علم النفس > الصحة النفسية

لماذا نتذكر أمور وننسى أخرى؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

إنّ تكوينَ الذاكرة يضمُّ تسجيلَ المعلوماتِ (الترميز) والمعالجة أو التخزين ثم الاستعادة. أما العاطفةُ فتعمل كقلم الدلالة الذي يؤكّدُ أموراً محدّدة في تجاربنا ليجعلَها لا تُنسى، وبالتالي فهي تؤثّرُ على جميع مراحل تكوين الذاكرة وإليك كيف:

أولاً :الانتباه:

يقودُ الانتباهُ تركيزَنا لنختارَ الأشياءَ والأحداثَ الأكثرَ ارتباطاً بحياتنا، والتي عادة ما تأخذُ شكلَ السردية. ولا شيءَ يركّز انتباهَ أدمغتنا أو يجذبُ تفكيرنَا أكثرَ من عنصرِ المفاجأة، فعلى سبيل المثال قد نستمتعٌ بالاستماع إلى حديثٍ معين إلا إنّه يصبحُ مملاً إذا ما أُعيد سرده.

إذاً فإنّ الضغطَ العاطفي يعمل على تضييق مجالِ تركيز انتباهنا بحيث يتم التركيزُ على أمورٍ محددة على حساب أخرى، وتضييقُ مساحة تركيزنا سيسمحُ لنا بالاستخدام الأفضل لقدرة انتباهنا المحدودة.

وقد أجرى الباحثون عدّةَ تجاربٍ لإثبات هذه الآلية فكان الاتفاقُ على أنّ العاطفة تؤثر على عملية التذكرِ ولكن الاختلاف كان على الدقة، أما إثباتُ علاقتها فكان عن طريق دراسة تأثيرها على الدماغ أو مراكزِ تكوين الذاكرة فيه.

حيث عُرضت على متطوعي الدراسة عدةُ صورٍ عاطفية وأخرى معتدلة ثم طُلب منهم الحكم بأحد أمرين "أتذكر"(بدقة)

و"أعرف" (أظنّ أنّي قد شاهدتُ هذا) فوجدوا أنّ خيار "أتذكر" قد زاد مع الصور العاطفية ولم تتغير الدقة. ومع الصور المعتدلة كان مصحوبًا بنشاطٍ متزايد في منطقة (parahippocampal) من القشرة المخيّة والمرتبطة بالإدراك البصري...

وهذا ما زودَنا بدليلٍ يثبت عمليةَ استرجاع الذاكرة في خيار "أتذكر". أما مع الصور العاطفية فقد كان مرتبطًا بنشاط متزايد في الجزء الأمامي من الفص الصدغي أو ما يُسمّى (اللوزة). وللمرة الأولى حُدّدت الآلية العصبية لتذكر الأحداث العاطفية.

ثانيا :تمتين الذاكرة:

إنّ الكثيرَ من المعلومات التي نكتسبها تُنسى قبل أن تدخلَ في الذاكرة طويلة الأمد، فعندما نتعلمُ مسألةً معقدة فإنّ الذاكرةَ المؤقتة (قصيرة الأمد) تتحرر وتصبح ردّة الفعل آلية. ونحن نتذكر الأحداث المشحونة عاطفياً أفضلَ من تذكرنا لتلك المعتدلة. فأنت لن تنسى أبدًا سعادَتك بولادة ولدكَ الأول مثلًا أو رعبَ هجومِ الحادي عشر من أيلول الإرهابي، حيث أنّ كلاًّ من هرموني التوتر والضغط (الادرينالين والكورتيزون) يقويان الذاكرة ويرسّخان مكوناتها. ومن المنطقي أن تنطبعَ الحالاتُ الخطرة في أدمغتنا لنتجنبها في المستقبل.

ثالثاً: استرجاع الذاكرة:

تدومُ ذكرياتُ التجاربِ العاطفية المؤلمة أكثرَ من تلك المؤلمة جسديا، وهناك قولٌ قديمٌ يقول: "تستطيع العصيُ والحجارة كسرَ عظامك ولكن لا تستطيع الكلمات إيذاءَك أبدا" وعلى العكس فقد أظهر الدليل أن إيذاء المشاعر يمكن أن يكون أسوأَ من الإيذاء الجسدي، وقالت Maya Angelou: "تعلمت أنّ الناسَ تنسى ما قُلت وتنسى ما فعلتَ لكنهم لن ينسوا أبداً الطريقة التي جعلتهم يشعرون بها". وفي الحقيقة هناك دليلٌ يُفيد بأنّ عقار (acetaminophen) المسكّن للألم والخافض للحرارة مثل (Tylenol) يعملُ على تسكين الألم العاطفي كما يعمل على تسكين الألم الجسدي.

رابعاً: تحفيز الذاكرة:

غالباً ما تُحفزُ بيئةُ الشخص استدعاءَ الذكريات الماضية لديه. (التحفيز) يعني تنشيطُ السلوكِ بما يُقدّمه اللاوعي من اقتراحات.

والجدير بالذكر أنّ جميع العلماء قد اتفقوا على أنّ للعواطف تأثيرًا على عملية التّذكر ولكنهم اختلفوا فيما إذا كان هذا التحسّنُ مقروناً بتحسنٍ في الذاكرة المكانية والزمانية، فقاموا بعدة تجارب لإثبات ذلك...

