التعليم واللغات > اللغويات

دورةٌ غامضةٌ تتحكمُ في انتقاءِ الكلماتِ وتداولها

يقيّد كلٌّ من القاعدة النحوية والسياق الدلالي اختيارَ كلماتٍ معيّنةٍ في اللغةِ المكتوبة. ويتأثرُ السياقُ الدلاليُّ بدوره إلى درجةٍ كبيرةٍ بالثقافةِ السائدةِ والبيئةِ والخلفيةِ التاريخية، التي تؤثرُ كذلك في الأسلوبِ والحدّ الأخلاقيّ للرسالةِ التي تُعنى اللغةُ بإيصالِها. ومع مرورِ الوقتِ، تترك ُ هذه العواملُ البيئيّةُ بصمةً في إحصاءاتِ استخدامِ اللغة؛ ففي حين أنّ بعضَ الكلماتِ تصبحُ أكثرَ شيوعاً، يقلُّ تداولُ كلماتٍ أخرى. من هنا يمكنُ تمييزَ أنماطِ استخدامِ اللغةِ على مرّ الزمن، وذلك بالارتكازِ على إحصاءاتٍ مستخرجةٍ من أكثرَ من أربعةِ ملايين كتابٍ في فترةٍ زمنيةٍ تتجاوزُ ثلاثمئةِ عام.

وجديرٌ بالذكرِ أنّ هذهِ الأنماطَ لم تكن معروفةً من قبل، ولكنها ظهرت وبقيت حتى حين نتيجةً للتغيراتِ في الإطارِ الثقافيّ الذي يؤثّرُ على المواضيعِ المطروحة.

وبعد دراسةٍ وتحليلٍ مكثّفٍ لعصورِ الأدبِ المختلفةِ، وجدَ باحثون توجهاً غريبًا في أنماطِ اللغةِ متمثلاً في بعضِ الكلماتِ التي نستخدمُها، إذ توصلوا إلى أنها تصبحُ خارجَ دائرةِ الاستخدامِ وتتراجعُ نسبةُ شيوعها في نطاقِ دورةٍ زمنيةٍ تُقدّرُ بحوالي 14 سنة .

كما قامَ العلماءُ بالبحثِ في مخطوطاتٍ قديمةٍ لتتبعٍ نماذجَ نصوصٍ تعودُ إلى سنة 1700 مستعينين بقاعدةِ ببيانات Google Ngram Viewer التي تتيحُ فرصةَ البحثِ ومعرفةَ الميولِ والتوجهاتِ والأشياءِ الشائعةِ على مرِّ الزمن. وباستخدامِ هذه الأداةِ التي ترصدُ استخدامَ اللغةِ في أكثرِ من 4.5 مليون كتابٍ رقميّ حددوا 5630 من الأسماء الشائعة.

يقولُ فريقُ الباحثين أن هذا الاكتشافَ لم يقتصر على تبيانِ الكلماتِ المستخدمةِ والطريقةِ التي يكتبُ بها الكتابُ وعوامُّ الناسِ في تلك الفترة، بل أوضحَ أيضاً المواضيعَ التي يميلون إلى مناقشتِها والحديثِ عنها. وعلى افتراضِ أنّ هذه الأنماطَ تعكسُ بعضَ الحركياتِ الثقافية، فهم يعتقدون أنه من الصعبِ جداً التصورُ الدقيقُ لظاهرةٍ عشوائيةٍ كهذه، لكنهم أيضاً يأملون أن يكونَ ما توصلوا إليه حتى الآن معيناً للحصولِ على فهمٍ أفضلَ للأسبابِ التي تجعلنا نبدّلُ كلماتنا، ونغيرُ مواضيعَ نقاشاتنا، ويرون أن هذا الاكتشافَ قد يُسهمُ أيضاً في معرفةِ السببِ الذي يجعلُ الكُتّابَ يشعرون بالضجرِ من الكتابةِ عن الشيء عينِه ويميلون لاختيارِ شيءٍ جديد.

وبالرغمِ من أنّ الباحثين وجدوا أنّ دورةَ الأربعةِ عشرة سنةً قد بدت أطولَ بواقعِ سنةٍ أو اثنتين مؤخرًا، إلا أنّ الكلماتِ كانت تدخلُ مجالَ الاستخدامِ الواسعِ النطاقِ بصورةٍ متسقةٍ مثيرةٍ للدهشة، بل وأكثرَ وضوحًا عندما يتعلقُ الأمرُ بكلماتٍ معينة.

والغريبُ في الأمرِ أنّ معدلَ استعمالِ الكلمات ذاتِ الصلةِ يرتفعُ وينخفضُ في الوقت ذاته، فعلى سبيل المثال، كلمات مثل King" "، "Queen"، و "Prince" هي في أوجِ استخدامها في اللغةِ الانجليزية اليوم، ما يعززُ احتماليةَ أن يقلَّ استعمالُها قريبا. وعلى النقيضِ من ذلك، من المرجحِ عودة استخدام عدد ٍ من المصطلحات العلمية مثل " Astronomer"، " Mathematician "، و " Eclipse " بعد أن كادت تختفي.

ووفقًا للتحليلِ، فإنّ الظاهرةَ عينَها تحدثُ مع الأفعالِ أيضًا، ولكن ليسَ بالقدرِ نفسِه كما هي الحالُ مع الأسماء. وجدَ الأكاديميون أيضًا أنماطًا مماثلةً في الفرنسيةِ والألمانيةِ والإيطاليةِ والروسيةِ والإسبانية، ما يعني أنها ليست حكراً على اللغةِ الإنجليزية. وما تشيرُ إليه الدراسةُ هو أنّ الكلماتِ تحصلُ على ذيوعٍ وشهرة، فيستخدمُها الناسُ أكثر فأكثر، و قبل الوصولِ إلى نقطةٍ نستطيعُ تسميتها بنقطةِ التشبّعِ أو ذروةِ الذيوع، يبدأ البحثُ عن بدائلَ ومرادفات.

على أن الباحثين غيرُ متأكدين من الأسبابِ التي تدفع لهذا، لكنهم يتوقعون أن يكونَ هذا السلوكُ مرتبطاً بتغيراتٍ في البيئةِ الثقافيةِ، التي بدورها تحركُ التركيزَ الموضوعيّ للكتاباتِ المعروضةِ في قاعدةِ بيانات جوجل، ولا يستبعدون العشوائياتِ الخارجةَ عن القاعدةِ من حينٍ لآخر. فقد نجدُ مثلاً كلمة مثل "Apple" مكتوبةً ومنتشرةً بصورةٍ أوسعَ من غيرها قديمًا وحديثًا، وذلك لأنّ شعبيتَها المرتفعةَ تجعلُها من الكلماتِ ذاتِ الاستخدامِ طويلِ الأجل.

من الواضحِ أنّ اللغةَ في تطورٍ مستمر، ولكن مع وجودِ مصدرٍ مثل Ngram فهناك فرصةٌ غيرَ مسبوقةٍ للعلماءِ للبحثِ في استخدامِ الكلمات واتجاهاتِ اللغةِ عبر القرون، على الأقل بقدرِ ما للكلمةِ من مراجعَ مكتوبةٍ منتشرة.

يمكنك أن تجربَ ذلك بنفسك وتبحثَ عن أي كلمةٍ كانت أكثرَ شهرةٍ في زمن سابق، وإذا ما كنت مولعا بكلمةٍ معينة، فإننا ننصحكَ باستخدامها والاستفادةِ القصوى منها، لأنها قد لا تكونُ متاحةً لك مستقبلاً.

المصدر:

هنا