الفيزياء والفلك > فيزياء

أهم الإنجازات في مجال فيزياء الجسيمات عام 2016

تمكّن علماء فيزياء الجسيمات حول العالم من إحرازِ خطواتٍ مُثيرةٍ هذا العام، نحو إدراك أفضل للكون، على المستويات الكبيرة والصغيرة. بدايةً تمكّن مرصد LIGO من اكتشاف أمواج الجاذبية (الثقالية)، الّتي تنبأ بها ألبرت أينشتاين، عام 1916 في نظريته "النسبية العامة". أعطى هذا الاكتشاف للعلماء الأمل بالاقتراب خطوةً نحو اكتشافاتٍ كبيرةٍ مقبلة، مثل تجارب مصادم الهدرونات الكبير (LHC)، وتجارب الكشف عن النوترينو تحت الأرض.

إنّ سبرَ فيزياء الجسيماتِ اليوم هو مسعى دوليّ حقيقيّ، إذ تتضافرُ موارد وخبرات الشراكات الدولية في توظيفِ وتطويرِ مرافق عالمية فريدة من نوعها للكشف عن الجُسيمات ودراستها.

ويُمكننا تلخيصُ الأهداف الرئيسية الّتي تسعى فيزياء الجسيمات إليها في خمسة أهدافٍ متشابكة التحقيق: اكتشاف بوزون هيغز، النيوترونات، المادة السوداء، التسارع الكوني، والمفاجآت الغير متوقعة. وقد تمكّن العلماء أثناء سعيهم لهذه الأهداف من تحقيق تقّدم هائل في عام 2016، مهّدَ الطريق لِمُستقبلٍ رائع.

*استخدام بوزون هيغز كأداةٍ جديدةٍ للاكتشاف

عام 2016، أنتجَ مصادمُ الهدرونات الكبير الكثير من التصُادمات ما دون الذريَة، لدرجة أنّ مجموع هذه التصادمات يُقارب مجموع كل التصادمات الّتي حصلت في السنوات السابقة. وبُمعّدل التصاُدم الحالي، يُنتجُ المصادِمُ الهادروني الكبير بوزونَ هيغزٍ واحد في الثانية الواحدة. في حين سيتطّلب الكاشفان ATLAS و CMS وقتًا طويلًا لهضم هذا الطوفان من البيانات والنتائج من أجل رصد أي سلوكٍ غير متوقع لبوزون هيغز.

وفي أغسطس، تعاون الكاشفان ATLAS و CMS على دراسةِ بيانات التصادمات الأعلى طاقة في المصادم LHC، من أجل للتأكد من اكتشاف بوزون هيغز والتحقق من ملائمتهِ لتوقعاتِ نظرية النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات. فإذا تبيّن وجود أي شذوذ عن النموذج القياسي، فمن الممكن أن يكون هناك فيزياء جديدة تتعدى تلك النظرية.

يطمحُ المُصادم بإنتاجِ عددٍ كبيرٍ من الجسيمات، يفوقُ ضعفَ عدد الجسيمات الّتي أنتجها في المرحلة السابقة بنفسِ وتيرة العمل. ويتعاونُ العلماء من أجلِ تطوير المُصادم الهادروني، وقد حققوا بالفعل تقدماً كبيراً هذا العام، في تطويرِ المزيد من المغانط فائقة الموصليّة، لتوظيفها في تسريع الجُسيمات بداخل المصادم.

*متابعة التحقيق في كتلة جُسيم النيوترينو Neutrinos *

ينتشرُ هذا الجُسيم حولنا بغزارةٍ، ويُعدُّ نَفاذًا بشكلٍ لا يُصدق، إذ يمرُ خلال أجسامنا ما يُقارب 100 تريليون جُسيم نوترينو كل ثانية. ولهذا الجُسيم ثلاثة أنماط أو"نكهات" flavors، هي: النّترينو الإلكترونيّ والنّترينو الميونيّ ونترينو التّاو. يمتازُ هذا الجُسيم بأنهُ "يهتزُّ" أو يتبدّل بين الأنواعِ الثّلاثةِ خلالَ تجواله في الفضاء. وطالما أنَّها تهتزّ، يعتقدُ العُلماء أنْها تمتلك كتلة.

في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي، تمكنت بعض التجارب في اليابان وكندا من الحصول على دليل يقضي بأنّ لهذه الجسيمات الغريبة كتلة، وأنها تتبدّل من نمط لآخر أثناء سفرها في الفضاء.

