الفيزياء والفلك > مقالات بقلم فيزيائيين وفلكيين معاصرين

التأثر الشبحي عن بُعد

استمع على ساوندكلاود 🎧

كيف نشأ الكَون وكيف تشكّل؟ سؤالٌ طرحَ نفسُه على مدى عقود، وفي كل عقدٍ يطرحُ أحدُهم جواباً ما لهذا السؤال. تقول إحدى الأساطير الهِنديّة القديمة، أنّ الكَون تكَوّن عندما طردت الآلهةُ العِملاقَ بوروسا Purusa. فيما بعد أصبح رأس بوروسا السّماء وقدميه الأرض ونفَسَه الرّياح.

أمّا أرسطو فقد كان يعتقدُ بأنّ الكَون عبارة عن خمسة وخمسين كُرةٍ بلوريّةٍ متّحدة المركز. الكُرة العُليا هي السماء، والكُرات السّفلى هي الكواكب، في حين خصّص سبعة كراتٍ تحت الكواكب لتمثّل الجّحيم.

في حين أنّ الفيزيائيّ الإنكليزي إسحاق نيوتُن Isaac Newton استطاع بمُعادلاته الرّياضيّة التي تصف الحركة بشكلٍ دقيق وقطعي، تغيير وجهة نظرنا للكَون. فالكَون كَما أظهره نيوتُن يعملُ تبعًا لساعةٍ كونيّة موحّدة تدقّ بشكلٍ مُنتظم، وبالتالي يمكننا توقّع ما سيحُصل عند الدَّقة التّالية.

لم يمر وقتٌ طويل حتى ظهر الفيزيائي الألماني ألبرت أينشتاين بنظريّتيه النّسبيّة العامة والخاصّة. في الواقع، النّسبيّة العامة والنّسبيّة الخاصّة سلّطتا الضّوء على نقاط مُهمّة في تشبيه نيوتُن للكون بأنه يعمل تبعًا لساعة كونية واحدة. فقد وجد أينشتاين أنّه لا يوجد وقتٌ كَونيٌّ مُحدّد؛ لا يوجد إجماعٌ على تَوصيف لحظةٍ ما، أو حتى توصيف الآن!

وبالرّغم من ذلك، فإنه يمكننا سردُ قصّة الكون بتسلسلٍ زمنيٍّ مُحدّد. لكن السّاعة في هذه الحالة هي ساعتك أنت، والقصّة هي قصّتك أنت!

فالكَون يتابع سيره بانتظام كَما رأى نيوتُن بالفعل، فإذا تَمكّنّا بطريقةٍ ما من معرِفة حالة الكَون في هذه اللّحظة (أي معرفة مكان كل جُزيئة وسُرعة تحرّكِها واتّجاه حَركتها) عندها سنتمكن من معرفة ما سيحصل في الزمن القادم وما حصل في الزمن المُنصرم بحتميّة؛ وهذا ما اتفق عليه أينشتاين ونيوتُن.

الدّخول إلى عالم الكَم الغريب!

إن مِيكانيك الكَم يَتضارب مع الحتميّة الّتي تحدثنا عنها، فمن المُستحيل معرفةُ موقِع وسرعة جزيءٍ وحيدٍ بدقّة؛ ومن المُستحيل التّنبؤ بصِحَة نتائِجِ أبسَط التّجارب، فما بالك بدراسة تطوّر الكَون؟

إنّ أفضلُ ما يُمكِنُنا فِعلُه في مِيكانيك الكَم هو التّنبؤ باحتماليّة نتائِج تجربةٍ ما. وعلى الرّغم من هذا، فإنّ مِيكانيك الكَم صمد لعقودٍ طويلةٍ في وجه كل التّجارب بنتائجٍ دقيقة، الأمر الذي يجعلُ توصيف نيوتُن للكَون على أنّه يتبع ساعة كونيّة واحدة، توصيفًا خاطئًا حتّى مع تحديث آينشتاين.

وعلى الرّغم من أن نظرتيّ نيوتُن وأينشتاين لطبيعة الزّمان والمكان تختلفان عن بعضِهما البعض بشكلٍ كبير، إلا أنّهُما تتّفقان في بعض الحقائق الأساسيّة التي يبدو لنا أنها تُثبِت نفْسَها بنفْسِها.

كيف نفكّر بالفضاء؟

لنتخيل طائرين، أحدهما على يمينك والآخر على يسارك، في الواقع يُمكننا اعتبار هذين الطّائرين جسمين مُنفصلين. والفضاء هو مجرّد وسط يفصل الأجسام البعيدة عن بعضها البعض؛ هذه هي وظيفة الفضاء!

تُعتبرُ الأجسام التي تحتلّ مَواقع مُختلفةً من الفضاء أجسامًا مُنفصلة. ولكي يؤثّر أحد الجِسمين على الآخر، لابدّ له أن يعبر الفَضاء الفاصِل بينَهُما، كأن يطير أحد الطّائرين عبر هذا الفضاء إلى الآخر ويقوم بِنقره.

