الطب > موسوعة الأمراض الشائعة

ما التأثيرات طويلة الأمد للشرب المزمن والمكثف للكحول على الدماغ؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

ا تزال الآليةُ التي يؤثر بها الكحولُ على الدماغِ وإمكانيةُ عكسِ تأثيراتِ التناولِ المفرِطِ للكحول عليه من المواضيعِ الساخنةِ في أبحاثِ الكحولِ حتى اليوم. نعلم أنّ الشربَ المكثّفَ قد يؤدي إلى آثارٍ كبيرةٍ على الدماغِ، تمتدّ من النسيان البسيطِ إلى الحالاتِ الدائمةِ المسبِّبةِ للعجز، التي تتطلب العنايةَ والرعايةَ مدى الحياة.

تقول إيديث سوليفان Edith Sullivan، أستاذة الطب النفسي وعلم النفس السلوكي في جامعة ستانفورد التي درست تأثيرات الكحول على مدى سنوات: "كلما تقدمنا بالسنِّ خسرنا بعضاً من المادّةِ الرماديّةِ وتكاملِ المادةِ البيضاءِ في المخ، ولكن هذه المناطقَ تتأثر لدى الكحوليين بشكل أسرع، ويبدو ذلك كتسارعٍ في عملية الشيخوخة".

ماذا بيّنت الصور الشعاعية والفحوص الطبية في هذا السياق؟

تُظهر الدراساتُ بالصور الشعاعيةِ أنّ الأذى الناتجَ عنِ الاستهلاكِ المفرطِ طويلِ الأمدِ للكحولِ يصيبُ كاملَ الدماغِ، إلا أنه يكون أعظمياً في منطقة الفَصِّ الجبهيِّ (الأماميfrontal lobe) للمخ الذي يتحكم بالوظيفة التنفيذية، والتي تتضمنُ التخطيطَ والتحكمَ بالدوافعِ وتعديلِ السلوكِ. تقول كاثرين فورتيير، أستاذة مساعدة في كلية الطب بجامعة هارفرد والباحثة في نظام الرعاية الصحية ببوسطن، والتي أجرت العديد من الدراسات الشعاعية: " قد يكونُ الجزءُ من دماغكِ الذي تحتاجه لتعديلِ تناولِكَ للكحولِ الأكثرَ تأثراً بشربِ الكحولِ".

استطاعت فورتيير وفريقُها باستعمالِ الرنينِ المغناطيسي عالي الدقةِ رؤيةَ نقصٍ في سُبُلِ المادةِ البيضاءِ لدى الكحوليين متوسطيّ السنِّ المتعافينَ بالمقارنةِ مع غيرِ الكحوليين. ازدادَ الأذى بزيادةِ التعرضِّ للكحولِ. من وظيفةِ تلك السبلِ دعمُ التخطيطِ وإصدارِ الأحكامِ أو القراراتِ والانضباطِ والمنطقِ. تأثرت كذلكَ المادةُ الرماديةُ سلباً مما أدى للتأثيرِ على التخطيطِ وتقييمِ الأولوياتِ والدوافعِ والذاكرةِ.

بينما لا يزال من غيرِ الواضحِ ما إذا كان التناولُ الشديدُ للكحول يسبب الاكتئابَ أيضاً أو بالعكس، يقول الخبراءُ أن هناك حلقةً معيبةً واضحةً، إذ يقول الدكتور George Koob مديرُ المؤسسةِ الوطنيةِ الأمريكيةِ لإساءةِ استخدام الكحول وإدمانه: "يشرب الناسُ الكحولَ غالباً لأنهم لا يشعرون أنهم على ما يرام، ولكنّ الشربَ يجعلهم يشعرون بحالةٍ أسوأَ من ذي قبل، فيشربون المزيد".

أظهر الدكتور كوب وباحثون آخرون أنّ شربَ الكحولِ بكثافةٍ يؤذي قدرةَ القشرةِ الدماغيةِ الأماميةِ على التحكم باللوزة (amygdale) مركزِ المشاعرِ، الأمر الذي يفسر كونَ الكحوليين غالباً ما يعانون من تقلباتٍ بالمزاجِ وحالاتِ هيجان.

