البيولوجيا والتطوّر > علم المورثات والوراثة

"أطلسُ الخليّةِ البشريّة"... مبادرةٌ دوليةٌ جديدة لمشروعٍ هوَ الأولُ من نوعِه

قد يعيدُنا هذا الخبر إلى العام 2001 عندما تمَّ الإعلانُ عن اكتمالِ مشروعِ الجينوم البشريّ، الذي من خلالهِ تمت فهرسةُ التسلسلِ النكليوتيدي الكامل للـ DNAالبشري وتحديدُه. لم يكن هذا الإنجازُ ممكناً دونَ تضافرٍ دوليٍّ استمرَّ على مدى ثلاثةَ عشر عاماً قبلَ الإعلانِ عن اكتمالِ المشروع. واليوم هناك مبادرةٌ دوليةٌ جديدة وطموحٌ كبير لتنفيذِ مشروعِ لا يقلُّ أهميةً عن مشروعِ الجينومِ البشريّ إلا أنه يُعتبرُ الأولُ من نوعِه، فالهدفُ هذه المرة هو رسمُ خارطةٍ تصفُ جميعَ أنواعِ الخلايا البشرية وخصائصها الموجودة في جميع الأنسجةِ والأعضاءِ، إذ يمكن اعتبارُها بمثابةِ خارطةٍ مرجعيّةٍ لجسمِ الإنسانِ بحالتهِ الصحيّة.

"أطلسُ الخليةِ البشرية" هو الاسمُ الذي حملهُ المشروعُ الجديدُ الذي تمَّ الإعلانُ عنهُ في الاجتماعِ الدوليِّ الذي عُقد في مدينة لندن (13-14 من شهر تشرين الأوّل 2016) بقيادةِ كلٍّ من معهدِ برود ماساشوستس للعلومِ والتكنولوجيا وجامعةِ هارفرد (Broad Institute of MIT and Harvard) معهد ويلكم تراست سينجر (Wellcome Trust SangerInstitute) وويلكم تراست (Wellcome Trust). إذ دُعيَت لهذا الاجتماع مجموعةٌ كبيرةٌ من الخبراءِ والباحثينَ الدوليين بغيةَ تحديدِ العناصرِ الرئيسيّة التي سيشتملُ عليها الطَّورُ الأولُ لمبادرةِ أطلسِ الخليةِ البشرية.

يتكونُ جسمُ الإنسان، كما هو معروفٌ، من ترليونات وحدات بناءٍ حية تُعرَفُ بالخليَّة، التي تُعتبر جوهرُ الحياةِ على هذه الأرض. تـُحدَّدُ بنيةُ هذه الخلايا ووظيفتُها خلال عمليةِ التطورِ الجنيني، إذ تخضعُ هذهِ الخلايا لعمليةِ انقسام ونموٍّ مستمرٍّ فتسلك مساراتٍ محددةٍ تنتهي بتمايُزِها لأنواعٍ خلويّةٍ مختلفة (كأن تصبح خلايا جلدٍ أو أعصاب أو خلايا دهنية)، يؤدّي اجتماعُ الخلايا المتشابهة أو المُتسقة مع بعضها البعض لتشكيلِ ما يُعرف بالأنسجة. وبدوره يؤدي اجتماعُ الأنسجةِ المتنوعةِ مع بعضها البعض لتشكيلِ الأعضاءِ كالرئةِ والدماغ وغيرها من الأعضاءِ المكونة للجسم.

جُلَّ معرفتِنا السابقة عن الخلايا أتت عبرَ النظرِ إليها وملاحظتها تحت المجهرِ أو من خلال بعض التقنيات التي تُستخدمُ اليومَ التي تعتمد في إجراءِ تحليلٍ مُعيَّنٍ على أخذِ مجموعةٍ من الخلايا (مئات أو آلاف الخلايا) وإخضاعِها للاختبارِ ومن ثمَّ إيجادِ الخصائصِ العامة (متوسط الخصائص) التي تصفُ مجموعَ الخلايا ككُل. إلا أنه لكي نرى الصورةَ الحقيقة لنوعٍ خلويٍّ محددٍ ونعرف الخصائصَ التي ينفردُ بها، فمنَ الضروريِّ أولاً العملُ على فصلِ هذه الخلايا كلاً على حِدة ومن ثمَّ العملُ على إيجادِ الجزيئات التي تنتَجُ وتحديدها في كلِّ خليةٍبشكل منفرد. وتشملُ الجزيئاتُ المُستهدَفةُ هنا على مجموعاتٍ من رسائلِ الـRNA،ما يعرف "بالترانسكربتوم"(Transcriptome)، وهي خريطةُ منظومةِ التفاعلات الوراثية، التي تساعدُ في إعطاءِ كلِّ خلية بصمةً خاصة تميّزُها عن العديدِ من الأنواعِ الخَلَويَّةِ الأُخرى المتواجدة في الجسم.

تقولُ الدكتورة سارة تايكمان (Sarah Teichmann) رئيسةُ قسمِ علمِ الوراثةِ الخَلَويةِ في معهدِ ويلكم تراست سينجر أنَّ"الخلية هي المفتاحُ الأول لفهمِ بيولوجيا الصحةِ والمرض، لكنلا يزال فهمنا محدوداً عن الكيفيةِ التي تختلفُ فيها الخلايا في كلّ عضوٍ، أو حتّى فيما يتعلقُ بعددِ الأنواعِ الخَلَويةِ الموجودةِ في الجسم"، مضيفًة أنَّ "مبادرةَ أطلسِ الخليةِ البشرية بدايةٌ لعصرٍ جديدٍيقودُنا لفهمِ الخلية بشكلٍ أعمقَ، فمن خلال هذا المشروع سنتمكن من اكتشافِ أنواع خلوية جديدة،وكيفيّة تغيّر الخلايـا عبرَ الوقتِ خلالَ عمليةِ التطوّرِ أو في حالِ المرض، وبالتالي سيكونُ كفيلاً بأن يُكسبَنا فهمًا أفضلَ ليسَ للخليةِ فحسب بل للبيولوجيا بحدِّ ذاتِها."