أما في عام 2016، واصلت العديد من التجارب دراسة جُسيمات النيوترينو الشبحية. وتهدفُ العديد من التجارب حول العالم حالياً، إلى حلّ الأسئلة المتبقية حول جسيمات النوترينو. فهناك تجربة تدرس جسيمات النوترينو أثناء سفرها بين منطقتي توكاي وكاميوكا في اليابان، وتجربةٌ أخرى مماثلة تدرُس هذه الجُسيمات أثناء سفرها بين ولاية الينوي و ولاية مينيسوتا في الولايات المتحدة. تسعى هذه التجارب إلى تحديد كتلة النوترينو ومعرفة ما إذا كانت هناك أي اختلافات بين تبدُلات النوترينو وتبدُلات النوترينو المُضاد Antineutrinos.

في يوليو 2016، أظهرت بيانات التجربة T2K في اليابان، فرقًا مُحتملاً بين المعدل الذي يتحولُ فيه نوترينو الميون إلى نوترينو الإلكترون، والمعدّل الّذي يتحولُ فيه نوترينو الميون المُضاد إلى نوترينو الإلكترون المُضاد.

تلمحُ بيانات T2K إلى مجموعة من خصائص النوترينو التي من شأنها أنّ تُعطي تجربةَ نوفا Nova في الولايات المتحدة فرصةً للتوصّلِ إلى اكتشافٍ جديدٍ حول النوترينو في السنوات القليلة المقبلة. وفي الصين، يجري بناء المرصد جيانغمن تحت الأرض (Jiangmen Underground Neutrino Observatory)، والّذي يهدف إلى التحقق من كتلة النوترينو، في محاولة لتحديد النوترينو الأخف وزنا.

أمّا على المدى الطويل، يطمحُ علماء فيزياء الجسيمات إلى التوصّل لإجاباتٍ من خلال بناء مرفقٍ طويل يمتدُ على مساحة شاسعة، من أجل إرسال شعاع من النوترينو بين ولاية إلينوي و ولاية ساوث داكوتا. وهناك، ستدرس تجربة دولية تحت الأرض هذه الجسيمات.

*فيزياء المادة المظلمة*

يعتقدُ العُلماء بأنّ أكثر من ربعِ كتلة وطاقة الكون الّذي نراه، يتألفُ من مادةٍ غير مرئية تُسمى المادة المظلمة. ولكن طبيعة المادة المظلمة لا تزالُ لغزاً، ولا يُعرَف عنها سوى تأثُرها بالجاذبية.

يدرُس العُلماء تفاعلات الجسيمات المعروفة مع مجموعةٍ من المرشحين المُحتملين للمادة المظلمة. أمّا التجارب الّتي تتضمن كواشفَ عالية الحساسية مثل Xenon، أو LUX، حيث تقع على عمق ميل تحت ولاية داكوتا، فإنّها تبحثُ عن جسيمات المادة المظلمة التي من الممكن أن تتسرب عبر الأرض. هذا العام 2016، أتمّت LUX بحثًا يُعدُّ الأكثرَ دقةً في العالم لإيجادِ أدلةً مباشرةً على وجودِ المادة المظلمة.

إضافةً إلى ما سبق، يُواصلُ تلسكوب الفضاء فيرمي وغيره من المرافق العلمية، بتزويدِ العلماء بالبياناتِ الّتي قد تُساهمُ ولو بشكلٍ غير مباشر في إيجادِ المادة المُظلمة. أما في المُستقبل، فهناك مجموعة من التجارب التي تهدفُ إلى الكشف عن طبيعة المادة المظلمة اعتمادًا على تقنياتٍ حديثة أكثر حساسية من التقنيات السابقة، مثل تجارب LZ، وSuperCDMS-SNOLAB وADMX-G2.

فهم التسارع الكوني*

يتمددُ كونُنا بمعدلٍ مُتسارع هذا لغزٌ آخر من ألغاز فيزياء الجسيمات، يسعى العلماء لفهم طبيعة الطاقة المُظلمة الّتي تتفوق على قوة جاذبية الكون وتدفعه للتوسّع باستمرار.