متلازمة فيرنكه-كورساكوف

يصاب ما يصل إلى 80 بالمئة من الكحوليين بعوز في التيامين، أو ما يعرف بالفيتامين B1، وسيصاب بعضُ هؤلاء الأشخاصِ باضطراباتٍ دماغيةٍ خطيرةٍ كمتلازمةِ فيرنكه- كورساكوف التي تتجلّى بوجه عام في حدوث إهلاساتٍ وفقدانٍ للذاكرةِ وحالاتِ ذُهان وصعوبةٍ بالمشي، إلا أنها أصبحت أقل شيوعاً من السابق نظراً للجوء عدد أكبر من المرضى الكحوليين إلى التعويضِ عن نقصِ هذا الفيتامين لديهم بتناول المستحضراتِ الحاويةِ عليه (تحت إشراف طبي). تتألفُ متلازمةُ فيرنكه-كورساكوف من متلازمتين مختلفتين؛ حالةٍ عابرةٍ وحادةٍ تُعرف باعتلالِ الدماغِ لفيرنكه وحالةٍ أخرى تستمر طويلاً ومسببةٍ للعجز تُعرف بذُهان كورساكوف.

لمزيدٍ من المعلوماتِ عن هذهِ المتلازمةِ، يمكنكَ قراءةُ مقالنا عن متلازمةِ فيرنكه-كورساكوف.

هل هناك فرقٌ في خطورةِ الشربِ المكثّف للكحولِ على كلٍّ من الرجالِ والنساءِ؟

تُعدّ النساءُ أكثر تعرضاً من الرجال للعديد من العواقبِ الصحيةِ لشرب الكحول. على سبيلِ المثالِ، تُصابُ النساءُ الكحولياتُ بتشمّعِ الكبدِ واعتلالِ العضلةِ القلبيةِ الكحوليِّ واعتلالِ الأعصابِ المحيطيِّ بعد سنواتٍ أقل من الشرب المكثفِ مقارنةً بالكحوليين من الرجال. ولكن الدراساتِ التي قارنت بين أذيّةِ الكحولِ للدماغِ في الرجالِ والنساءِ لم تكن حاسمةً حتى الآن.

وباستخدام التصويرِ الطبقيِّ المحوريِّ المحوسبِ، أظهرت دراستان أنَ كلاً من الرجالِ والنساءِ الكحوليين قد أظهروا انكماشاً أعظمَ بشكلٍ ملحوظٍ في الدماغِ من غيرِ الكحوليين، بالإضافةِ لصعوباتٍ في التعلمِ والذاكرة. لكن الفرقَ كان أنّ النساءَ الكحولياتِ أشَرْن إلى أنهنّ شربْنَ بإفراط لمدةٍ تقاربُ نصفَ المدةِ التي شربَ خلالَها الرجالُ الكحوليون مما يشير إلى أن أدمغةَ النساءِ، كأعضاءٍ أخرى أكثرُ تعرضاً للأذى المُحدَثِ بالكحول من أدمغةِ الرجال.

وبالمقابل لم تُظهر دراساتٌ أخرى نتائجَ أكيدةً كسابقتِها، مما يشير بوضوحٍ إلى أننا ما زلنا بحاجةٍ للمزيدِ من البحثِ في هذا الموضوعِ.

الخبرُ الجيدُ أنّ معظمَ الكحوليين المصابين بخللٍ معرفيٍّ يُبدون بعضَ التحسّنِ على الأقلِّ، في بنيةِ الدماغِ ووظيفتِه خلال سنةٍ من الامتناع عن الشرب، على الرغم من أنّ بعضَهم يحتاجون وقتاً أطولَ بكثيرٍ.

وأظهرت البياناتُ أيضاً أن هنالك فرصةً جيدةً حتى سنِّ الخمسين لتعافي الدماغِ مع الإقلاعِ عن تناولِ الكحولِ، في حينِ تميل التغيراتُ لأن تصبحَ دائمةً بعد هذا السن في حال الاستمرارِ في الشرب.

