الهندسة والآليات > اسألوا مهندسي الباحثون السوريون

لماذا لا تعكسُ قطعةٌ من الورقِ الأبيضِ الضوءَ بينما تقومُ المرآةُ بذلك ؟

هل تساءلتَ يوماً لماذا ترى نفسَكَ أمامَ المرآةِ لكن لا تراها أمامَ حائطٍ أبيض ؟ لم تراها في المياهِ الراكدةِ بينما لا تراها في الثلوج ؟!! مع أنّ جميعَ تلكَ الأشياءِ تعكسُ الضوءَ بكاملِ طيفهِ المرئي، فما الفرق إذاً ؟

كلّ شيء تقريباً يعكسُ الضوءَ لكنّ الطريقةَ التي ينعكسُ بها الضوءُ هي التي تُحدِثُ الفارق.

كان المحاضرُ في قسمِ علومِ وهندسةِ الموادّ في جامعةِ ماساتشوسيتس جيمس ليفينغستون يملكُ سيارةً حمراء، عندما كانَ يعملُ في شركةِ جنرال إلكتريك . وفي إحدى الليالي، وعندما كانَ يسيرُ في موقفٍ للسيارات في الشركةِ مُتجِهَاً نحو سيارتِه، فوجِئَ بأنّ سيارتَهُ قد تغيّرُ لونَها أو على الأقلِ هذا ما اعتقدَه. لكن في الواقع، تمّ تبديلُ إنارةِ الشوارعِ في موقفِ السياراتِ إلى مصابيحَ زئبقية، والتي كما فسّرها ليفينغستون، لا تحتوي على اللونِ الأحمرِ في ضوئِها. وبالتالي ظهرتْ سيارتُه باللونِ الأسود، مع لمسةٍ من اللونِ الأزرق. إلّا أّنّ لونَ تلكَ السيارةِ ضِمنَ شوارعِ المدينةِ الأخرى و مع الإضاءةِ التقليدية، قد عادَ إلى اللونِ الأحمر.

إنّ تغيُّرَ لونِ سيارةِ ليفنجستون يسلّطُ الضوءَ على حقيقةِ أنّ مصادرَ الضوءِ كالشمسِ و خيوطَ التنغستن، ينبعثُ منها طيف ٌ أو مجموعةٌ من الألوان. وعندما يسقطُ طيفُ الضوءِ هذا على سطحٍ ما، يتمّ امتصاصُ بعضِ الألوانِ عن طريقِ جزيئاتِه أو ذراته. أمّا الألوانُ المتبقيةُ فتتغلغلُ ضمنَ بضعةِ أطوالٍ مَوّجيّةٍ، وتنعكسُ بشكلٍ جزئي.

وتتكونُ الأسطحُ البيضاء من الجزيئاتِ أو الذراتِ التي لا تمتصُ أيّ من الألوانِ المرئيةِ للضوء. حيث تُميّزُ هذا المزيجَ المنعكسَ الذي لم يمتصُهُ ذلك السطحُ باللونِ الأبيضِ. ولكن ألا تعكسُ المرآةُ كلّ ألوانِ الطّيفِ أيضاً؟ لماذا إذاً لا يظهرُ سطحُ المرآةِ أبيضَ اللونِ بدلاً من أنْ تنعكسِ الصورُ في أعيننا؟

يُفسّرُ ليفينغستون الأمرَ كالتالي : الأمرُ يعتمدُ بمبدئِهِ على تغلغلِ الضوءِ. المرآةُ هي في جوهرِها لوحةٌ من الزجاجِ المَطليّ بطبقةٍ رقيقةٍ من المعدن، كالفضة مثلاً. فعلى المستوى الذريّ، تكونُ المعادنُ عبارةً عن شبكةٍ كريستاليةٍ من الذراتِ تتمتعُ إلكتروناتُها الخارجيةُ بِحريّةٍ كبيرةٍ في الحركة. تلك الإلكتروناتُ المتحركةُ هي مصدرُ التوصيلِ الكهربائي في المعادنِ، وعند محاولةِ الضوءِ اختراقَ المعدنِ، فإنّها تهتزُ بطريقةٍ مُعينةٍ لإنشاءِ مجالٍ كهربائي مُعارِضٍ، و إلغاءِ الحقلِ الكهربائي للضوءِ، وبالتالي تمنعُ اختراقَ أو تغلغلَ أيًّ من ألوانِه للطبقاتِ الذريّة. عندما يُحدِثُ ذلك، ينعكسُ الضوءُ بشكلٍ فعّالٍ من سطحِ المعدنِ.

