الرياضيات > الرياضيات

الثّقوب السّوداء: رؤية رياضيّة لظاهرة فلكيّة.

كيف تمَّ التّنبؤُ بالثُّقوبِ السَّوداءِ للمرَّةِ الأوُّلى؟

نَشَرَ أينشتاين نظريّةَ النِّسبيّةِ العامةِ في أواخرِ عام 1915، وبعدَ ذلك ببضعةِ أشهرٌ، وجدَ "Schwarzschild" الحلَّ الأوَّلَ لمعادلةِ أينشتاين. وبكلمةِ "الحلِّ" نعني أنَّه وجدَ بعضَ القِيَمِ للمتحوّلاتِ الّتي تصفُ مُنحني الزَّمكانِ وتوزُّعِ المادةِ الّتي تِحقِقُ معادلاتِ أينشتاين. ويصف هذا الحلُّ مجالَ الجاذبيّةِ لجسمٍ كرويٍّ مُتناظرٍ ويُدعى الثُّقبُ الأسود.

في ذلكَ الوقتِ، لم يكون مفهوماً أنَّ ذلك الحلّ يتوافقُ مع الثُّقبِ الأسودِ. بل في الحقيقةِ، في الثَّلاثيناتِ، ازدرت أعظمُ العقولِ في ذلكَ الوقتِ (بما فيهم أينشتاين) فِكرَةَ الثُّقبِ الأسودِ لأنَّها احتوت خصوصيّةَ أنَّه مكانٌ يصبحُ الانحناءُ فيه كبيرٌ جداً بحيثُ تنهارُ الجاذبيّةُ العامةُ. استغرقَ الأمرُ حوالي 50 سنةً ليفهموا حقاً ما هو الثُّقبُ الأسودُ، وقد تمَّ ذلك فقط في السِّتيناتِ.

تؤكدُ نظريّةُ النِّسبيَّةُ العامةُ أنَّ الأجسامَ الضَّخمةَ تتسبَّبُ في انحناءِ الزَّمكانِ، فكيف تؤثِّرُ الثُّقوبُ السَّوداءُ على منحني الزَّمكان؟

تُقاسُ قوةُ حقلِ الجاذبيَّةِ من حيثُ الانحناءِ. ولأنَّ الثُّقوبَ السَّوداءَ هائلةٌ جداً وصغيرةٌ جداً، فجاذبيَّتها قويَّةٌ جداً وتَخْلُقُ مُنْحَنٍ كبيرٍ جداً منَ الزَّمكانِ.

إحدى الطُّرُقِ لِوَصْفِ هذا المنحني هي طريقةٌ تُسمّى "نصفُ قَطْرِ Schwarzschild":

 

حيث تُعَبِّرُ عن ثابت نيوتن للجاذبيّة، وM عن الكُتلةِ و c عَن سُرعةِ الضّوءِ.

الأجسام الضّخمة تشوه الزمكان.

يُعَبِّرُ "نصفُ قَطرِ Schwarzschild" عنِ المقدارِ الّذي يجبُ أن يكونَ عليه حجمُ جسمٍ ما وكتلتُه لكي يصبحَ ثُقباً أسوداً. على سبيلِ المثالِ، إذا تمكنَّا من تركيزِ كلِّ كتلةِ الأرضِ في كرةٍ يَبْلغُ نصفُ قطرِها بضعةَ سنتيمتراتٍ، يكونُ الجسمُ النَّاتجُ ثُقباً أسوداً.

نحنُ نعلمُ بالطَّبعِ أنَّ ذلكَ مُستَحيلُ الحدوثِ لأنَّ قوىً أخرى في الطّبيعةِ تمنعُه من ذلك، ولكنَّه ممكنُ الحدوثِ في ظروفٍ أُخرى، فمثلاً عندما يَنْضُبُ الوَقودُ النَّوويُّ من النُّجومِ العُملاقةِ، تَبْرُدُ هذه النُّجومُ وتنهارُ، وفي مرحلةٍ مُعيَّنةٍ تصبحُ صغيرةً بما يكفي لتتسعَ جميعُ كتلَتِها في نصفِ قطرِ Schwarzschild، وبذلك تُشكِّلُ ثقوباً سوداءَ.

فمثلاً يبلغ نصفُ قطرِ Schwarzschild بالنَّسبةِ للشَّمسِ بضعةَ كيلومتراتٍ. فإذا تمكنَّا من تركيزِ كلِّ كتلةِ الشَّمسِ في كُرةٍ يبلغُ نِصفُ قطرِها بضعةَ كيلومتراتٍ، يكونُ الجسمُ النَّاتجُ ثُقباً أسوداً.

هل يمكننا وصفُ الثّقوبِ السَّوداءِ ببساطةٍ ببضعةِ سِماتٍ، كالكتلةِ والحجمِ؟

أحدُ الأسباب الّتي تجعلُ الثُّقوبَ السَّوداءَ مهمةً من أجلِ فَهمِنا للنَّظريَّةِ العامةِ هو أنَّها بسيطةٌ، لأنَّها تتكوَّنُ من مُعظَمِ الوحدَاتِ البنائيَّةِ الأساسيَّةِ للنَّظريَّةِ وهُما الزَّمنُ والوقتُ لوحدِهِما. هُمَا بسيطانٍ جداً ولذلِكَ يمكنُنَا فهمَهما.

وهذا على عكسِ الأجسامِ التَّجاذُبيّةِ الأُخرى كالنّجومِ. فمن أجلِ تَفَهُّمِ النَّجمِ، وبأخذِ النِّسبيَّةِ العامة بعينِ الاعتبارِ، عليكَ أيضاً أن تفهم الفيزياءَ النَّوويَّةَ لحسابِ التَّفاعلاتِ النَّوويّةِ، وأن تَفْهَمَ فيزياءَ البلاسما لتفهمَ انتقالَ الحرارةِ ضمنَ النَّجمِ. فالأمرِ يتعقدُ جداً وهذا يقودُنا إلى دراسةِ هذه الأجسامُ ضمنَ بعضِ التّقديراتِ التَّقريبيّةِ.

مُحاكاة لمظهر الثّقب الأسود.

لا حاجةَ لنا بفعلِ ذلك مع الثُّقوبِ السّوداءِ لأنَّها مكوّنةٌ فقط من الزّمانِ والمكانِ، فنحن نمتلكُ فهماً كاملاً حولها ضمنَ نظريّتنا لوحدها. لا نحتاجُ لأيِّ فيزياء. وتُتَرجم هذه البساطةُ إلى واقعِ أنَّهُ يمكن وصفَها باستخدامِ عددٍ قليلٍ جداً من المعاملات.

في حالةِ الفراغِ، إذا كانَ الثُّقبُ الأسودُ ساكِناً، فيجبُ أن يكونَ دائريَّاًّ وهناك مُعاملٌ وحيدٌ يصفُ هذا الثُّقبُ وهو كتلتُه. ولكنَّ الأجسام في الطّبيعةِ (كالنُّجوم) تدورُ، إذاً يجبُ على الثُّقوبِ السَّوداءِ الموجودةِ في الطَّبيعةِ أن تدورَ بعضَ الشَّيء. تمَّ إيجادُ "حلِّ Schwarzschild" بعد أن نشر آينشتاين نظريتَه ببضعةِ أشهرٍ فقط، ولكن تطلَّب الأمرُ خمسين عاماً لإيجادِ الحلِّ العامِ الَّذي يتضمَّنُ الدَّورانَ ويُمكِنَهُ وصفُ الثُّقوبِ السَّوداءِ الّتي يمكن أن نجدِها في الطّبيعةِ.

أمَّا حلُّ kerr  فيتمُّ وصفُهُ كامِلاً باستخدامِ مُعامِلَينِ فقط، وهُمَا الكتلةُ  ودورانُ الثُّقبِ الأسودِ. يمكنكَ بهذَين المُعامِلَينِ أن توصِّفَ جميعَ الثُّقوبِ السَّوداءِ في الطَّبيعةِ، ولا حاجةَ لإيجادِ أيَّةِ تقديراتٍ تقريبيّةٍ لفهمِ هذه الأجسام. لهذا السَّببِ تلكَ الأجسامُ مهمةٌ جداً.

بطريقةٍ ما، لا تبدو الثُّقوبُ السَّوداءُ مُختلفةً جداً عن الجسيماتِ الأوليّةِ في الفيزياءِ الجُزيئيَّةِ لأنَّنا فقط بحاجةٍ لنُحدِّدَ بعضَ المعاملاتِ لنَصِفَها. نفسُ الشَّيء مع الثُّقوبِ السَّوداءِ، فهي الجُسيماتُ الأوليَّةُ للنّسبيَّةِ العامةِ.

هل تُعَدُّ الثُّقوبُ السَّوداءُ أكبرَ لُغزٍ في النِّسبيَّةِ العامةِ؟

نعم، تُعَدُّ الثُّقوبُ السَّوداءُ تَنَبُؤٌ للنِّسبيَّةِ العامةِ  ونعلمُ من عدةِ أمثلةٍ في الطَّبيعةِ أينَ نعتقدُ أنَّها ستحصل، ولكنَّنا لم نعثُر عليها بعد. لِذا لا يزالُ السُّؤالُ مفتوحاً فيما إذا كانت موجودةً أم لا، وفيما إن كانت تملكُ الخصائصَ الّتي تنبَأت بها النِّسبيَّةُ العامة. وهذا مهمٌ لأنَّ مُعظمَ اختباراتِ النِّسبيَّةِ العامةِ تتضمَّنُ حالاتٍ تكون فيها الجاذبيّةُ ضعيفةً أو ضعيفةً نسبياًّ. فمثلاً اختبرنا انحناءَ الضَّوءِ، ودقَّةَ أَوجِ(1) كوكبِ عطارد.

سيكونُ اكتشافُ الثُّقوب السَّوداءَ مهماً لأنَّ الإشاراتِ الّتي قد نتلقّاها منها، وهي تلك الموجاتُ التّجاذبيّةُ، والّتي تولَد في مناطقَ حيث تكون الجاذبيّةُ فيها قويةً جداً. سيسمحُ هذا لنا باختبارِ "نظامِ المجالِ القويِّ للنِّسبيَّةِ العامةِ"، وهو أمرٌ لم نتمكنُ من القيام بهِ إلى الآن. هذا سيضعُ اختباراتٍ قويَّةٍ جداً على النِّسبيَّةِ العامةِ، لذا من الهامِّ جداً مراقبةُ الثُّقوبِ السَّوداءَ، حيث ستُعطينا تلكَ المراقَباتُ نظرةً جديدةً تماماً إلى النِّسبيَّةِ العامةِ.

(1) أوج الكوكب : هو أبعد نقطة له في دورانه حول النجم وبالتّالي أوج  كوكب عُطارد هو أبعد نقطة له في دورانه حول الشّمس.

المصدر:

هنا