سيكون للتكنولوجيا المتقدمةِ دورٌ مهمٌّ في تطويرِ العلاجات، ويمكن للأطباءِ استخدامُ تقنياتِ تصويرِ الدماغِ لمراقبة مسارِ ونجاحِ العلاج. وهناك أدويةٌ جديدةٌ واعدةٌ في المراحل الأولى من التطوير، يحاول من خلالها الباحثون تصميمَ علاجاتٍ يمكن أن تمنعَ تأثيراتِ الكحولِ الضارةَ وتحفزَ نموَّ خلايا جديدةٍ في الدماغ لتحُلَّ محلَّ الخلايا المتأذّيةِ بسببِ الكحولِ.

لماذا يحصل الخلط بين تأثير الكحول على الدماغ وبين أعراض الخرَف؟

يقود الإفراطُ المزمنُ في تناولِ الكحولِ إلى تبدّلاتٍ في قدرةِ الدماغِ على التعاملِ مع العواطفِ والقلقِ، وإلى اضطرابِ نظامِ النومِ، مما يعمل على إحداثِ تأثيراتٍ واسعةِ النطاقِ في الجسم. وكثيراً ما باتَ الأطباء يُعطونَ تشخيصاً لمثلِ هذه الحالات باسم "الاضطرابِ العصبيِّ المعرفيِّ المسبَّبِ بالكحولِ" أو "الخرِفِ المتعلّقِ بالكحولِ"؛ إذ تتشابه العديدُ من التأثيراتِ الدماغيةِ والسلوكيةِ الناجمةِ عن الكحولِ مع حالةِ الخرَفِ الدماغيِّ الوعائيِّ (cerebral-vascular dementia) ثاني أشيعِ نوعٍ من أنواعِ الخرفِ، والذي يسبّب انخفاضَ تدفقِ الدمِ إلى الدماغِ ويؤثرُ في التفكيرِ والمحاكمةِ المنطقيةِ أكثرَ مما يؤثرُ في الذاكرةِ بخلاف ما يحصل عند مرضى ألزهايمر، وهذه ناحيةٌ مهمةٌ لأسرةِ المريضِ كي يفهموا أنّ الاعتلالَ البسيطَ في وظيفةِ الذاكرةِ لديه لا علاقةَ له بعدمِ قدرتهِ على الاعتناءِ بنفسهِ أو خروجهِ من المنزلِ أو تركيزه في مهمةٍ معيّنة، لأنّ تفكيرَهُ وإدراكَه هو الذي تأثَّر سلباً بالدرجةِ الأولى، وهذه نتيجةٌ طبيعيةٌ للحالةِ التي يعاني منها بصرفِ النظرِ عن قدرتِه الجيدةِ نسبياً على التذكرِ.

متى نقول إن الشخصَ قد تجاوز الحد ودخل منطقةَ الخطر في استهلاكه للكحول؟

في الوقتِ الذي يؤكدُ فيه الخبراءُ والباحثون في مجال إساءةِ استهلاكِ الكحولِ وإدمانِه على أهميةِ مراعاةِ الفروقِ الفرديةِ والتعاملِ مع كلِّ حالةٍ على حدةٍ فيما يتعلقُ بتأثيراتِ الكحولِ الصحيةِ، إلا أنهم يقترحون أيضاً نوعاً من الدلائلِ الإرشاديةِ العامةِ التي يَحسُن بمن يتناول الكحولَ على أيِّ حالٍ الاقتداءُ بها لتجنبِ ما أمكنه من المخاطرِ. فهم يميّزون بين فئاتٍ ثلاث رئيسةٍ:

- "الاستهلاك المعتدل": مشروبٌ واحدٌ* للنساء ومشروبان* للرجالِ في اليوم على الأكثرِ. بحسبِ بعضِ الدراساتِ فإن الالتزام بهذا الحد فقط يمكنُ أن يساعدَهم في المحافظةِ على وظائفهم المعرفيةِ.

