البيولوجيا والتطوّر > علم المورثات والوراثة

معدلات أعلى لحدوث السرطان لدى الرجال؟│آليات وتفسير

استمع على ساوندكلاود 🎧

حسب أحدث الإحصائيات التي تخصُّ نسبة كبيرة من أنواع السرطان فإنَّه من الواضح أنَّ معدلاتِ إصابة الرجال بالسرطان أعلى مما هي عليه عند النساء، وعلى الرغم من أنَّ الفارقَ صغيرٌ جداً بين الجنسين في بعض الحالات إلّا أنَّه في حالات معينة يكون معدّلُ إصابة الرجال ضعفين أو ثلاثةَ أضعافِ نسبة إصابة الإناث (يتضمّن ذلك احتمالَ إصابةٍ أعلى بما يقارب 80% عند الذكور في بعض أنواع السرطان) كما وجد الدكتور Andrew Lane المعدُّ المساعدُ لهذه الدراسة مع الدكتور Gad Getz من Broad Institute ومشفى ماساشوستس العام. وتشير الأرقام الموجودة في السجل المحلّي للسرطان إلى أنَّ الرجالَ يحملون فرصةً أكبرَ بمقدار 20% من النساء لتطوير سرطانٍ ما لديهم، أي ما يُقدّر ب 150000 حالةٍ جديدة تُضاف إلى السجل من الرجال المصابين بالسرطان كلّ عام.

وسعياً لإيجاد التفسير الكامن وراء هذه النتيجة، أجرى العلماء في جامعة بوسطن بالإضافة إلى باحثين في معهد Dana Farber للسرطان دراسةً تهدف لمعرفة السبب الوراثي في كون السرطان أكثرَ شيوعاً عند الرجال، ولكن هل توجد تفسيراتٌ سابقة من دراسات أخرى لهذه النتائج؟

على الرغم من ضخامة هذه الثغرة إلا أنَّ معرفةَ السببِ وراء ذلك أمرٌ صعبٌ وكان من المعتاد أن يُفسَّرَ ذلك بأنَّ الرجالَ يميلون إلى التدخين بشراهة وبنسبٍ أكبرَ من نسب تدخين النساء كما أنَّ الرجالَ يتعرّضون لمخاطر الكيماويات الموجودة في بيئة العمل حولهم بنسبةٍ أكبر، إلا أنّ هذا التفسيرَ لم يكن ملائماً، لأنَّ معدلاتِ التدخين حول العالم انخفضت كما وُضِعَت قوانينُ جديدةٌ فيما يخصُّ أوساط العمل والحفاظ على سلامتها ضمن شروط صارمة. وبالرغم من كلّ ذلك ما زال الرجال يُسجّلون معدلاتِ حدوث أكبر من النساء بأنواع عديدة من السرطانات مثل السرطانات المرتبطة باستهلاك التبغ كسرطانات الكلية والمثانة وبعض السرطانات الفموية. وهذا التباينُ في نسبة حدوث السرطان موجودٌ أيضاً بين الفتية والفتيات بعمر مبكر كما هو بين الرجال والنساء.

ما النتائجُ التي أثبتتها دراساتٌ سابقة فيما يخصُّ هذه الموضوع؟

بيَّن بحثٌ سابقٌ -نُشر في جريدة -the New England Journal of medicine أُجري على أحد أشكال سرطانات الدم (وهو اللوكيميا) أنَّ الخلايا السرطانيةَ تحملُ طفرةً في إحدى المورثات الخاصّة بها وهذه المورثة تُسمَّى KDM6A وتقع على الصبغي X -وهو أحد الصبغيات الجنسية التي تحدد جنس الفرد ذكراً أم أنثى- (وللتذكير فإنَّ خلايا الأنثى تحمل نسختين من الصبغي X في حين أن خلايا الذكور تحمل نسخةً واحدةً من الصبغي X بالإضافة إلى صبغي Y أصغر وأقصر من الصبغي (X. إذا كانت مورثةُ KDM6A مورثةً كابحةً للورم -أي تمنعُ عمليةَ انقسام الخلية من الخروج عن السيطرة- فإنَّ الطفرةَ التي تطرأ عليها قد تؤدي إلى حدوث سرطان ما بوساطة تعطيل نظام الكبح والحماية.

