البيولوجيا والتطوّر > منوعات بيولوجية

الدغدغة... لغزُ الرئيسياتِ الأزليّ!

استمع على ساوندكلاود 🎧

لا تقل لي أنَّك لم يسبق أن دُغدِغت أو دغدَغت! ما إحساسُك في كِلتا الحالتين؟ قد نستمتع بذلك الفعل أو نجده مُسلياً، ولكن إذا كان الأمر كذلك، لماذا يكرهُ معظم الناس وخاصةً البالغين أن يُدغدغوا؟ ولماذا لا نضحك عندما ندغدغ أنفسنا؟

هل تبدو هذه الأسئلة بسيطة؟ حسناً، لو كانت الإجابة عن هذه الأسئلة بالأمر السهل لما كان هذا اللغز قد حيَّر كبار المفكرين، أمثال بيكون وأفلاطون وغاليليو وداروين وغيرهم على مدى ألفي عام وحتى الآن! إذ اقترح سقراط أنَّ الدغدغة تسبّبُ شعوراً مريحاً إلى حدٍّ ما خاصةً عند الأطفال الذين لا يستمتعون بالدغدغة فحسب بل ويطالبون بها أيضاً، ولكنها تصبحُ مؤلمةً إذا تجاوزت ذلك الحد -وربما كان هذا هو السببُ في امتعاضِ البالغين من الدغدغة- إلى درجة أنَّ محاربي العصورِ الوسطى اعتمدوا في بعض الأحيان على الدغدغة المتواصلة وحدَها للبطشِ بأعدائهم. في حين طرح أرسطو السؤال الآتـي: "لم لا يستطيع المرءُ دغدغةَ نفسِه؟" قبل أن نحاولَ الإجابةَ عن هذا التساؤل المحيِّر، دعونا نتعرّف في البداية على مفهومِ الدغدغة بحدِّ ذاتِها.

ما هي الدغدغة في المقامِ الأوَّل؟

في الحقيقة، هناك نوعان من الدغدغة يُسمَّى أحدهما الدغدغة الخفيفة (light tickle) أو (Knismesis) وهو ذاك الإحساسُ الذي تسبِّبُهُ حركةٌ خفيفةٌ على سطحِ الجلد في أيِّ منطقةٍ من الجسم تقريباً، وهو إحساسٌ مزعجٌ يدومُ حتى بعد زوالِ العاملِ المحفز لبضع ثوانٍ في بعض الأحيان مسبباً رغبةً في حك المنطقة المُلامِسة ولا يدعو إلى الضحك على الإطلاق، بينما يُسمَّى النوع الآخر الدغدغة الثقيلة (heavy tickle) أو (gargalesis) وهو إحداثُ ضغطٍ متكرّر أقوى من ذاك المُطبَّق في حال الدغدغة الخفيفةِ في مناطقَ معينةٍ من الجسم حساسة للدغدغة كالإبط والبطن. وفي حين يمكننا أن نحفّزَ النوعَ الأوَّل بأنفسنا، لا يُمكننا تحفيز الثاني مهما حاولنا.

هل تشعرُ جميعُ الحيوانات بالدغدغة أم أنَّها سلوكٌ يقتصر على البشرِ فقط؟

تُلاحَظ الدغدغة الخفيفة عند الثدييات على نحوٍ واسعٍ، ولعلّنا قد رأينا حصاناً ينفضُ أذنه أو يُلّوح بذيله بسبب ملامسةِ ذبابةٍ لهما، بينما يقتصرُ سلوكُ الدغدغةِ الثقيلةِ، على ما يبدو، على الرئيسيّات؛ إذ يبدو أنَّ الاختصاصيين في دراسةِ الرئيسيات يُجمِعون على أنَّ الشمبانزي وربما بعضُ القردةِ الأخرى تُدغدغ بعضها البعض أثناءَ اللّعب مُحدِثةً ما يشبهُ الضحكَ عند الإنسان، وهو صوتُ لهاث لكون جهاز التصويت لديها قادراً على إحداثِ هذا الصوتِ فقط.

