الرياضيات > الرياضيات

الرياضيات.. سلاح الشرطة السري

إذا سُئلتم عن تطبيقات الرّياضيات في الحياة العمليّة، فأغلب الظن أن محاربة الجريمة لن تكون أول إجابة تخطر على بالكم. أمَّا إن سألنا أي شخصٍ من المارَّةِ في الشّارعِ عن رأيه في الرّياضيات، فغالبًا ستكون الإجابة: "الرّياضياتُ مملة"، أو "الرّياضياتُ جامدة"، أو "الرّياضياتُ ليست ذاتَ صلةٍ بالحياةِ العمليّة"، أو حتى "الرّياضياتُ مُخيفة". كل تلك الأفكار المسبقة هي ما يجعل الرياضيات تبدو بعيدةً جدًا عن عالم التّحقيقاتِ والجرائمِ، لكنها في الحقيقةِ تندمج بسهولة مع الطرائق الّتي تستخدمها الشّرطة للتّحقيقِ في الجرائمِ، مثل التعامل مع البصمات وإعادة بناء الحوادث وأرقام لوحات السيارات وتتبُّع أثر السُّموم.

التحديات التي تواجه الشرطة:

تواجه الشرطة العديد من التحديات لدى التّحقيق في جريمةٍ ما، فعليهم أن يكتشفوا ما حدث في مسرح الجريمة أو الحادث، وأن يفسِّروا البيانات المُحيّرةِ التي يجب تخزينها والتّنقيب فيها للحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات، كذلك فإن من مصلحة العدالة أن تبقى الأدلة الفيزيائية والإلكترونية آمنة أيضًا.

يمكن للرياضيات أن تساعد على كلِّ ما سبقَ ذكرُه، إذ يمكن تخزين البيانات وتفسيرها باستخدام المويجات "wavelets"  وعلم الاحتمالات وعلم الإحصاء، ويمكن تناقلها باستخدام الأعدادِ الأوليّة وعلم التشفير. لكن يجب على الشرطة أولًا أن تجد المعلوماتِ المخفية في البيانات وتبحث في الأدلة المتروكةِ في مسرح الجريمة وتعمل على نحو تراجعي لتستنتج الأحداث ومن تسبب بها. وغالبًا ما يكون الدليل نتيجة عملية فيزيائية مفهومة جيدًا؛ كآثار انزلاق إطار السيارة عندما تكون مسرعة على سبيل المثال، ولكي نجد المسبب الحقيقي للدليل -سرعة السيارة- علينا أن نطبق الرياضيات المستخدمةَ لوصف العملية الفيزيائية هذه على نحو تراجعي، ويسمى ذلك إيجادَ الحل لما يُعرف بـ "المشكلة العكسية"، ونستعرض معكم اليوم ثلاثة أمثلة لكيفية إنجاز ذلك..

يظهر الشكل الأيمن صورةً لبصمةٍ غير واضحة المعالم، وبتطبيق العمليات الضبابية على نحو عكسي نحصل على صورة أوضح للبصمة.

كيف نتوقّع ما الّذي حدث في مسرح الجريمة من خلال الأدلّة؟

تعد المشكلة العكسية مسألةَ مباحث رياضية، ومن الأمثلة عليها محاولة معرفة شكل جسمٍ ما عن طريق ملاحظة ظلِّه، فهل هو أمرٌ ممكن؟ وما الأخطاءُ الّتي يحتمل أن نرتكبها، وكم يلزمنا من المعلومات الإضافية؟

كي نجد حلًّا لمشكلةٍ عكسيّةٍ ما، نحتاج نموذجًا فيزيائيًّا يصف الحدث المعني –أي علينا أن نفهم النتائج التي تودي إليها الأحداث- ومن ثم نستطيع بوجود المؤثّراتِ استخدامَ الرّياضيات التي ستعطينا المسببات المحتملة، كأن نقرر ما الأشكال التي يمكن أن يكون ظلُّها شبيهًا بما ترونه في الشكل الآتي.