ففي دراسةٍ طُلب من المشاركين تذكّر أحداثِ الحادي عشر من أيلول فأظهروا جميعاً مستوياتٍ عالية من الثقة بالتذكّر الدقيق للأحداث مقارنة بذكرياتهم للأحداث اليومية، لكنّ الدقة الزمانية والمكانية تراجعت مع الزمن. وكانت النتيجة أن تذكّر الأمور العاطفية للمؤثرات السلبية يترافق مع دقةٍ في التفاصيل المكانية والزمانية (أين ومتى) وباستخدام نموذج: أتذكّر " أو "أعرف" فقد تحسّن قرار" أتذكّر" للمؤثرات السلبية مقارنة مع المشاهد المعتدلة وبالعكس، أما الذاكرة الزمانية والمكانية فكانت سيئة للمؤثرات السلبية مقارنة مع المشاهد المعتدلة.

ثم جاءت دراسةٌ أُخرى لتثبت أثرَ العواطف على الذاكرة المكانية و الزمانية... فقد شملت الدراسة كلاًّ من: المحفزات الايجابية المنخفضة والسلبية المنخفضة، والمحفزات الايجابية المرتفعة والسلبية المرتفعة.

وعلى الرغم من أنّ الدراسة لم تركّز على جميع المؤثرات فقد جاءت النتيجةُ على الشكل التالي: إنّ العناصرَ المهيّجة العالية اُستذكرت مع تفاصيلِ البيئة الزمانية والمكانية بشكلٍ أفضل من تذكرها مع تلك المنخفضةِ التحفيزِ. والعناصر المتكافئة لم تؤثرْ على الذاكرة من جهةِ هذه التفاصيل على الرغم من تذكرِ العناصر المهيجة الايجابية المرتفعة بصورةٍ أفضل مما في السلبية منها. و بالتالي فإنّ العاطفة لم تكن مجرّد أمرٍ ثانوي للدلالة على حيوية الذاكرة ووضوحها بل إنّ المثيراتِ المحفِّزة تحسنُ الذاكرة فيما يخصُّ تفاصيلَ البيئة في بعض أنواعها...

خامساً: ذاكرة المزاج:

تُسّهل حالتُنا العاطفيةُ الحالية عمليةَ استعادتِنا للتجارب المشابهة عاطفياً. فعندما نكونُ في مزاجٍ سعيد نميل إلى استدعاء الأحداث السعيدة وبالعكس. وهذا لأنّ المزاجَ يُحفزُ كلَّ ما هو مرتبطٌ به في الدماغ. فعلى سبيل المثال، إنك تقوم باستدعاء تجاربِ الطفولةِ الايجابية عندما تكون في مزاجٍ جيد و كذلك فإن دماغَك يطلق العنانَ للتفكير في الأمور السلبيةِ عندما تكون في مزاجٍ سيء.

سادساً: النسيان المفاجئ:

يسببُ كل من التوتر والضغط عوزًا في الذاكرة تمامًا كما يحصل عند تقديمِك لامتحانٍ أو إجرائِك لمقابلة عملٍ، فقلقُك حيالَ أدائك قد يكون السببَ في إحرازك لنتيجةٍ سيئة و بشكلٍ عام فإن كلاًّ من القلق و الاضطراب يؤثران على الأداء الإدراكي بشكلٍ منحنٍ (المنحني النوني على شكل حرف U مقلوب) أو ما يُعرف باسم قانون (Yerkes-Dodson) وهذا يعني عندما تكون مستوياتُ الإثارة منخفضة جداً (الملل) أو عندما تكون مستويات الإثارة عالية جداً (الخوف أو القلق) فإن الأداء سيتأثر سلباً. وفي حالات الإثارة المنخفضة لن يقوم الدماغ بالتركيز. و على العكس ففي حالات الإثارة المرتفعة سيكون تركيز الانتباه ضيقًا إلى درجة تُسبب بفقد معلومات مهمة. إذاً فالإثارة المعتدلة هي الأفضل.

سابعاً: تجاهل المدة (قانون النهاية العُظمى):

فعمليةُ التذكرِ ليست حاصلاً لجمع كل لحظةٍ من لحظات الحدث وإنما نميل إلى تذكر أو تأكيد اللحظةِ (الأسوأ أو الأفضل) واللحظةِ الأخيرة ونتجاهل مدة التجربة وهذا ما يفسّر لماذا تُفسد النهايةَ السيئة عادةً كاملَ التجربة، فعلى سبيل المثال عندما تتذكر عطلة الصيف التي قضيتها في كندا فهناك الكثير من المعلومات لتُقيّم فيما إذا كانت رحلةً ممتعة ً لذلك تلجأ إلى تطبيق قاعدة النهاية العظمى وتُركّز على أفضل وأقرب لحظةٍ.

و أخيراً ...إن أكثرَ ما نتعلمُه يأخذ صيغةَ التعليم العاطفي. ولنجعل ذاكرتَنا أقوى يجب أن نضفي قيمةً عاطفيةً على الأشياء والأفعال التي نختبرها...

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا

4- هنا...