ومما سبق قد يتوقّع البعضُ أنَّ خلايا الأنثى أكثرُ عرضةً لحدوث الطفرات، ولكن من أجل فهمٍ أكثرَ عمقاً للموضوع، يجب أن نعرفَ أنَّه في أثناء عملية التطوّر الجنيني يُثبَّطُ أحد الصبغيين X في خلايا الأنثى وتبقى هذه النسخة المعطلة دون عملٍ لبقية حياتها، أي إنَّ المورثاتِ الموجودةَ على هذا الصبغي لا تعبّر عن نفسها ولا تؤدّي أيّ وظيفة. إنَّ حدوث أي طفرة على مورثة KDM6A على الصبغي X النشط غير المعطّل سيؤدي إلى دمارِ عملية انقسام الخلايا واضطرابها كما يحدث في خلايا الذكر، وعلى خلاف المتوقع فقد اكتُشف وجودُ الطفراتِ التي تطرأ على المورثة KDM6A بوتيرة أكبر في السرطانات المتعلقة بالذكور.

لقد تبيّن من خلال الدراسات أنَّ بعضَ المورثات على الصبغي X المعطّل في خلايا الأنثى تتمكن من الهروب وتخطي حالة التعطيل التي تطرأ على أحد الصبغيين X، وبالتالي تؤدي وظائفَها بصورةٍ طبيعيةٍ أي إنَّ الصبغي X ككل معطّلٌ إلا أنَّ أجزاءً منه ما زالت قادرةً على العمل، وقد تبين أنَّ إحدى هذه المورثات التي تمكّنت من تخطي عملية التعطيل تعملُ كنسخة فعّالة وظيفياً من KDM6A، كما أنَّ النسخةَ الجيدةَ من المورثة تعملُ كفايةً من أجل منع تحوّل الخلية الطبيعية إلى خلية سرطانية.

ماذا وجد الباحثون في الدراسة الجديدة؟

بحثت الدراسة الجديدة فيما إذا كانت تلك الظاهرة (المورثات الكابحة للورم التي تعمل وظيفياً والواقعة على صبغي X معطّل أو خامل) تُخفي التفسيرَ الأوسعَ والأشملَ لتفسير الميل الذكوري للإصابة بالسرطان. وقد أطلق العلماءُ الاختصارَ EXITS على كابحاتِ الورم الهاربة من عملية تعطيل الصبغي X (escape from X-inactivation tumor-suppressor) وبناءً على هذا البحث فإنَّ إحدى التفسيرات التي توضّح سببَ كون السرطان أكثر شيوعاً عند الذكور هو أنَّ خلايا الذكر تحتاج إلى حدوثِ طفرةٍ ضارّة على نسخة واحدةٍ من مورثات EXITS حتى تتحولَ الخليةُ إلى خليةٍ سرطانية، في حين أنَّ خلايا الأنثى على العكس من ذلك تحتاجُ إلى حدوث الطفرة على كلا النُسختين من المورثات وذلك أقلُّ حدوثاً بالطبع من الناحية الاحتمالية.

كيف أُجريَت الدراسة؟

من أجل اختبار هذه الفرضية قام الباحثون في Broad Institute بمسح الجينوم الخاص بأكثر من 4000 عينةٍ سرطانيةٍ تمثلُ أكثرَ من 21 نوعاً من السرطان، باحثين عن مختلفِ أنواع التغيرات غير الطبيعية أو غير المألوفة مثل الطفرات. بعد ذلك قاموا بالإحصاء والتأكد فيما إذا كانت هذه التغيرات أكثر شيوعاً في خلايا الذكور أم خلايا الإناث.