تهدف دراسات المسح الكونية على مقاييس كبيرة، إلى معرفة تاريخ توسّع الكون منذ بدايته، وبالتالي تحسين فهمنا للطاقة المظلمة. هذا العام تحديداً استخدم علماء من Baryon Oscillation Spectroscopic Survey بيانات مسحٍ لما يُقارب من مليون ونصف المليون من المجرات والكويزرات للحصول على مقاييس أدق لأبعاد الكون ومعدّل توسّع بُنيته، مما يُبيّن لنا موقعنا الحالي في التسارع الكوني.

يسعى علماء الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع شركات خاصة ومؤسسات دوليّة، إلى الدخول في عصر جديد، تزداد فيه معرفتنا للكون بدقة أكبر، ونفهم فيه الطاقة المظلمة بشكل أكبر.

من ناحيةٍ أُخرى، ما تزالُ جهود المجتمع العلميّ جاريةً لتطويرِ تجربة CMB-S4 الّتي تهدف لدراسة الخلفيّة الميكروية للكون بدقة أكبر، للتحققِ من معدّل التسارع الكوني في الحقبة المبكرة والمعروفة باسم التضخم الكوني inflation. ويأمل العلماء بأن تساهم هذه التجربة في تطوير الدراسات المتعلقة بالطاقة المظلمة، وفي فهم خصائص النوترينو.

استكشاف المجهول

في كثيرٍ من الأحيان، يُفاجأ العُلماء أثناء إجراء تجربةِ ما، بتلميحٍ جديدٍ وغير متوقع حول أمرٍ آخر قد لا يكون له علاقة مباشرة بالتجربة بعينها، مما يضطر العُلماء إلى تصميم تكنولوجيا جديدة. هذا بالضبط ما فعله العُلماء في المصادم الهادروني الكبير LHC، بين عامي 2015 و2016.

ففي أواخر عام 2015، وجدَ علماء المُصادم تلميحًا غير متوقع في بيانات إحدى التجارُب، قد يدلُّ على وجود جسيمات جديدة. وفي عام 2016 درسَ الباحثون التفسيراتِ الممكنةِ لهذه البيانات الغير متوقعة، وكيفية تأثيرها على النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، ولكنهم في شهر أغسطس الماضي، وبعدَ أنّ جمعوا بيانات كافية، اعتبروا هذا التلميح مجرّد تقلبٍ إحصائي، غير ذي أهمية.

وبعد اكتشاف جسيمات رباعية وخماسية الكواركات، يتوقعُ الباحثون وجودَ جسيمات رباعية الكواركات، تتألفُ بشكلٍ كاملٍ من كواركات النمط b، ويسعون لإيجادها قريبًا في مصادم الهادرونات الكبير LHC.

ويواصل العلماء دراسةَ تفككِ الجسيمات النادرة في تجارب مثل تجربة LHCb في المصادم الهادروني الكبير LHC، وتجربة Belle II في اليابان وتجربتي Muon g-2 و Muon to Electron في مختبرات فيرمي الوطنية في الولايات المتحدة الأمريكية.

الاستثمار في مستقبل الاكتشاف العلميّ

يتمُ بناء المرافق العالمية المستخدمة في تجاربِ فيزياء الجسيمات على أسسٍ تكنولوجيةٍ متقدمة. ويؤدي تطويرُ هذه المرافق باستمرار إلى زيادةِ فرصِ التوصل إلى اكتشافاتٍ جديدةٍ.

في عام 2016، واصلَ العلماء والمهندسون التقدم في تطوير تكنولوجيا مسرّعات الجُسيمات من أجل إعداد أجّهزة الجيل القادم وربما أيضًا مرافق مستقبلية جديدة.

وقد تمكن العلماء بالفعل هذا العام من زيادةِ كفاءةَ مسرّعات الجسيمات ممّا سيؤدي في المستقبل إلى توفيرِ قسمٍ من تكاليفِ بناء وتشغيل الآلات.

وفي فبراير، وظّف باحثون في مختبر بيركلي، تقنيةٍ خاصةٍ اعتماداً على بلازما الليزر، قد تُمكننا في المستقبل من الحصول على مُصادمات أقصرَ بآلاف المرات من المُصادمات التقليدية.

كانت هذه أخرُ النتاجات العلمية لمجتمع فيزياء الجسيمات في 2016، ويبدو أن هناك الكثير من الاكتشافات المثيرة بانتظارنا والتي من شأنها تطوير فهمنا لكوننا المليء بالأسرار.

المصدر: هنا