لكن مهلاً هل قلنا الرئيسيات فقط؟ في الحقيقة، رصدت دراسةٌ حديثة أُجريت العام 2016 الدغدغة عند الفئران من خلال دراسة القشرةِ الحسية الحركية أثناءَ دغدغةِ الفئران، فلاحظوا وجودَ خلايا عصبيّة تستجيبُ بشدَّةٍ للدغدغة، كما وجدوا ردّاتِ فعلٍ دماغية أثناء اللعب مشابهة لتلك التي تثيرها الدغدغة. وفي الفيديو التالي ما يحدثُ عند دغدغة الفئران

هل يشبهُ الضحك الذي تثيرُه الدغدغة ضَحِكَنا عند مشاهدةِ فيلمٍ كوميدي؟

في الواقع، لا تؤدّي الدغدغة إلى إحداثِ الحالةِ الداخليّةِ نفسِها من الاستمتاع التي تُحدِثُها الكوميديا، ولتوضيح ذلك أكثر فلنفكّر بالبكاء عند تقطيعِ البصل، إنَّه لا يشبه البكاءَ في جنازة على الإطلاق من حيثُ الحالة التي يكونُ بها الدماغ في كلٍّ من هاتين الحالتين، والأمرُ ذاتُه ينطبق على سلوكِ الدغدغة.

وحول سؤال لماذا تُدغدَغ بعض المناطق أكثر من غيرها، فهناك فرضيةٌ تقول إنَّ المناطقَ الأكثر استجابة للدغدغة هي تلك التي تكون أكثرَ عرضةً للإصابة أثناء المُنازلة بالأيدي. وحساسية هذه المناطق للدغدغة تمنحُ الأفرادَ ميزةً تكيُّفيةً لحمايتِها، ولكنَّ ما يضعِفُ هذه الفرضية هو أنَّ الأصابعَ والأيدي هيَ الأخرى معرَّضة بشدة للإصابة أثناء النِّزال ولكنَّها تُصنَّف من بين أقلّ المناطق القابلةِ للدغدغة.

والآن نأتي إلى مجموعة أخرى من الأسئلة عنوانها: هل ستفعل الدغدغةُ فعلَها في كلِّ الظروف؟ وأوَّل هذه الأسئلة: هل تستلزم إثارة الضحك إثرَ الدغدغة أن يكون الشخص في مزاجٍ جيّد؟

يتّفقُ فرانسيس بيكون وتشارلز داروِن على أنَّ الضحكَ يستلزمُ كونَ الشخص في حالة ذهنية جيّدة، لكنهما يختلفان على الضحكِ الذي تُسبّبهُ الدغدغة، ففي حين يرى دارون أنَّه يستلزم أن يكونَ الشخص في مزاج جيد، يقول بيكون أنَّه ليس بإمكانِ الشخصِ أن يُمسِكَ نفسَه عن الضحكِ بسببِ الدغدغةِ حتّى وإن كان مكتئباً. ماذا عنك أنت صديقي القارئ؟ هل تُمكن دغدغتُك في كِلتا الحالتين؟

السؤال التالي: هل الألفةُ الاجتماعية شرطٌ لإثارةٍ الضحك؟

يرى دارون أنَّ الدغدغة يجب أن تترافقَ مع جوٍّ مريح اجتماعياً، فلو دغدغ شخصٌ غريبٌ طفلاً، فإنَّ الطفل سيصرخ خائفاً، وفي السياق نفسَه يرى آرثر كويستلر أنَّ الضحكَ بسببِ الدغدغة لا يحدُثُ إلّا إذا عُدَّ "هجوماً" مرحاً غير مؤذٍ يهدف إلى التسلية.

والآن نعودُ إلى ما كُنّا قد بدأنا به: لمَ لا يُمكننا دغدغةَ أنفسِنا؟

كما ذكرنا سابقاً، فسلوكُ الدغدغةِ ما زال موضوعاً جدلياً وقد أُجريَتِ الكثيرُ من الدراسات لمعرفة أسرارِه، وفيما يلي نستعرضُ بعضَ الاستنتاجات التي توَصَّل إليها الباحثون في هذا الموضوع...

عنصرُ المباغتة:

إن شعورَ الشخصِ بالدغدغةِ يكونُ أقلَّ إذا كان يعلم مسبقاً أنَّ شخصاً ما سيُقدِم على فعل ذلك، وأكثرَ إن لم يكن يعلم؛ أما عندما يدغدغ نفسَه فإنهُ بالكادِ يشعر، لماذا؟ يقودنا ذلك إلى تفسيرٍ على المستوى العصبيِّ مفادُه أنَّه عندما يعطي الدماغ الأمرَ بالدغدغة، فإنّه يثبِّطُ مستقبلاتِ الدغدغة، وفي دراسةٍ اعتمدت على التصوير الوظيفي بالرنين المغناطيسي fMRI، وجدَ الباحثون اختلافاً في المناطقِ من القشرةِ الحسيّة الحركيّة المُستجيبةِ للدغدغة التي يُحدثها الإنسان لنفسِه وتلكَ التي يُحدثُها غيرُه له، ولكنَّ ذلك قد لا يُعطينا جواباً شافياً طالما أنَّ الدراسةَ اعتمدت على الدغدغة الخفيفة لا الثقيلة (لأن التصوير بالرنين المغناطيسيّ يتطلّبُ ثباتَ الجسمِ، وهو ما لا يتحقّقُ بالدغدغة الثقيلة). إذاً بطريقةٍ أو بأخرى، يُمكن القولَ أنَّ عنصرَ المباغتةِ هنا هو أحدُ الأسبابِ في جعْلنا نضحكُ أو لا!

سلوكٌ تشاركيٌّ:

الدغدغة سلوكٌ تشاركيّ (interpersonal)، أي لكي تحدثَ الدغدغة لا بدَّ من وجودِ شخصٍ آخر يقومُ بذلك. من هنا ننطلقُ إلى افتراضٍ مُهمٍّ: طالما أنَّ الدغدغة سلوكٌ تشاركيٌّ، فالإنسان يضحك فقط عندما يعتقدُ أنَّ شخصاً آخر يُدغدغه، ولن يفعلَ ذلك إذا كان يعلم أنَّ ما يُدغدغه هو آلة. للتحقّقِ من صحة ذلك، أجرى العلماء اختباراً عرَّضوا فيه المشاركين إلى الدغدغةِ مرةً بواسطة إنسانٍ ومرةً بواسطة آلة، وكانت النتيجة أنَّ المشاركين قد ضحكوا بالقدر نفسه في كلا الحالتين.

استجابةٌ لا إرادية:

إن لم يكنِ الضحكُ الناتجُ عن الدغدغة كالضحك استجابًة لفكاهةٍ ما، وإن لم يكن ردة فعلٍ متأصلة على سلوك تشاركيٍّ بين شخصين، فما هو إذاً؟ هنا ننتقل إلى تفسيرٍ بيولوجيٍّ أكثرَ منهُ نفسيّ. أحدُ الاحتمالاتِ هو أن تكونَ الدغدغةُ الثقيلةُ سلوكاً شبيهاً بالمنعكسِ، وهذا يقودنا إلى السؤال الذي مازلنا بصددِ إيجاد إجابةٍ له: "لماذا لا نستطيعُ دغدغةَ أنفسنا؟" فطالما أنَّه يُمكننا إحداث منعكس الرَّضفة (منعكس نفضِ الركبة) بأنفسِنا بالنقرِ على ركبتنا، إذاً يجب أن نكونَ قادرين على زجِّ أنفسِنا في نوبةٍ من الضحِك! ولكن ليس هذا ما يحدث! فـ "منعكس الدغدغة" شبيهٌ إلى حدٍّ ما بمنعكسِ الإجفال، والعامل المشترك بينهما من جديد هو عنصر المُباغتة!

حاولنا في هذا المقال الإجابةَ عن أبرزِ الأسئلةِ المتعلِّقةِ بسلوكِ الدغدغة، وإن لم تكن هناك إجابةٌ شافية 100%، ولكن لا يُمكننا إلّا أن نُثنيَ على جهودِ العلماء في هذا المجال آملين أن تأتينا أبحاثٌ جديدة بإجاباتٍ أوفى وأكثر دقة. وحتى ذلك الحين استمتعْ بدغدغةِ من حولك ففي ذلك تقويةٌ للروابطِ الاجتماعيّة كما يقترحُ بعض العلماء.

المصادر:

هنا

هنا

هنا