نستخدم الرّياضيات في هذه الحالات لإرساء القيود المفروضة على هذا النّموذجِ ودقةِ الإجابة، إذ يمكن لمسبباتٍ مختلفة (أجسام ذات أشكال مختلفة) أن تُعطي تأثيراتٍ متماثلةً جدًا (ظلالًا متشابهة).

ومن الأمثلة الأخرى عن المشكلات العكسية الاستشعار عن بعد للأراضي والبحار بواسطة صور الأقمار الصناعية، واستخدام الأقمار الصناعية لتشخيص السرطان وتفسير قراءات أجهزة رصد الزلازل للتنقيب عن النفط.

آلية محاربة الجرائم:

دعونا ندخل أحدَ الأيام الاعتيادية لإحدى وحدات الشرطة، ونرى كيف تساعد الرياضيات على محاربة الجريمة.

لنفترض أننا نحقق في حادث سير، وعلينا أن نجيب عن السؤال الآتي: هل كانت السيارة مسرعة؟

الأدلة المتوفرة هي آثار الضرر الذي أحدثه الاصطدام في مركبة وتقارير الشهود وآثار انزلاق إطارات السيارة. وكما في التلفاز، من الممكنِ إعادة بناء الحادث بواسطة فحص آثار الانزلاق؛ فعلامات الانزلاق نتجت من سرعة السّيارة وغيرها من العوامل مثل قوة المكابح والاحتكاك مع الطريق وتأثير السيارات المجاورة.

يمكننا استخدام هذه الميكانيكيات لنَمْذَجةِ هذا الحدث رياضيًّا باستخدام s طول آثار الانزلاق، وu سرعة السّيارة، وg التّسارع بالنسبة للجاذبية الأرضية، وμ معامل الاحتكاك مضروبًا بفعالية المكابح. ويقوم النّموذج بربط المسبِّب (سرعة السيارة) بالأثر (بُعد آثار الانزلاق).

ويمكننا إعادة صياغتها بطريقة تتيح لنا تحديد سرعة السيارة إذا كان بعد الآثار معلومًا، وذلك غالبًا باستخدام الحد الأدنى:

لكن، ولأجل هذه المسألة يجب أن نملك تقديرًا صحيحًا لقيمة μ التي تعبر عن الاحتكاكَ بفعالية المكابح!

أين أصبح السُّمَّ؟

مثالٌ آخر على القضايا التي تواجه الشرطة هو تسرُّب الملوثات على نحو غير قانوني إلى الشبكة المائية، فهل باستطاعة الشرطة تحديد مكان حدوث التسرب بعد تنبُّه الشرطة إلى وجود الملوثات لاحقًا؟

كي نجد المكان الّذي الذي تسربت منه الملوثات علينا أن نُنَمذِجَ كيفيّةِ انسياب المياه والمُلوِّثات في الشّبكة، فقد تمدَّدت المُلوِّثاتُ واختلطت بجريان المياه عبرَ الأنابيبِ، وتفاعلت مع المادة المكونة لجدران الأنابيب، فضلًا عن كونها تفسَّخت بسبب تفاعلات كيميائيةٍ أخرى. كلُّ هذا يجعلُ تركيز المادة المُلوِّثةِ C يتناقص، ويمكن توصيف هذا التّناقص بقيمةٍ سالبةٍ –kC. فما هي الأشياء التي تعتمد عليها القيمة –kC؟

من الواضح أن لدينا عامل الزمن؛ فتغيُّرِ تركيز المُلوِّثاتِ يتغيَّرُ مع الوقت، وسنسمّي هذا التّغيير C_t. لكنَّ المُلوِّثات تتفاعل مع الوسط الذي توجد فيه أيضًا؛ أي الأنابيب، ويتأثّرُ هذا التّفاعل بحجمِ الماء وتدفقه. وبفرض Q لتدفق الماء وC_x لتغيُّراتِ تراكيز المُلوِّثات المتأثِّرة بالوسط المحيط، نحصل على نموذجٍ رياضيٍّ للخسارة الكلية في تركيز الملوثات.