ما الذي يمكنُ أن يُمثِّلَهُ أطلسُ الخليةِ البشرية؟

سيشكلُ أطلسُ الخلية البشرية مصدراً قيّماً يُمكِّنُ المجتمعَ البحثيّ العالمي من دراسةِ التغيراتِ البيولوجية التي تصحَبُ الأمراضَ المختلفة بصورةٍ منهجية لم يسبُق لها مثيل. إذ سيكونُ بالإمكانِ معرفةِ مكانِ الجينات الفعالةِ المرتبطة بحدوثِ مرضٍ معين وتتبعها، وتحليلِ الآليات الجزيئيّة التي تتحكمُ في إنتاجِ أنواعٍ مختلفةٍ من الخلايا ونشاطها، إضافةً إلى أنه، ومن خلالِ إعادة الفرزِ والتصنيف لجميع خلايا الجسم، سيكونُ بالإمكانِ أيضاً معرفةُ الكيفية التي تجتمع فيها الخلايا المختلفة والطريقةُ التي تعملُ بها مع بعضها البعض لتشكيل الأنسجة المتنوّعة في جسمنا.

وبشكلٍ أكثرَ تحديداً يمكنُ لأطلسِ الخلية البشرية أن يؤمِّنَ:

- فهرسةُ جميع أنواعِ الخلايا (على سبيل المثال، الخلايا المناعية، وخلايا الدماغ) والأنواعِ الفرعية المتواجدة في جسمِ الإنسان.

- رسمُ خرائطَ تفصيلية تحددُ نوعَ كلّ خلية وموقعَها داخلَ الأنسجة والجسم بشكل عام.

- التمييز بين الحالات التي يمكن أن تكونَ عليها الخلية (على سبيل المثال، الخلايا المناعيّة غير المفعّلة (الأولية) التي لم تواجه حتى الآن عاملًا ممرضًامقارنةً مع نفسِ نوعِ الخلايا المناعية بعد تفعيلِها خلالَ مواجهةِ عاملٍ ممرضٍ (بكتيريا مثلًا).

- كشفُ الخصائصِ الرئيسيةِ للخلايا خلالَ عملياتِ التحول الخلوي كعملية التفعيلِ أو التمايز (على سبيل المثال، من الخلايا الجذعية).

- تتبعُ تاريخ الخلايا من خلالِ السلائف (المصادر التي تنشأُ منها خلايا الجسم)، مثل تتبع الخلايا الجذعية السليفة من نشأتها في نخاعِ العظم حتى تصبحَ خليةَ دمٍ حمراءَ وظيفيّة.

قبل بضع سنوات فقط، كان قياسُ هذه المعلوماتِ المعقدةِ والكثيفة ضرباً من المستحيل، لكن بفضلِ التقدم التكنولوجي الحديث في مجال جينوميا/جينوم الخلية الواحدة (Single-Cell Genomics) أصبحَ فصلُ الخلايا بشكل فرديٍّ من الأنسجةٍ والأعضاء المختلفة وقياس الترانسكربتوم أو غيرهٍ من الجزيئات المهمّة لكل خلية على حدة أمرًا ممكنًا اليوم.

يقول الدكتور ميكل دَن (Michael Dunn) رئيسُ قسمِ المورثات والعلومِ الجزيئية في معهدِ ويلكم:"نحن نملك الآن القدرات التكنولوجية لتنفيذِ البحثِ العلميّ على نطاقٍ عالميٍّ واسعٍ لم يسبق له مثيلٌ، مما يجعلٌ تنفيذ مشروعِ أطلس الخلية البشرية أمرًا في متناولِ الأيدي". إلا أنه بالرغم من ذلك لا يُعتبرُ بناءُ أطلس الخلية البشرية بذاك الأمرِ اليسير، إذ يتطلَّب الأمرُ تعاونًا بين مؤسسات المجتمع العلمي الدولي وتنسيقًا يتمثَّلُ باستقطاب خبراتٍ من المجالات والحقول العلميةِ كالبيولوجيا والطب، وعلم الجينوم، والتطويرِ التكنولوجي، والحوسبة (بما في ذلك تحليل البيانات وهندسة البرمجيات، والتصور/ التجسيد).

سيكونُ أطلسُ الخليّةِ البشرية متاحاً بحريّةٍ للباحثين من جميعِ أنحاء العالم لدى اكتمالِ المشروع، إذ يأملُ العلماءُ من خلال ذلك أن يلعبَ هذا الأطلس دوراً كبيراً في إحداثِ تحوُّلٍ في مجالِ الأبحاثِ العلميةِ ينتجُ عنهُ فهمٌ أوسع لعملية التطور البشري وأيضاً للآلية التي تتفاقمُ من خلالها الأمراضُ، كما في أمراضِ الربو والزهايمر والسرطان. كما يتوقعُ الباحثون أنه في المستقبل لن يقتصرَ دورُ أطلسِ الخلية البشرية على ذلك وحسب، بل يمكنُ أن يكونَ له دورٌ كبيرٌ أيضاً في إيجادِ أدواتٍ تشخصيةٍ جديدة وبالتالي اكتشافُ علاجاتٍ جديدة.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا