الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة

نفايات السلاح الكيميائي

استخدم الجنودُ الألمان في ليلة من صيف العام 1917 نوعاً جديداً من القذائف في قصفهم بالقرب من Ypres ببلجيكا، أصدرت هذه القذائفُ أثناء سقوطها صوتاً غريباً مع تبخُّر مكوناتِها وانهمار سائلٍ زيتي على جنود الحلفاء. انبعثت من السائل رائحةٌ شبيهةٌ برائحة نبات الخردل، ومع أنَّ تأثيرَه بدا محدوداً في البداية، إلَّا أنَّه مع تسرُّب السائل عبر ملابس الجنود بدأت معاناتهم من حروق البشرة والبثور في الأعضاء التناسلية وتحت الإبط مع صعوبة شديدة في التنفُّس وتهيُّج العينين حتى إنَّ بعضَهم أصيب بالعمى.

احتوت هذه القذائفُ كبريتَ الخردل الذي تسبب بنحو 90 ألف ضحية خلال الحرب العالمية الأولى فقط، وعلى الرغم من حظر استخدام الأسلحة الكيميائية في اتفاقية جنيف 1925 إلا أنَّ الجيوشَ استمرت بتصنيعه واستخدامه خلال الحرب العالمية الثانية.

وضعت الحرب أوزارها عام 1945 ليجدَ العالمُ نفسَه في مواجهة مشكلة التخلُّص من مخزونه الضخم من السلاح الكيميائي، وكان الحلُّ حينها إلقاءَ هذا المخزون في عرض البحر. لم تكن البيئة في ذلك الحين موضعَ اهتمام، وبالتالي لم يكن مهماً في كثير من الأحيان الاحتفاظُ بسجلّات تُحدِّدُ مواقعَ السلاح الذي تم التخلص منه أو كمياتِه. أما الآن فيسابق العلماءُ الزمنَ لتحديد المواقع التي أُلقيَ فيها السلاح الكيميائي قبل تفاقم الخطر الناتج عن تآكل الحاوياتِ وزيادة أعماق الصيد والتنقيب عن الثروات في قاع البحر.

حادثة تعيد السلاح الكيميائي إلى الأذهان:

عادت مُخلَّفاتُ السلاح الكيميائي إلى دائرة الاهتمام في العام 1997 حين وجد طاقِمُ سفينة في شباكه كتلةً غريبةً تزن نحو 5 كغ بالقرب من الساحل البولندي أثناء رحلة صيد، فألقوها في حاوية قمامة بالميناء. ظهرت في اليوم التالي حروقٌ على الطاقِم وحُجِرَ أربع منهم في المستشفى، واتضح فيما بعد أنَّ الكتلةَ الغامضةَ التي تسبَّبت في ذلك هي قطعةٌ من كبريت الخردل تعود إلى الحرب العالمية الثانية وقد حافظت على خواصها بسبب درجات الحرارة المنخفضة في قاع البحر.

أثارت هذه الكتلةُ اهتمامَ الباحثين لمعرفة سبب استقرارها لعقود تحت الماء ما دفع فريقاً من العلماء البولنديين لاستقصاء بعض مواقع إلقاء السلاح الكيميائي في بحر البلطيق وظهرت في عينات هذه المواقع آثارٌ ضئيلةٌ من كبريت الخردل ونواتجِ انحلاله إلا أنَّ هذه الآثارَ كانت أقلَّ بكثير مما كان متوقعاً، ما دفع الباحثين للتساؤل: كيف لأطنانٍ عديدةٍ من هذه المُخلَّفات ألَّا تتركَ أثراً؟

بالعودة إلى الكتلة التي اكتُشفِت بالقرب من الساحل البولندي وتحليل مكوناتها تبين أنَّ العلماءَ العسكريين المُختصين بإنتاج كبريت الخردل أضافوا زيتَ الزرنيخ وموادَّ أخرى تجعلُها أكثرَ سماكةً واستقراراً وأقلَّ تجمداً في ساحة المعركة. وكانت الخطوةُ التالية البحثَ عن آثار المواد المُصاحبة لكبريت الخردل ونواتج تفاعله مع الماء وأظهرتِ النتيجةُ وجودَ هذه المواد في نصف العينات المُختبَرة.

بنتيجة تفاعل الإضافات التي تحويها قذائفُ كبريت الخردل مع مياه البحر تشكَّلت طبقاتٌ من موادَّ كيميائيةٍ غلَّفت الكتلةَ بأكملها وحمتها. يبدو ذلك آمناً في الأعماق الكبيرة حيث لا توجد تياراتٌ مائيةٌ قويةٌ أو أعمال صيد، إلا أنَّ التخلُّصَ من النفايات الكيميائية لم يكن دوماً في المياه العميقة.

هل الإنسان بخطر؟ وما العمل الآن؟

لا يرى فريقٌ من علماء البيئة خطراً حقيقياً في هذه النفايات بدليل أنَّ كثافةَ الأسماك لم تتأثر، فيما يرى فريقٌ آخرُ أنَّ آلافَ الأطنان من الأسلحة الكيميائية المُلقاة في المحيطات تُشكِّل قنبلةً مُعرضةً للانفجار في أي لحظة. ولا تزال هذه الآراء موضعَ سجال؛ إذ تبرز صعوبةُ الخطوة التالية في قياس مدى التأثير على البيئة البحرية والإنسان، وتكمنُ المفارقة في أنَّ العديدَ من الدراسات تناولت آثارَ التعرُّض لموادَّ سامةٍ كالزرنيخ في حين أنَّ كبريتَ الخردل ونواتجَ انحلاله لا تزال مجهولة، ويعود السببُ الرئيسُ إلى أنَّ هذه المواد أسلحةٌ ممنوعةٌ من التداول يصعب الحصول على عيناتٍ منها.

تُركِّز بعضُ الأبحاث حالياً على قياس تأثُّر بعض الأحياء البحرية عند تعرُّضها لهذه المواد. وتوصَّل العلماء في أحد أبحاثهم إلى أنَّ بعضَ الكائنات البحرية مثل نجوم البحر والمرجان لا تُظهِر تأثراً بهذه المواد. إلا أنَّ ذلك لا يعني أنَّ الإنسانَ في مأمن، ويجبُ الاستمرارُ في البحث خاصةً عندما يتعلَّق الأمر بالنشاط البشري بالقرب من مواقع النفايات الكيميائية كأعمال الصيد والتنقيب عن الثروات.

لا يزال القرارُ غيرَ واضحٍ بشأن مواقع إلقاء مُخلَّفات السلاح الكيميائي؛ إذ يُنادي البعضُ بإزالة بقاياها رَغم صعوبة العملية وتكلفتِها المادية الكبيرة، فيما يرى البعضُ الآخر أنَّ الأسهلَ تحديدُ مناطق إلقاء المخلفات ومنع الصيد فيها.

المصادر:

هنا