كانت النتائج لافتةٌ للنظر، فمن ضمن حوالي 800 مورثةٍ وُجدت مفردةً على الصبغي X، فإنَّ ستاً منها كانت طافرةً بتكرر أكثر عند الذكور، وفي أكثر من 18000 مورثةٍ أخرى لم يظهر أي شيء يُبرز عدمَ التوازن بين الجنسين في معدّلات حدوث الطفرات. ومن بين المورثات الست التي كان من المُرجَّح أن تطرأ عليها الطفراتُ عند الذكور، كانت خمسٌ منها قادرةً على الهروب من عملية تعطيل الصبغي X ما جعل منها مورثاتٍ مُرشحةً لأن تكون مورثاتِ EXIST.

إنَّ حقيقةَ أنَّ أغلبَ المورثاتِ التي طرأت عليها معظم الطفرات لدى الذكور توجد حصرياً على الصبغي X والعديدُ منها معروفٌ بكونه من الكابحات الورمية التي تمكنت من الهروب من عملية تعطيل الصبغي X هي دليلٌ قطعيٌّ على النظرية التي يقترحها الباحثون، وإنَّ الحمايةَ والوقايةَ اللتين توفرهما النسخُ العاملةُ من هذه المورثات في خلايا الأنثى قد تساعدُ في تقديم تفسيرٍ جيدٍ لنسبة حدوث السرطانات المنخفضة لنسبة كبيرة من بين النساء والفتيات.

إحدى التطبيقات الهامة لهذه النتائج هي أنَّ العديدَ من السرطانات قد تنشأ بوساطة طرقٍ جزيئية مختلفة عند الرجال والنساء. ومن أجل التحايل على آليات الحماية الوراثية المضافة عند الإناث، قد تستعمل الأورامُ عند النساء داراتٍ ومساراتٍ وراثيةً بديلةً تختلفُ عن المساراتِ التي تُسلَك عند الرجال.

كيف يُمكننا أن نلخِّصَ ما حصلنا عليه؟

لقد تبيَّن من خلال الدراسة أنَّ النساءَ يحملن نسخةً إضافيةً من مورثاتٍ معيّنةً تؤدّي دوراً وقائياً ضد الإصابة بالسرطان، أي إنَّها بمثابة خط دفاع إضافي أمام نمو الخلايا وانقسامها بشكل غير قابل للسيطرة، وعلى الرغم من أنَّ هذه الميزةَ لا تُعدُّ بمفردها مسؤولةً عن وجود ميل ذكوري للإصابة بالسرطان، فإنَّ النسخَ المُضاعفةَ على الأرجح تقدِّم تفسيراً لوجود عدم التوازن في الإصابة ما بين الجنسين.

ومن أجل الحصول على نتائجَ أكثرَ دقّةً في المستقبل يقترح المعدّون لهذه الدراسة أن تكونَ الأبحاثُ السريريةُ المستقبليةُ الخاصةُ بالعلاجات السرطانية أكثرَ قوةً من الناحية الإحصائية أي إنَّ ذلك يجب أن يتضمنَ عدداً كافياً من المرضى، بالإضافة إلى أخذ عيناتٍ من النسج المُصابة بالسرطان لكي نصلَ إلى فهم أشملَ فيما إذا كانت استجابةُ الرجال للعلاج الخاص بالسرطان تختلف عن استجابة النساء نتيجةَ وجود اختلافاتٍ وراثيةٍ ضمن الأورام التي تصيب كلّاً من الجنسين.

تبقى هذه النتائجُ أوليةً ولا تشمَل كلَّ أنواع السرطان، ولكنَّها قد تكون مفيدةً لتصميم أبحاثٍ علاجيةٍ أكثرَ فائدة في المستقبل.

المصادر:

هنا

هنا