وبالإضافةِ إلى ذلك تلعبُ نعومةُ الزجاجِ والطّلاءِ المعدنيّ دوراً كبيراً في انعكاسِ الضوءِ من على سطحِ المرآة. ونتيجةً لذلك، ترتدُّ أشعةُ الضوءِ كأنّها كراتٌ من التنسِ، محافظةً دائماً على زاويةِ انعكاسٍ عن سطحِ المرآة، تُطابِقُ في قيمَتِها زاويةَ الإسقاطِ. فأشعةُ الضوءِ المنعكسةِ من أذنِ وأنفِ وحاجبِ شخصٍ ما، ستنعكسُ بنفسِ زاويةِ سطحِ المرآةِ محافظةً على نفسِ التوجهِ النسبي، وبالتالي الحفاظ ُعلى الصورةِ التي تُدرِكُها أعيُننا.

يمكنُ للأسطحِ البيضاءِ أنْ تعكسَ قدراً كبيراً من الضوء، لكنّ عدمَ وجودِ تلكَ الإلكترونات المتحركةِ المُعارِضَةِ الحقلَ الكهربائيّ للضوء، ستسمحُ الأسطحُ البيضاءُ للضوءِ من التغلغلِ بعدة أطوالٍ مَوّجيّة . وهذا سيعرّضُها لانعكاساتٍ متعددةٍ من الحبيباتِ الكريستالية وغيرها من الشذوذات داخلَ بِنيةِ السطح. كما يمكنُ أن تنعكسَ بعضُ الأضواءِ المُتعددةِ الانعكاساتِ عن سطحِ المادةِ، ولكنْ ليسَ بالقدرِ نفسه، الذي تنعكسُ به عن المرآة.

ويقولُ ليفينغستون:" أنّ خشونةَ السطحِ تساهمُ "بالانعكاسِ المنتشرِ" “diffuse reflection” ، ممّا يسببُ ارتدادَ أشعةِ الضوءِ من أجزاءٍ مختلفةٍ من الصورةِ المُحتملةِ و بعدةِ زوايا. الانعكاساتُ المتعددةُ، والمنتشرةُ تُبعثِرُ الأشعةَ المنعكسة، فتضيعُ كلّ معلوماتِ الصورة. فالطلاءُ الأبيضُ أو قطعةُ الورقِ أمثلةٌ كلاسيكيةٌ عن تشتتِ الضوء. كما هو الحال أيضاً في الغيومِ و الثلوجِ إلا أنّ الغيومَ و الثلوجَ عبارةٌ عن نماذجَ أو هياكلَ مُضّطربةً أو غيرَ نظاميةٍ، تحتوي على الكثير من الهواء، والذي يسببُ انعكاسَ الضوءِ عن الأسطحِ الداخلية والخارجية، و تتبعثرِ الأشعةِ المُكوّنةِ للصورة.

ويضيفُ ليفينغستون أنّه من الملفتِ للنظرِ كيف أنّ تجمّعاً من المياهِ الساكنةِ قد يكونُ بمثابةِ مرآة. ومع ذلك، عندما يتبلورُ تجمّع المياهِ هذا ليتحوّلَ إلى رقائقَ من الثلجِ متواضعة بشكلٍ غيرِ منتظم، فإن انعكاساتِ أشعةِ الضوءِ المتعددة والمنتشرةِ ستعكسُ الضوءَ؛ لنرى سطحاً أبيضَ اللون.

لذلك عزيزي القارئ، عندما تقفُ أمامَ المرآةِ لتُصفّف شعركَ في المرةِ القادمةِ لا تنسى أن تشكرُ الإلكترونات الحرّة الموجودة فيها، فهي التي تعكسُ صورتك لترى نفسك، و لتبدو وسيماً :) .

المصدر: هنا