البيولوجيا والتطوّر > التطور

النياندرتال والإنسانُ الحديث

استمع على ساوندكلاود 🎧

يُعتبرُ إنسانُ النياندرتالُ الأقربَ إلى الإنسانِ الحديث، فكلاهما تطورَ عن نفسِ الأسلافِ المُشترَكينَ الذينَ عاشوا في إفريقيا منذ قُرابة 400-800 ألفَ عامٍ مضت، إلّا أنَّ إنسانَ النياندرتال تطوّرَ في أوروبا وآسيا الوسطى بعد أن غادرَ إفريقيا قبل 200 ألفِ عام؛ في حينِ أنَّ الإنسان الحديث لم يُغادر إفريقيا إلّا قبلَ 60-70 ألفَ عام، لكنّهُ انتشرَ بعدها بسرعةٍ في جميعِ القارَّاتِ وعايشَ إنسانَ النياندرتال لآلافِ السنين قبلَ انقراضه منذ 30-45 ألف عام. وقد وجدت الأبحاثُ الوراثيّة التي قارنت بينَ جينوم(1) الإنسانِ المُعاصرِ وجينوم النياندرتال احتواءَ المعلوماتِ الوراثيةِ للبشرِ المُعاصرين الذين ينحدرونَ من سُلالةِ الإنسانِ الحديثِ الذي هاجرَ من إفريقيا -وليس البشرَ المعاصرين الذين يعيشون جنوب الصحراء الإفريقية- على مناطقَ ذاتِ تشابهٍ غير عاديٍّ مع المعلوماتِ الوراثيةِ للنياندرتال، وتحتلُّ هذهِ المناطق ما بينَ 1-4% من الجينوم الكُليِّ بنِسَبٍ متفاوتةٍ من شخصٍ لآخر.

سعياً وراءَ معرفةٍ أكثر، قاد عالمُ البيولوجيا التطوريَّة فيليب خيتوفيتش (Philipp Khaitovich)، الذي يعملُ في معهدِ ماكس بلانك لعلمِ الإنسانِ التطوريِّ في ألمانيا وأيضاً في معهدِ CAS-MPG للبيولوجيا المُحوسَبةِ في الصين، فريقاً دولياً من الباحثينَ لينظروا في توزُّعِ مورثاتِ النيادرتال في جينوم البشرِ المُعاصرين، إذ حلّلوا توزُّعَ الـ DNA لـ11 عرقاً منَ البشرِ المعاصرينَ في كلٍّ من أوروبا وإفريقيا وشرق آسيا، وأظهرَ بحثُهم الذي نُشر في مجلَّةِ Nature امتلاكَ البشرِ المعاصرينَ الذينَ ينحدرونَ من أصلٍ أوروبيٍ أكثرَ من ثلاثة أضعافِ ما يملِكهُ باقي البشرِ من أليلاتٍ(2) للنياندرتال موجودةٍ في مناطقَ مسؤولةٍ عن هدمِ الليبيدات (الشحوم). تطورياً يُظهرُ ذلكَ أنَّ هذهِ الأليلات لعبتْ دوراً مهمًا في انتقاءٍ طبيعيٍ إيجابي لدى المنحدرينَ من أصلٍ أوروبيٍ فقط؛ فكانَ بمثابةِ مِيزةٍ ساعدتهم على البقاء؛ وبالتحري أكثرَ عن دورها، وَجَدَ الباحثونَ أنَّها أحدثت تغيُّراتٍ تطوريَّةً في تراكيزِ الشحومِ لدى أدمغةِ البشرِ من أصلٍ أوروبي، وقال خيتوفيتش مُعَلِّقَاً على ذلك: "إنَّها المرة الأولى التي نرى فيها اختلافاً في تراكيزِ الشحومِ بينَ الأعراق. لا نعلمُ ما الذي تحدثهُ هذه التغيراتُ في تراكيزِ الشحومِ في الدماغ، ولكنَّ حقيقةَ أنَّ أليلاتِ النياندرتال لربَّما غيَّرت من تركيبةِ أدمغتنا لحقيقةٌ مثيرة!".