- "الاستهلاكُ ذو الخطورةِ المنخفضةِ" ثلاثةُ مشروباتٍ في اليوم أو سبعةٌ في الأسبوعِ للنساء، وأربعةُ مشروباتٍ في اليوم أو 14 في الأسبوع للرجال على الأكثر. يمكنُ للالتزام بهذه الكميةِ فقط يومياً وأسبوعياً أن يحمِلَ خطورةً منخفضةً للإصابةِ بالمشكلاتِ الصحيةِ قصيرةِ أو طويلةِ الأمدِ المرتبطةِ بالكحولِ.

أما عن السيداتِ الحواملِ والأشخاصِ اليافعين الذين لمّا يبلغوا الـ21 من العمر بعد وأولئك الذين ينوونَ قيادةَ سيارةٍ أو يتناولون أدويةً معيّنةً، فينبغي عليهم الامتناعُ عن تناولِ الكحولِ بحسبِ ما يرى الخبراء.

"الإفراط في الشرب" أو "الاستهلاك ذو الخطورة العالية": أكثرُ من 3 مشروباتٍ يومياً أو 7 أسبوعياً للنساءِ، وأكثرُ من 4 مشروبات يومياً أو 14 أسبوعياً للرجال. إنّ تجاوزَ الشخصُ هذهِ المستوياتِ بالاستهلاكِ على نحوٍ منتظمٍ في حياتِه يحملُ في طيّاتِه خطرَ الإصابةِ بـ: خللٍ معرفيٍّ طويلِ الأمدِ، وفقدانِ الذاكرةِ، والاكتئابِ، وتشمّعِ الكبدِ، وارتفاعِ ضغطِ الدمِ، والسكتاتِ الدماغيةِ، والداءِ السكّريِّ من النمطِ الثاني، وسرطانِ الحلقِ والمريءِ والثديِ والقولونِ، إلى جانبِ زيادةِ حالاتِ الغرقِ والسقوطِ والتأذّي نتيجةَ حوادثِ السياراتِ.

*المشروب Drink:

في الولايات المتحدة، يُقصد بالمشروب القياسي (أي كما ورد في نص المقال آنفاً) هو الكمية من المشروب التي تحتوي على قرابة 14 غرام من الكحول النقي، أي ما يعادل الكمية الموجودة في:

355 مل من البيرة، التي يبلغ تركيز الكحول فيها عادةً 5%.

148 مل من النبيذ، ذي التركيز 12% من الكحول تقريباً.

38.5 مل من الكحوليات المقطّرة (الويسكي مثلاً) والتي يبلغ تركيزها من الكحول قرابة 40%.

يؤكدُ الباحثون في مجالِ إدمانِ وإساءةِ استخدامِ المشروباتِ الكحوليةِ على أهميةِ الدورِ الذي يلعبُهُ الأطباءُ ومزوّدو الرعايةِ الصحيةِ عموماً، إلى جانبِ أفرادِ العائلةِ، في توعيةِ المريضِ وتبصيرِه بمخاطرِ استمرارِهِ في استهلاكِ الكحولِ على نحوٍ يسبّبُ لهُ أضراراً جسديةً ومعرفيةً ونفسيةً طويلةَ الأمدِ، وربما دائمةً، كما يقولون بأنَّ أكبرَ مشكلةٍ تواجهُ المرضى الكحوليين هي الإنكار، فعدمُ اعترافهم بوجودِ مشكلةٍ أهمُّ عقبةٍ في طريقِ شفائهم وحصولهم على الرعايةِ اللازمةِ ليعيشوا حياةً صحيةً متوازنةً من جديد.

ملحوظة في الختام:

الهدفُ من هذا المقالِ الإضاءةُ على جوانبٍ قلّما يتمُ التطرقُ لها في المقالاتِ العربيةِ من ناحيةٍ علميةٍ دقيقةٍ وواقعيةٍ في الوقت نفسهِ، إضافةً للتوعيةِ بالأخطارِ الفعليةِ لتناولِ المشروباتِ الكحوليةِ على الأشخاصِ المعنيّين كما على محيطهم، دونَ مبالغةٍ أو تقليلٍ من أهميةِ الموضوعِ.

نتمنى لكم الفائدة والصحة الدائمة.

مقالات ذات صلة:

هنا

هنا

المصادر:

هنا

هنا

هنا