وإذا تخيّلنا شخصين يريد أحدهم أن يضرب الآخر بحجرٍ، فعليه أن يرمي الحجر عبر الفضاء ِليُصيبَ الشّخص الثّاني، أو أن يصرُخ ليهُزَّ ذرّات الهواء التي تعبر الفضاء الفاصل بين الشّخصين الى أن يَهزّ الغشاء الطّبليّ في أُذن الشّخص الآخر. يُمكِنُنا أيضاً إحداثُ تأثيراتٍ بطرقٍ أكثر تعقيداً، كإرسال موجةٍ كهرومغناطيسيّة لتعبر الفضاء على شكل ضوءٍ ليزري، أو بشكلٍ طموحٍ أكثر، يمكن أن نقوم بتحريك جسمٍ عملاقٍ (كالقمر مثلاً) بِخلقِ موجة اضطرابٍ ثقاليّ تنتقل من مكانٍ إلى آخر.

في النهاية إذا كنا نقف في مكانٍ مُعيَّنٍ وأردنا التأثير على أحدٍ ما في مكانٍ آخر فلا بُدّ من عبور شيءٍ ما في الفضاء حتى يصل التّأثير، بغضّ النّظر عن طبيعة وشكل هذا التّأثير.

حقيقة فودو:

يعتبر الفيزيائيون الكون ذو سِمةٍ "محليّة"، بمعنى أنّه يمكن التأثير على الأشياء الموجودة بجانبك فقط، أي الأشياء المحليّة. على خلاف مُعتقدِ الفودو (الشعوذة)، الّذي لا يؤمن مُعتنقوه بخاصيّة المحليّة، إذ أنّه يُمكن القيام بفعلٍ ما هُنا، والتأثير على شخصٍ أو شيءٍ بعيد دون الحاجة إلى السّفر.

ومع أنّ مُعظم التّجارب تُثبت خاصيّة المحليّة، إلا أنّ مجموعةً مِن التّجارب الّتي أجريت خلال العقود الماضية، أظهرت لنا أنّنا إذا قُمنا بشيءٍ ما هُنا (مثل قياس خصائص جُسيمٍ ما هُنا)، فإنّ هذا كفيلٌ بالتأثيرِ على شيءٍ ما حصل هُناك (كنتيجة قياس خصائص جُسيمة ما هُناك) دون الحاجة إلى إرسال أي بينهما.

فقد سمحت قوانين ميكانيك الكم بنشوء رابط بين جُسيمين مهما كانت المَسافة بينهما، حتى لو لم يكن هناك اتصال فيزيائي مباشر بينهما. يسمح هذا الرابط بنقل التأثير الذي يحصل على أحد الجسيمين إلى الجسيم الآخر بشكلٍ مباشر. نقول عن الجسيمين أو الذرتين في هذه الحالة أنهما "متشابكان كميًّا" لذلك تدعى هذه الحالة بالـ "التشابك Entanglement.

كان الفيزيائي أينشتاين من أوائل الفيزيائيين الذين أبدوا إعجابهم بظاهرة التّشابك الكَمّي ومن ثم انتقده، وسخر منه واصفًا إياه بالتأثير الشبحي. فالأمر أشبه بالشعوذة، كيف لجسم ما أن يؤثر على جسمٍ آخر بعيد من دون المرور بالفضاء الفاصل بينهما؟

لكن هذه "التّشابكات" التي أثبتت نظريّة الكَم وجودها حساسةٌ للغاية وهي خارج قُدرتنا على التُّحكُم بها.

لابد للتّوأم أن يلتقيا:

إن النّتائج التي حصلنا عليها من الاختبارات النظريّة والتجريبيّة، تدعم بقوّة فكرة وجود ارتباطاتٍ لّا محليّة في الكون. فشيءٌ ما حصل هُنا يُمكنه التأثير على شيءٍ ما حصل هُناك، حتّى لو لم ينتقل أي شيءٍ بينهما، وحتّى لو لم يكن هُناك الوقتٌ الكافٍ لأي شيء، حتى الضوء، للانتقال من مكانٍ لمكانٍ آخر.

هذا يعني أن الفضاء ليس كما اعتقدنا سابقاً!

الفضاء لا يضمنُ لنا انفصال الأشياء عن بعضها، وقد أثبت التّشابك الكُمومي هذا في تجارب عديدة، إذ أنّ الوصلة الكَميّة بين جسمين مُنفصلين يُمكن أن تستمر بالوجود حتى لو كان أحد الجسمين على طرف الكَون الأيمن، والجسيم الآخر على طرف الكون الأيسر. وسيتصرّف الجسيمان كما لو كانا فوقَ بعضِهما البعض.

واجهت الفيزياء الحديثة صدماتٍ عديدة ، والعديد من هذه الصّدامات تم إثباتُها تجريبيّاً، لكن صدمتنا باكتشاف أنّ عالَمنا ليس محليّاً هي الأعنف!

المصدر: هنا