِ لزيادةِ قوّةِ الجيشِ في بلدٍ ما؛ كلُّ ما عليكَ فعلُهُ هو اصطيادُ أيِّ نوعٍ مِن أنواعِ التّنانينِ ثُمّ قتلُهُ وخلعُ كافّةِ أسنانِهِ وزرعِها، لتحصدَ مقاتلين أشدّاءَ مُدرّعينَ جاهزينَ للقتالِ.

كانَتْ هذهِ لمحةً عن تاريخِ التّنّينِ وشُهرتِهِ في العديدِ من الحضاراتِ، لكن مِن أينَ أتَتْ أغلبُ هذهِ القصصِ؟

قد يكونُ لاكتشافِ البشرِ القدماءِ عظامَ الدّيناصوراتِ في مختَلَفِ المناطقِ أثرٌ في هذه القصصِ، ولا يمكنُنا لومُهم على ذلك، فدونَ ما نعرفُهُ الآنَ، عظامٌ بذلك الحجمِ أو مستحاثاتٌ عملاقةٌ قد تجعلُ العديدَ من النّاسِ قادرينَ على تصديقِ الكثيرِ مِن هذه القصصِ. ولبعضِ التّماسيحِ والحيتانِ دورٌ في انتشارِ هذه الأساطيرِ في مناطقَ مختلفةٍ مِن العالمِ، لكنّ التّفسيرَ لن يتمّ دونَ ذِكر المخيّلةِ البشريّةِ، فنحنُ، والكثيرُ من الحيواناتِ، نُظهِر عبرَ تاريخِنا خوفاً مِن المفترسينَ الكبارِ كالأفاعي والفِيَلَةِ والطيورِ الجارحةِ، وغالبًا ما حصلَ هو قيامُ مخيّلتِنا بِجَمعِ هذه المخاوفِ في وحشٍ واحدٍ هو التّنّينُ.

ولنتقابلِ الآن سويًا معَ أقربِ الكائناتِ الحيّةِ الموجودةِ اليومَ شبهًا بالتّنّينِ، التي قد تكونُ، بطريقةٍ أو بأخرى، ساعدَتْ في تكوينِ هذه الأساطيرِ، ونذكرُ مِنها:

أفعى البايثون Python: مِن أكبرِ الأفاعي في العالمِ، تكبُرُ لتتجاوزَ الـ10 أمتارٍ طولًا، تنتمي لمجموعةِ الأفاعي العاصِرةِ، أي أنّها تقومُ بخنقِ ضحاياها من الطّيورِ والحيواناتِ الصّغيرة حتّى الموتِ، وهو مُطابقٌ جُزئيًا لبعضِ الأساطيرِ التي تتحدّثُ عن تنانينَ ضخمةٍ تستطيعُ خنقَ فيلٍ بذيلِها.

أفعى البايثون:

التّنّينُ المُزَركَشُ frilled dragon: سحليّةٌ صغيرةٌ تعيشُ في غاباتِ شمالِ أستراليا، يملك غشاءًا صغيرًا يمكنُهُ فتحُهُ كالمظلّةِ عندما يكونُ خائفًا ليُفزِعَ أعداءَهُ، وإنْ لم يكفِ ذلك، فهو قادرٌ على الهرب تاركًا ذيلَهُ خلفَهُ لإرباكِ المفترسِينَ.

التّنّين المزركش:

التّنّين المُلتحي Bearded Dragon: موطنُهُ الأصليُّ غاباتُ أستراليا أيضًا، ويملكُ بعضَ الزّوائدِ الشّائكةِ حولَ رأسِهِ؛ يمكنُ للتّنّينِ المُلتحيِ نفخُ المنطقةِ تحتَ ذقنِهِ بهدَفِ إخافةِ الأعداءِ، ويمكنُهُ تغييرُ درَجَةِ لونِهِ تِبعًا لحالتِهِ النّفسيّةِ أو لتنظيمِ حرارةِ جَسَدِهِ.

التّنّين الملتحي:

التّنّينُ الطائرُ Flying Dragon: يتواجدُ هذا التّنّين في جنوبِ شرقِ آسيا، وهو سحليةٌ صغيرةٌ تستطيعُ الانسيابَ بينَ الأشجارِ بالاستعانةِ بزوائدَ جلديةٍ تشبهُ الأجنحةَ، تُدعَمُ هذه "الأجنحةُ" بخمسٍ إلى سبعِ أضلاعٍ تمتدُّ من جسمِ التّنّينِ لتُعطيها قوّةً شديدةً، إذ يستطيعُ باستخدامِها الطّيرانَ ،ولو مؤقتًا، لمسافاتٍ قد تفوقُ الـ9 أمتارٍ.

التّنّين الطائر:

تنّينُ الكومودو: أكبرُ السحالي على قيدِ الحياةِ، يعيشُ تنّينُ الكومودو في إندونيسيا، قد يصلُ طولُهُ الـ3 أمتارٍ ولهُ القدرةُ على الركضِ بسرعةٍ تعادلُ سرعةَ الكلابِ في المسافاِت القصيرةِ. يصطادُ ضحاياهُ بنفسِهِ وليسَ خائفًا مِن مُجابهةِ المخلوقاتِ الأكبرَ مِنهُ حجمًا. كان يُعتقدُ بأنّ عضّتَهُ شديدةُ السُّمّيّةِ إلى أنّ تمّ دحضُ تلك الفكرةِ عام 2013.

تنين الكومودو:

خلاصةُ القولِ:

في عصرِنا هذا، عصرُ التّكنولوجيا والهواتفِ الذّكيةِ والأقمارِ الصّناعيّةِ، احتمالُ وجودِ أحدِ هذه التنانينِ العملاقةِ القادرةِ على نفثِ النيرانِ دون أنْ يتمَّ اكتشافُها أمرٌ بالغُ الصعوبةِ، إنْ لم يكنْ مستحيلًا.

* "Giants، Monsters، & Dragons: An Encyclopedia of Folklore، Legend، and Myth"

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا