الطب > علوم عصبية وطب نفسي

هل تخاطر بفقدان شخصيتك لإنقاذ جسدك؟ الجراحة الفصية Lobotomy

قد يسعى الكثير من الكُتّاب وصُنَّاع السينما إلى إبهارِ المتابعينَ بأفكارٍ مثيرةٍ وغامضة لا تخلو من المبالغة والخيال. Shutter Island الكتابُ والفيلمُ المثيران للاهتمام مثالٌ على ذلك، ويتناولان فكرةَ استئصال أجزاءٍ من الدماغ أو ما يُعرَف بالجراحة الفصية lobotomy. فهل علينا أن نُبقي ما أثارَ إعجابَنا ودهشتَنا في هذا الكتاب حيّزَ الخيال العلمي المُتقَن؟ أم تراه حقيقةً علمية؟

تُعرَّف الجراحةُ الفصيةُ أنَّها تداخلٌ جراحيٌّ عصبيٌّ يحدث فيه إيذاءُ الاتصالاتِ العصبيةِ الموجودة في مقدمة الفص الجبهي*. وعند التمعن في هذا التعريف سنجد أنَّه يشمَلُ تحديداً العملياتِ المُجراةَ على الفصِّ الجبهي دون أجزاءِ الدماغِ الأخرى وهذا يعود إلى دور الفصِّ الجبهي في التحكم بالسلوك وتبدلات الشخصية من جهة، ولكون الدافع الرئيسي لإجراء مثل هذا العمل الجراحي قد كان في بادئ الأمر تدبيرُ الاضطراباتِ النفسيةِ كالفُصام والاكتئاب والاضطراب ثنائي القطب من جهة أخرى.

وهذا ما سيدفعنا في الحقيقة إلى العودة قليلاً إلى تاريخ تطور الجراحة الفصية:

ذُكِرت أولى محاولاتِ استئصال أجزاءٍ من القشر الدماغيِّ في القرن التاسع عشر، إذ كان الأطباءُ يرون فيه وسيلةً لتخفيف بعض التظاهراتِ النفسية كالإهلاسات السمعية وغيرها من الأعراض الفُصامية، مع ملاحظةِ تفاوتٍ في النتائج تراوحت بين التحسنِ واختلاطات قد تكون مميتة.

يُعَدُّ العالِمُ في مجال العلوم العصبية الدكتور Antonio Moniz أولَ من أدخلَ الجراحةَ الفصية حيّزَ التطبيق عام 1935، وقد نالَ إثر ذلك جائزةَ نوبل، علماً أنَّ كثيراً من هذه الجراحاتِ انتهى بتأثيراتٍ سيئةٍ على المدى البعيد. وعلى الرغم من اختلافِ وجهات النظر بين أهميةِ هذه العملية الجراحية من جهة، وبين خطورة تأثيراتِها الجانبية أو بعيدةِ المدى من جهة أخرى، فقد استمرت هذه العملياتُ مدةً من الزمن.

كيف تُجرى الجراحة الفصية؟

تضمنت العملياتُ الجراحيةُ الأولى إجراءَ ثقبٍ في الجمجمة يليه حقن مادةِ الايتانول بهدف تخريبِ الألياف العصبية التي تصل الفصَّ الجبهي مع غيره من البنى الدماغية. ثم إدخال أداةٍ جراحيةٍ تُماثل عروةً سلكيةً وبدورانها تقتطع جزءاً من الدماغ، أما لاحقاً فقد تمادى بعض الأطباء بطرقٍ مبالَغ فيها للغاية شمَلت الدخولَ إلى الفصِّ الجبهي من خلال عينِ المريض لعزلِ الفص الجبهي من كل نصف كرة مخية مسببين ضرراً إضافياً للأجزاء الدماغية المجاورة للفص.

أُجريت العديدُ من الجراحات الجبهيةِ حول العالم التي لم يتعافَ فيها المرضى من مرضهم، بل ازدادَ وضعُهم سوءاً وفقدوا شخصياتِهم وتحولوا إلى عالةٍ على عائلاتهم تتطلبُ العنايةَ الدائمة، وبعد تدخُّلِ المؤسسات المعنية بالصحة العقلية بدأ انتشارُ تلكَ الجراحات يقلّ تدريجياً بَدءاً من منتصف القرن الماضي، وفي يومنا هذا يعدُّ اللجوءُ إليها نادراً جداً، وفي حال اللجوء إليها بعد فشل الآلياتِ العلاجيةِ الأخرى جميعها فتُجرى بحرفية وبأقلِّ غزوٍ ممكن.

لقد كان الاستطبابُ الرئيسيُّ لمثل هذا العمل الجراحي هو -كما سبق وأشرنا- الاضطراباتِ النفسية، ولكن مع تطور الكثير من الأدويةِ المضادة للاكتئاب والذُّهان لم يعد استئصالُ أجزاءٍ من القشر الدماغي مع ما يخلفه من عواقبَ وإعاقاتٍ عصبيةٍ إجراءً طبياً مُبرراً. أما في حال عدم استجابة المريض للعلاج الدوائي، فيمكن اللجوءُ إلى جلسات التخليج الكهربائي (علاجٌ يعتمد على تطبيق تياراتٍ كهربائية تولد نُوباً اختلاجيةً قصيرة المدة). وفي نهاية المطاف عند التعنيد على جميع التدابير السابقة فإنَّ قرارَ التداخل الجراحيّ قد يُؤخذ بالحسبان.

هل توجد استطبابات أخرى للجراحة الفصية؟

في الواقع يُعَدُّ الصرعُ المُعنِّد على المعالجةِ الدوائية الدافعَ الأهمَّ لإجراء الجراحةِ الفصيةِ في أيامنا هذه. وتوجد معاييرُ تحدِّد كونَ المريض مُرشَّحاً جيداً للتداخل الجراحي وهي:

1- فشل السيطرة على النُوَب الاختلاجية رَغم استخدام نوعين من أدوية الخط الأول، وواحدٍ من أدوية الخط الثاني. شريطةَ تطبيق هذه الأدوية بجرعاتٍ ومدةٍ زمنية كافيتين.

2- عموماً يوجد ميلٌ أكبرُ لاتخاذ قرارٍ باكرٍ بالتداخلِ الجراحي، وذلك لكونِ النُوَب الاختلاجيةِ المتكررة سبباً للكثير من العقابيل الجسدية والنفسية والاجتماعية.

أشيعُ نمطٍ للجراحةِ الفصية في سياقِ الصرعِ هو استئصاُل جزءٍ من الفص الصدغي، ويليه من حيث الشيوعِ استئصالُ أجزاء من الفص الجبهي (اختيار نوع العمل الجراحي يعتمد على المنطقة المتوقع كونها البؤرةَ المولدةَ للانفراغات الصرعية).

يُمكن في بعض الحالات أن يُستأصل كاملُ نصفِ الكرة الدماغية، وعلى الرغم من أنَّ مثل تلك التداخلاتِ تبدو جائرةً، إلا أنَّه يُجرى حالياً استئصالٌ وظيفيٌّ أكثرَ من كونه تشريحياً، أي أنَّه يعتمد على اقتطاع السبل التي تصلُ نصفَ كرةٍ دماغيةٍ مع ما تبقى من البنى المجاورة، وبذلك لا يبقى للانفراغات الشاذة أيُّ سبيل للانتشار في الدماغ.

على المرضى الخاضعين لمثل تلك العمليات الجراحية أن يكونوا على دراية تامة بما يُمكن أن ينتجَ عنها فجزءٌ منهم قد يتحرر بصورة كاملة من النُوَب الاختلاجية، في حين أنَّ جزءاً سيء الحظ لن يشهدَ أيَّ تحسُّن، أما القسم الأكبر فيقع بين الفئتين السابقتين، إذ يلحظُ تحسناً وتناقصاً في تواتر النُوَب الاختلاجية خصوصاً خلال السنة الأولى التالية للجراحة، بينما يحتاج بقية المرضى إلى الاستمرار في تناول أدويتهم ولو بصورة أقل.

*الفص الجبهي: تتألف كل نصف كرة دماغية من عدة أجزاء تعرف باسم الفصوص وأبرزها الفص الجبهي، والجداري، والصدغي، والقفوي.

المصادر:

هنا

هنا