وفي كل تقاطع أيضًا، نجد أن الحلول المختلفة التي تتدفق من أنبوبين مختلفين ستندمج بعضها مع بعض.

وعند دمج الحل الآتي من أنبوبين عند التقاطع نحصل على تركيز جديدٍ للملوثات.

ولإعادة بناء ما حدث في شبكة المياه، نحتاج إيجاد مُعدّلاتِ التّدفُّق في الأنابيب، ويجب قياس التّركيز الحالي للملوثات في التقاطعات، ومن ثم يمكن تخمين تركيز الملوثات الابتدائي في كل تقاطع وجعل النموذج يتقد مع الزمن، وأخيرًا يُقارن مع ما وُجد في الشبكة الحقيقية. وباستخدام ما يُسمى التّحسين غير الخطيّ، يمكننا تعديل التّراكيز البدائية حتى تتوافق التّراكيز المُتنبَأ بها بواسطة النّموذج مع قياساتنا الفعلية.

يمكن حل النموذج لمسبِّبٍ محتملٍ وحيدٍ من أجلِ شبكةِ أنابيب بسيطةٍ، لنحدد بدقةٍ مكان تسرب السموم إلى الشبكة. لكن يمكننا أن نعثر على عدة احتمالاتٍ ممكنةٍ لكيفية تلويث الشبكات الأكثرَ تعقيدًا، حيث يُحتمل أن توجد ممرات حلقية.

الممرّات الحلقيّة في الشّبكة تعني أن بإمكاننا الإتيان بمسبّبات محتملة متعددة للملوثات.

االقبض على سيارة هاربة:

من أشهر القضايا التي تتلقاها وحدات الشرطة هي السطو على البنوك، وعلى الرغم من هروب المجرم في السيارة، إلَّا أن الشرطة تبدأ المطاردة، وقد تتمكن من التقاط صورةٍ لرقم لوحة السيارة؛ وهو خبرٌ جيد، لكنَّ الخبر السيء أن الصورة كانت ضبابيةً وغير واضحة.

الصورة الأصلية والصورة الضبابية

لكن لا داعي للقلق، فالرياضيات قادرةٌ على إنقاذ الموقف مجددًا، إذ يمكننا أن نُنَمذج عمليّة الضبابيّة رياضيًّا لنزيل بعض الضبابية ونحصل على صورةٍ أوضح للوحة. ويتضمن النموذج تابعًا ضبابيًّا g يطبق على الصورة الأصلية ليعطينا صورة تُعرف بالصورة الضبابية.

تكون المعادلة التي تصف عملية جعل الصورة ضبابية كالآتي:

وهنا يصف المتحول x البيكسلات المتعددة في الصورة، ويملك كل بيكسل رقمًا خاصًا به ويسمى "قيمة البيكسل"، ويعطينا هذا الرقم معلوماتٍ عن اللون ومقدار السطوع.

يعطينا التابع (f(x قيمة البيكسل x قبل أن تطبق عليه الضبابية، أما (h(x فيعطينا قيمته بعد تطبيق الضبابية. وإن قمنا بتطبيق المعادلة على نحو عكسي، سنحصل على قيمة البيكسل (f(x قبل أن يكون ضبابيًّا من خلال القيمة الضّبابيّة (f(x، لكن كما هو الحال في الأمثلة السابقة، علينا فهم النموذج جيدًا، إذ لن يكون بمقدورنا إزالة الضبابية إلا في حال امتلاك تابع الضبابية g.

الصورة بعد تطبيق الضبابية العكسية

يبدو فعلًا أن الحيل التي تلجأ إليها الشرطة في الأفلام لإلغاء ضبابية أرقام اللوحات وإعادة بناء الحوادث من خلال آثار الانزلاق ليست صعبة المنالِ، فمحاربة الجريمة في التلفزيون أو في الواقع لا تتطلب إلى سلاحًا سريًّا بسيطًا؛ الرياضيات.

المصدر:

هنا