في نفسِ السياقِ قامَ علماءٌ في قسمِ علومِ الجينوم في جامعةِ واشنطن بتحليلِ الجينوم لـ 379 أوروبيّ و286 شرق آسيويّ لتحرِّي بقايا DNA النياندرتال الموجودةِ لديهم، واستطاعوا تحديدَ مناطقَ موروثةٍ عن النياندرتال لدى البشرِ المعاصرينَ تُشكِّل امتداداً لقرابةِ 20% من جينوم النياندرتال ككلّ. فتحت طريقتهم هذهِ باباً جديداً لدراساتِ الجينوم، إذ أظهروا إمكانيّةَ الحصولِ على معلوماتٍ وراثيةٍ جوهريةٍ عن الجماعاتِ المنقرضةِ حتى في حالِ غيابِ البقايا الأُحفورية وذلكَ من خلالِ دراسةِ جينوم المجموعاتِ الأُخرى القريبة، وتقترحُ هذه الدراسةُ أنَّ احتواءَ مورّثاتِ البشرِ الحديثينَ (غير الأفارقة) على أليلاتِ النياندرتال سبَبُهُ التزاوجُ بينهما، وكونهما يعودانِ لنفسِ السلفِ المشترك. أما بالنسبة للأليلاتِ التي حدَّدُوها فقد وجدوا أنّ بعضاً منها مسؤولٌ عن بعضِ خصائصِ الجلدِ، وقد لعِبَ دوراً مهمًا في انتقاءٍ إيجابيٍّ لدى البشرِ ساعدَهم على التكيفِ مع البيئةِ الباردةِ في أوروبا.

وصدرَ أيضاً بحثٌ من كليَّةِ الطبِّ بجامعةِ هارفرد، بالتزامن مع البحوث السابقة، استقصى الأنماطَ المتنوعةَ لألِيلاتِ النياندرتال في 1004 منَ البشرِ المعاصرينَ الأوروبيينَ والشرقِ آسيويين. اقترحت نتائجُ الدراسةِ وجودَ مناطقَ غنيةٍ بألِيلاتِ النياندرتال تؤِّثرُ على تركيبِ ألياف الكيراتين(3) في الجلد مما ساعدَ البشرَ الحديثينَ على التكيُّفِ مع البيئةِ خارجَ القارةِ الإفريقية، كما وجدوا الكثيـر من الألِيلاتِ الموروثةِ من النياندرتال التي تزيدُ من خطرِ بعضِ الأمراض؛ كالذئبةِ والتشمّعِ الصفراويِّ وداءِ كرون والداءِ السّكريِ (النمط الثاني)، ومنها ما يؤثِّرُ حتّى في سلوكِ التدخين!

أما النَّتيجة الأغرب فقد كانت مُلاحظتهم لتراجعِ المادةِ الوراثيةِ للنياندرتال في بعضِ مناطق الجينوم لدى الإنسانِ الحديث، مما يدلُّ على سعيِ الانتقاءِ الطبيعيِّ لحذفِها، وقد وجدوا أنَّ مِنها ما هو ذو تعبيرٍ وراثيٍّ ذو تأثيرٍ شديدٍ جداً في أنسجةِ الخِصيتينِ على وجهِ الخصوص، كما لُوحِظَ التَّراجعُ أيضاً على الصبغيّ X بمعدلِّ خمسةِ أضعافٍ في مَنَاطقَ مُرتبطةٍ على وجهِ الخصوصِ بإحداثِ العقمِ لدى الذكور الهجناء، ممّا يدلُّ على أنَّ هذا التراجعَ حدثَ نتيجةً لقلَّةِ خصوبةِ ذكورِ الإنسانِ الحديثِ الذينَ حَملوا هذهِ الألِيلات عن النياندرتال.

الهوامش:

(1) الجينوم: هو المجموعة الكاملة من الـDNA للكائنِ الحيّ، متضمِّنةً كُلَّ مورّثاته (جيناته)، ويحتوي جينوم كلِّ كائنِ حيٍّ على كلِّ المعلوماتِ اللّازمةِ لتشكُّله وبقائِه.

(2) أليلات: جمع ألِيل: والأليل هو أحد أشكالِ المورِّثة (الجين). فلكلِّ منطقةٍ وراثية /مورثة/جين مسؤولةٌ عن التعبيرِ عن صفةٍ ما أليلاتٌ حاملةٌ لهذه الصفة، فمثلاً يرثُ كلُّ إنسانٍ أليلين لكلّ مورثة جسميةٍ إحداهما من الأب والآخر من الأم.

(3) الكيراتين: بروتين ليفيّ يوجدُ في الشعرِ والأظافرِ وطبقاتِ الجلدِ الخارجيّةِ، وله دورٌ في الحمايةِ من المؤثراتِ الخارجية وتشكيلِ قَوامِ الجلد.

المصدر: هنا

الورقة البحثية: هنا